صدر عن دار (هبة ناشرون وموزّعون) كتاب: «جُنْد قِنَّسرين/ تاريخه وحضارته» تأليف الدكتور المهدي عيد الرواضية، وهو بحثٌ موسعٌ استقصى المؤلف فيه أحوال هذه المنطقةٍ الواسعة من بلاد الشَّام الشَّماليَّة وتاريخها خلال القُرون الهجرية الثَّلاثة الأولى، وهي المنطقة الّتي كان يُعَبَّر عنها قديماً باسم «جُنْد قِنَّسرين»، قبل أنْ يَغْلِبَ اسم حلّب على تَسْميتها. ويقع الكتاب في مجلدين (1210 صفحات) من القطع المتوسّط، تناول الباحث فيه، ضمن سَبْعة فصُول، الجَوانب الجَغْرافيَّة والإداريَّة والسِّياسيَّة والاجْتماعيَّة والاقْتصاديَّة والعِلميَّة والعُمْرانيَّة لجُنْد قِنَّسرين، ورسمت الدراسة حُدود الجُنْد وعدَّدت المُدن والقُرَى الّتي تتْبَع له، وأظْهَرت الأوضاع الّتي مرَّ بها طيلة تلك المُدَّة في كافَّة النَّواحي، مستعيناً بكافَّة الوَسائل والمصادر والمَراجع المُتاحَة، تاريخيَّةً وأثَريَّة وجَغْرافيَّة وأدَبيَّة وغيرها، فتنوّعت مَشارب المصادر والمراجع الَّتي اسْتَند إليها بين عَربيَّة وسُرْيانيَّة وبيزنطيّة. وعالج الكتاب ظرُوف نشْأة هذا الجند وأسباب اسْتِحداثه، وهو أكْبر أجناد الشَّام مساحةً، كما اسْتطاعت رَسم الحُدود بين الجُنْد والثُّغُور، وتحديد مَواضِع الثُّغُور الجَزَريَّة والشَّاميّة، وضَبْط التَّداخُل بين المُسَمَّيات: كمُصْطلَح العَواصِم، والثُّغور: جَزَريَّةً وشاميَّة، وتَعْيين المُدن والمَواضع الَّتي كانت مَعْمُورة خلال تلك الحقبة تحديداً، إضافة إلى رَصْد الوُلاة وبعض الوَظائف الإداريَّة فيه، وذِكْر مَن تولَّى إدارة الجُنْد من وُلاة وقُضاة ومُوظَّفين وغيرهم. كما تناول الظُّروف السِّياسيَّة الَّتي مرَّ بها الجُنْد منذ مَرْحلة التَّأسيس حتَّى العصر العبَّاسيّ الثّاني، واستعرض الأحْداث الَّتي جَرَت على أراضيه، وما وقَعَ فيه من فتنٍ وحُروبٍ وثَورات، ومُقارنةَ عدد هذه الثَّورات وآثارها مع بعض الأجناد الأُخرَى. وتعرض الكتاب لمظاهر الحياة الاجتماعيَّة فيه، وبيان التَّكْوين العِرْقي والدِّينيّ، ومُكوِّناته، وسُكَّانه، واسْتعراض القبائل العربيَّة الَّتي سَكَنت مُدنه من أهْلِ المَدَر، وتلك الَّتي انْتَجَعت بَواديه من أهل الوَبَر. وجَرَى بحث الحياة الاقتصاديَّة في هذا الجُنْد؛ من زِرَاعة وصِناعة وتجارة، وهي حياةٌ ناشِطة في كافَّة جَوانبها برَغم ما اعْتَراها أحياناً من كَوارث طَبِيعيَّة وبَشريَّة وعَوائق طَارئة، مدلّلاً على ذلك بكثرة مَزروعاته وتنوُّع مَحاصيله، بما انْعكس إيجاباً على صناعته وتنوُّعها خُصُوصاً الصِّناعات النَّسيجيَّة. وكان للموقع الجَغْرافيّ دوره في نشاط الحركة الاقتصاديَّة، إذ اعتمد الكثير من سُكَّان الجزيرة وأهل جُنْد قِنَّسرين في رزْقهم على مُشاركتهم في حملات الصَّوائِف والشَّواتي، وازدياد الحركة التِّجاريَّة الدَّاخليَّة الّتي كانت تنشط وقت الإعداد للصَّوائف والشَّواتي. أما الحياة العِلْميَّة والثَّقافيّة في جُنْد قِنَّسرين، فقد رصَدَت الدراسة مواطن الحواضِر الَّتي نشَطَت فيها العُلُوم، والأسْباب الدَّاعِيَة لهذا النَّشاط، وعدَّدت جُملة العُلماء والفُقَهاء والأُدَباء والشُّعراء الّذين كان لهم دَورٌ فاعلٌ في الحرَكَة العلميَّة. وامتاز هذا الجُنْد عن بقية أجناد الشام الأخرى بطبقة الفُقَهاء والمُحدِّثين الّذين لازموا الثُّغُور، وعدد المُتصوِّفة والزُّهَّاد والعُبَّاد والذين آثروا ملازمة الثُّغُور طلباً للجهاد، والرغبة في العُزلة والانقطاع، فتشكَّلت بهم حركة عِلميّة أثْرَت مساهمة الجُنْد في هذا الجانب. وأخيراً، فقد بحث الكتاب في الحالة العُمْرانيَّة ومظاهرها في جُنْد قِنَّسرين، وتتبع عناية الأمويّين والعباسيّين لإعماره وتحصينه، خاصة منطقة الثغور، وربما ساهم موْقِعه الجغرافي في مُواجهة الرُّوم، في اعتناء سُلطة الخلافة العبَّاسيَّة بهذا الجند. وقد وَقَفت هذه الدِّراسَة عند قيام الدَّولة الحَمدانيّة سنة 333هـ / 945م، ذلك أنَّ المنطقة اسْتَقلَّت عن السُّلْطة المُباشرة للعبَّاسيِّين، وتشكَّلت فيها سُلْطة أُخرى عِمادها أُسْرة بني حَمْدان، ثمَّ قامَت بعدها دولَة بني مِرْداس، لتَتقلَّب المنطقة بعد ذلك في العديد من أطْوار الحُكْم.