|
عرار: عمان –عرار:وسط حضور كثيف من المثقفين والمهتمين أقيم مساء الأربعاء الماضي حفل توقيع للمجموعة الشعرية الجديدة التي تحمل عنوان "أسئلة الوقت" للشاعر هشام عودة في رابطة الكتاب الأردنيين. الشاعر لؤي أحمد، الذي قدم الحفل وأداره، وصف المجموعة الشعرية وتجربة صاحبها بالمختلفتين عن السائد، فالمجموعة تتحدث في قصائدها عن بغداد، الحلم العربي الجميل، كما وصفها هشام عودة، الذي أقام في بغداد ما يزيد على عشرين عاما، وجاءت بعض قصائده أشبه ما تكون بقصائد السيرة، وفي الحفل قرأ الشاعر هشام عودة مجموعة من قصائد المجموعة بصوته الشجي، فقرأ قصائد: مقام الفلوجة ومقام الرصافة ومقام المها، ثم قرأ قصيدة فواصل وقصيدة حملت عنوان 9/4/2003، وهو التاريخ الذي تم فيه الإعلان رسميا عن احتلال بغداد، وكانت قصائد الشاعر مليئة بالحنين والفجيعة، كما وصفها د. حكمت النوايسة الذي قدم قراءة نقدية في قصائد المجموعة، حملت عنوان "الحنين المقيد.. قراءة في أسئلة الوقت لـ هشام عودة"، قال فيها: هشام عودة تجربة شعرية ممتدة، آخرها هذا الديوان الذي نحتفي به، وما يميز هذا الديوان هو أنه لم يأت بالرؤية التي كانت عليها الدواوين والقصائد السابقة، وإنما جاء متأثرا بما حصل في العراق من الاحتلال الأمريكي، وما تبعه وما ترتب عليه في البلد الذي تشكل فيه الوعي، وكان الحلم والوعد. من هنا حاولت الوقوف على نصّ يعالج هذه المفردة، فوجدت ضالتي في قصيدة (( مرثية ليست لبغداد)) التي جاءت منذ عنوانها تحمل حجم الفجيعة الحقيقية التي توافر عليها الديوان، وسوف أقدّم إطلالة سريعة على هذه القصيدة لنرى من خلال بنائها/ تسلسل فقراتها مكان الشاعر/ الرائي في نصه، والرؤيا التي يحملها النص. العنوان: (مرثية ليست لبغداد) وهو عنوان ملبس، فالمرثية لا بد أن تكون في أمر أو شخص أو حتى مدينة، وبما أن النص مدينة بغداد برمزيتها، فإن الشاعر لم يستطع أن يقول مرثية لبغداد، لأنه لا يريد أن يعد بغداده في الراحلين، والإثارة هنا لو سطّحنا الفهم وسألنا: مرثية لمن إذن، والحقيقة أن لا جواب، لأن القصيدة تقول غير عنوانها. تقول القصيدة: أفقت على ضجّة الدم/ في وقع أقدامهم/ فاعتراني الذهول... رأيت دما يوقظ النائمين/ ويكتب ملحمة الشعب/ من روح بغداد/ حين يئنّ النخيل/ الطريق طويلْ فهو يضعنا هنا أمام الفاجعة تماما، بلا مقدّمات، لكنّ المقطع ينتهي نهاية مفتوحة على المستقبل: الطريق طويل... ثمّ تأتي بعد ذلك المقاطع الأخرى من القصيدة تحاول إعادة التوازن للنفس، وللنسق النفسي الذي رأينا أنه ارتبك، فالطريق الطويل لا بد له من شرح، هذا الشرح لن يكون خارج الرؤية التي يقف فيها الرائي الذي قال لنا (( أفقت على ضجّة الدم))، ليعيد رسم بغداد جديدة، بغداد ثانية هي بغداد الحلم، فهي بانتظار فتاها، في مقطع مزيج من رؤيا مسبقة، وحلم يغالب الواقع، يقول: وبغداد واقفة في انتظار فتاها/ تعيد لدجلة وهج الحياة/ وتمنح أسرارها للخيولْ تدلت شناشيل بغداد / تسأل عنهم/ محملة بالوعودْ وكان على طرف القلب / فتيتها البارعونْ ثم لا يستمر هذا المزيج: الرؤية السابقة والحلم، ستلوذ الذات بما تستعين به على تحمّل الموقف، وهنا تستفزّ الذاكرة والمخيّلة معا، الذاكرة عندما تستحضر قفا نبك، والمخيلة عندما تبتدع الحوار الدرامي المؤسس على تقنية (قفا نبك)، فيأتي المقطع الآتي إيذانا بهذا، يقول: سألتُ صديقي/ أشار إلى باسقات الهوى/ فاستبقت الظنونْ تذرّعتُ بالصبر/ حين تدلت شناشيل بغداد من سقفها/ تظللهم من رصاص الغزاة/ قفا نستدل عليهم/ قفا نستبين الطريق إلى دمنا/ فالبلاد التي عاقرت بالهموم مناديلها/ غادرت صمتها/ حين نام المؤذن في ليلة موحشةْ فهو سأل الصديق/ أو قال كما قيل: قفا نبك، ثم إن الصديق هنا لم يجب، بل أشار، بمعنى أن الصديق لمّا يزل في الداخل، في الذات، جزء منها، غير قابل على الخروج إلى رؤيا جديدة، إنه محصور في الموقف، مسكون به، فهو يشير، ولا يقدر على الكلام، وننظر في ما أشار إليه فلا نرى إلا الوحشة: الظنون، الصبر، رصاص الغزاة، الهموم، الصمت، المؤذن والليلة الموحشة. ثمّ ينتقل الصديق إلى الصاحب، فيقول: قلت يا صاحبي، فتأتي الإجابة هنا أكثر قربا من الواقع، يقول: قلت يا صاحبي/ فقال الطريق المعبد بالوهم طالت مساربه/ واحتمى بالدماء التي لم تزل ساخنةْ والطريق إلى مدخل الأعظمية معوجّة/ كاعوجاج لسان الزعيم الجديد/ وسالكة حين تحتضن الصبية الباحثين/ عن الفجر / عن نار دبابة أسلمت نفسها للطريقْ دماء تسيلْ وأعرف أجساد أصحابها/ في شوارع/ بدلت اليوم أسماءها/ في الرصافة والكرخ/ حيث عيون النخيل وأوجاعه/ لم تزل ساخنةْ هنا إعادة لرسم مشهد الفجيعة، مع ما يحاول الحنين أن يسرّبه إلى النص من قديم لم يعد، ونبذ الجديد الفاجع، ثم نجدنا أمام إعادة تكرار لحضور الصاحب، وهنا يكون السؤال للصاحب عن المسافة، والمسافة هنا ليست بين المعطيات الجغرافية في النص، وإنما بين الحال والحال، الأمس واليوم، السكينة والفجيعة، الحلم وتكسر الحلم، لتكون الإجابة إن المياه الغزيرة قادرة على... قلت يا صاحبي/ كم تكون المسافة/ بين باب المعظم والجسر/ قال المياه الغزيرة قادرة/ أن تعيد الحياة لنهر توقف شريانه/ واحتفى شاطئاه/ بجثة طفل وسيدة غامضةْ قلت يا صاحبي/ كان لي سيرة في أزقّة بغداد/ أعرف وجه رصافتها جيدا/ وأعرف أسماء فتيتها السمر/ يمتشقون بنادقهم في المساء/ فقال/ وقد قربته البلاد إلى نبضها/ الليل لي/ وبغداد مشغولة بإعادة ترتيب لهجتها/ كي تحاصر وهم الغزاة/ وبغداد واقفة تحرس الأرض/ حتى ننامْ وقريبا من تحول الصديق إلى صاحب، تبدأ الدراما بالتصاعد، لكنّها للآن غير قادرة على اجتراح أصوات أخرى تزيّنها، أو تجعلها قابلة لاستقصاء ما تم، ولكي تصل إلى ذلك لا بد من السؤال الذي لا يريد إجابة، وإنما يريد أن نقف معه على الحيرة نفسها: ماذا جرى؟ وهنا نجد السؤال: (ماذا جرى؟) يتكرر ثلاث مرات، يقول: قلت ماذا جرى/ قال: إن النخيل يمد جذور الحياة لنا/ هل ترى؟/ وذاك فتاها/ يمد أصابعه المشرئبة/ في وجه حقد المغولْ/ ليقرأ فينا وصيته السابعة/ فانتظرْ/ السماء ملبّدة بالغيوم/ ودجلة لمّا يزل واقفا/ يمنع الموت عن شاطئيه/ يعيد الحياة لبغداده الصابرةْ دماء تسيل/ وأعرف أجساد أصحابها/ عامر بالبنادق/ شارعنا المتهدل في النهر/ عامر بالدماء/ وبغداد أرخت عبير ضفائرها/ لفتاها الشهيدْ/ وهو يقرأ في الناس جهرا/ وصيته السابعةْ قلت ماذا جرى/ الشوارع مسكونة بالدماء/ وبغداد خضراء سوداء حمراء/ مسكونة بالوجع قلت ماذا جرى/ توقفت في شارع / كان يعرف وقع خطاي البطيئة/ يعرف وجهي/ ويعرف مفتاح أسئلتي/ لم يكن غيرنا/ عند جسر المعلق/ حين استفاقت على وعدها الأسئلة قلت يا صاحبي/ خذلتنا القبيلة/ قال النهار يزين أوجاعنا/ وبغداد لمّا تزل مثلما نعرفها/ "هي الدنيا بأكملها/ وسكان بغداد هم الناس". وهكذا يخرج مما جرى ليبدأ القصائد الأخرى، وهي قصائد المستحيل، وقصائد أقرب ما تكون إلى الواقعية وإن كانت تحاول أن تتلمّس أفقا ومآلا للنضال، لكننا نشعر أنه مخنوق غير قادر على استعادة النغمة التي كانت تسود قصائد هشام عودة سابقا، يقول هشام في قصيدة "مقام الفلوجة": "نجمتان لذكرى حبيب/ مضى وحده/ قبل عشرين موتًا/ وثالثة للنخيل/ نجمتان لحارسة الوعد/ حين تبارك خطوتها أمّة/ تنام على جبهة المستحيل" فهي جبهة المستحيل إذن، ولا أقول هنا إنّ في التعبير مجازا، ولكنّه الحقيقة التي تشبه المجاز، وكم تكون الحقيقة مرّة عندما تشبه المجاز، وكم يكون الخبر مرّا عندما يشبه الإنشاء، وعندما يكون الاستفهام والنداء والتعجب أخبارا، وتنعدم جاذبيّة حرف الكلام عن مقاصده لغايات الجمال، فالجمال هنا مكبّل بواقع سحب منه إمكان المبالغة، وإمكان المجاوزة. وهذا الحديث ضرورة لكي أقف على حدود المقيّد في الرؤية، وحدود الجغرافيا النفسيّة للنصوص التي توافر عليها هذا الديوان/ القصيدة، فهو ديوان قصيدة، بالهواجس التي ينطوي عليها، وبالرؤية التي يغالبها مغالبة سيزيف. وإذا كان ما في قصيدة (مقام الفلوجة) بعد المقطع الأول شرحا له، فإن خاتمة القصيدة سترشدنا إلى (جبهة المستحيل) التي في المقطع الأول: يقول: " وأحملك الآن/ سيفا من الأمنيات/ ووعدا من الغضب المرتجى/ في جبال الخليل" ويقول في قصيدة أسئلة الوقت: " أنا الآن وحدي/ ركبت فواصل ماجنة/ واحترفت النفير/ فأسلمت للنار أسئلتي/ وابتهلت بناصية العمر/ كي أتذكّر/ أني مددت خيوطي إليك..." ويقول في قصيدة (جنين التي لم تنم) : " جنين التي أمسكت بيديها الجدار/ وهزّت نخيل العرب/ خذلتها البلاد/ ولم يتساقط/ في حضن أبنائها الجائعين الرّطب". وفي ختام الحفل قام الشاعر هشام عودة بتوقيع مجموعته للحضور، وهي المجموعة الخامسة في سلسلة إصداراته الشعرية، والكتاب السادس عشر في سلسلة إصداراته، وقد صدرت حديثا عن دار دجلة في عمان، وقام بتصميم غلافها الفنان محمد خضير، وأهداها الشاعر إلى "حاضرة الروح بغداد". الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الخميس 22-05-2014 09:56 مساء
الزوار: 2884 التعليقات: 0
|