|
|
في سبيل تنمية حقيقية للذّات منطقة الرفاه النفسي أم منطقة الضغط النفسي؟ بقلم الأسعد قادري
في سبيل تنمية حقيقية للذّات منطقة الرفاه النفسي أم منطقة الضغط النفسي؟ الأسعـــد قادري 02 أفريل 2020 ما يزال البحث عن أسرار تنمية قدرات الإنسان وتربيته على حل المشاكل، بوصلة كل الباحثين التربويين على مر العصور. وقد ضبطت كل نظرية من نظريات التعلم منهجية خاصة لتحقيق عملية التعلم لدى الإنسان. ولئن كان حصول التعلم في جوهره هو حالة نمو سلوكي وعرفاني ومهاري من شأنها أن تحقق حالة من التوازن النفسي أو فلنقل حالة من الرفاه النفسي أو الرضى الداخلي، فإن السؤال الذي يمكن أن يطرح هو: ما الذي يحدث على الصعيد النفسي في تمشي عملية التعلم؟ وهل التعلم عملية تكتمل ببلوغ حالة التوازن المنشود؟ وأي مكانة للضغط النفسي الناتج عن الحيرة واختلال التوازن أمام المشكلات؟ قد يبدو للوهلة الأولى أن منطقة الرفاه النفسي هي غاية ونتيجة لا نتمنى مغادرتها إذا بلغناها. ولكن واقع الحياة ليس بهذه البساطة، فتعقيدات الحياة اليومية والتحديات التي نواجهها في غياب التجربة الكافية، تشعرنا بحالة من الضغط النفسي يدعونا تلقائيا للبحث عن استعادة التوازن. ونقترح هنا إطلالة موجزة على بنائية بياجي إذ يرى أن التعلم هو حالة من فقدان التوازن واستعادته من خلال عمليتي الاستيعاب والمواءمة أوالملاءمة، ولعله يلخصها فيما أسماه التكيف... من هنا يبدو أن حالة الرفاه النفسي ليست حالة دائمة بحكم حركية الواقع، ومحاولة الالتزام بها من قبل الفرد هو في الواقع تجاهل لما يترصدنا من مفاجآت تتطلب أحيانا سرعة في التكيف. ثم إن ملازمة حالة الرفاه النفسي تعني رفض التعلم ورفض التسلح بالتجربة للتّوقي من مآزق المستقبل. أو ربما يَقنع الفرد بالحد الأدنى من النشاط الذي يعتقد أنه آمن ويتفادى أي تجربة جديدة كأن يحاول تعلم لغة جديدة أو تعلم تكنولوجيات المعلومات والاتصال أو التفكير في المبادرة ببعث مشروع استثماري جديد... كل ذلك يعتبر في نظر أولئك من المخاطر التي يجب تفاديها لما تعنيه من تهديد غير مضمون العواقب. ولكن أي معنى للقبول بمغادرة حالة الرفاه النفسي وتحمل حالة من الضغط النفسي؟ (ونقصد بالضغط النفسي ذلك المستوى العادي بعيدا عن معنى الضغط النفسي المرضي الخارج عن سيطرة صاحبه). دعنا نتفق أولا أن مواجهة المشكلات في الحياة اليومية هو من طبيعة الحياة ولا مفر منه ثم لا يمكن أن يختلف اثنان على أن الاستقلالية والترشّد الذاتي هي الطريق الآمنة لحصول حالة الرضى والرفاه الحقيقي. من ناحية أخرى مادامت تعقيدات الحياة وتشابك الحاجيات هي من طبيعة الحياة فإنه يصبح من البديهي أن يتسلح الإنسان بكفايات ومهارات الحياة لبلوغ منطقة الأمان المنشودة... وعبارة التسلح تقودنا إلى مفهوم التعلم المنظم والمقصود بوعي واختيار. هكذا يبدو أنه لا معنى للتعلم والترقي بالذات دون تنشئة الصغار وتدريب الراشدين مدى الحياة على مواجهة المشكلات ودفعهم باستمرار لفقدان التوازن والتعويل على الذات في إبداع الحلول وتجربة الخطإ والصواب وتعديل التمشيات. إن تمشي التعلم يقتضي بالضرورة ما وصفناه بحالة الضغط النفسي ويندرج ضمن هذا المعنى حالة الخوف من المواجهة وحالة التردد وحالة الارتباك والتوتر حيال كل موقف يفرض تحديا معينا. وإذا غصنا قليلا في تمشي عملية التعلم فإنه من الوجاهة النظر فيما ما يحدث عصبيا عندما يتعلم الإنسان: الدماغ عبارة عن شبكة عصبية تم بناؤها عبر تجاربنا في كل لحظة وفي كل حين ويتمثل ذلك في بناء وصلات عصبية بين مليارات من الخلايا العصبية (يولد الإنسان بـ 100 مليار خلية عصبية... في سن المراهقة هناك في الدماغ مليون مليار وصلة عصبية ... يعني، بعملية حسابية بسيطة ليس هذا مجال تفصيلها، يمكن أن نجزم أنه منذ ولادة الطفل إلى أن يبلغ سن 15 سنة هناك 2.5 مليون وصلة عصبية تنمو في كل ثانية... ما تعنيه هذه الأرقام هو أن الدماغ يتغذى من البيئة المحيطة وهندسة الدماغ تكون مدعمة ومعززة بقدر مواجهة الفرد لتعقيدات الواقع والتجارب الجديدة. بالنهاية أعتقد أن الضغط النفسي في مستواه الطبيعي هو ضرورة لتنمية الذكاء وتحفيز الدماغ لبناء وصلات عصبية جديدة تترجم نجاعته في التفكير وحل المشكلات وتحقيق الاستقلالية، فإذا ما رمنا تعليم إنسان شيئا ما، فما علينا سوى وضعه في مواجهة ذلك الشيء الذي يجهله، وبقدر ما تكون مسافة المرافقة بعيدة عن التوجيه والقيادة والشرح والتفسير والنصح المجاني بقدر ما تكون عملية بناء الشخصية أكثر صلابة وأكثر استدامة. بالنهاية ما يمكن أن نقوله هو أن منطقة الرفاه النفسي هي منطقة وهمية، تجعل صاحبها يتدحرج إلى منطقة الإهمال والعجز والفشل والإحباط في أول تجربة حياتية تفرض تحديا، حتى لو كان بسيطا. لذلك يبدو أن مغادرة هذه المنطقة هي الطريق الأنجع نحو بلوغ الصحة النفسية والاستمتاع بالنجاح وتحقيق الأهداف ومراكمة التجارب بما يحقق بلوغ الغايات حتى لو كان ذلك مرهقا أحيانا، فإن النتيجة ستكون بناء شخصية واثقة من نفسها مستقلة قيادية تطمح إلى باستمرار إلى مزيد الاكتشاف والإبداع. انطلقوا في تجربة المحاولة واسحبوا إليها أبناءكم وذويكم فالحياة بالمغالبة أسلم من التزام حالة رفاه وهمية.
الكاتب:
إدارة النشر والتحرير بتاريخ: الأحد 12-04-2020 05:30 مساء الزوار: 798
التعليقات: 0
|
|