نكتبُ لنُكمّل نقصاننا الفادح في كلّ مرّة، نكتب لنحاكي حياةً كاملة رسمًا بالأبجدية سواء  تخيلا أو واقعا أو مزجاً بين هذا وذاك، ونكتب ـ أحياناً ـ لنرمّم ما صدّعه الدّهر بجبروته ونوائبه وهزّاته، ...الخ، وقد نكتب لنوثّق الألم الذي عشناه وما فتأ ينخر زوايا الرّوح بمخالبه الفتّاكة فتتآكل من فرط الحزن، كما أنّنا نكتب لنعيش داخل اللّغة  ونحتمي بها، على اعتبار أنّ الكتابة والقراءة قد تصلح أن تكون معادلاً موضوعياً للحياة بمفهومها الشاسع، وقد نكتب ـ أحياناـ دونما أسباب واضحة أو لعلّها أسباب لا تتجلّى في الذّهن، أسباب ميتافيزيقية عصيّة عن العدّ والتعداد. 
ثمّة أعمال أدبية تخرج للوجود بشكل درامي وبصورة تراجيدية تأتي كأنّها محاكاة لتراجيديات المسرح الإغريقي العريق أو إعادة إنتاج للتاريخ السومري التليد مع عدم إغفال التفاوت الأسلوبي والطرح الفني بين النسخ السابقة والنسخ واللاحقة، من بين تلك الأعمال ما يكون مسكوباً في كؤوس الشّعر لذّةً للقرّاء والمتلقيين، ومنها ما يجيء مسكوباً في قوالب نثرية عديدة ومتباينة ومتداخلة.
كثيراً ما تكون تجربة حياة ثريّة أو تجربة حياة مليئة بالتجارب القاسية هي السبب في دفع صاحبها إلى رفع القلم والاستناد إلى جدار الذّاكرة والشروع في الكتابة كتجريب لتوثيق تجربة فردية / جماعية، يرى صاحبها أنّها تحمل الكثير ممّا يجب أن لا يظلّ حبيس جنبيه، بل يرى أنّ ما مرّ به لا يجب أن يظلّ قوتاً محتكراً لمجالس الأصدقاء والأقارب التي تنقضي بانقضاء الجلسة طالت أم قصرت، ثمّ تذهب الكثير من الأحاديث على أهميتها أدراج الرّياح بسبب السّمة الشفوية لخطابات المجالس المذكورة آنفاً، ثمّ إنّها في الغالب تكون مجالس مصغّرة تجمع عدداً قليلا من الأفراد، عكس الخطابات الموثّقة المكتوبة التي قد يراهن كاتبها على عدد أكبر من القرّاء في كلّ مرة ومن ثمّة تبليغ تجربته الحياتية التي يرى فيها ما يستحقّ التوثيق والتداول على نطاق أوسع. 
الرواية السيرية أبرز أنماط الكتابة السردية وأكثرها انتشاراً وتجريباً بين الكتّاب جميعاً سوى المحترفين أو المبتدئين، لعلّى انتشارها يعود لحميمية هذا النمط والتصاقه بالذّات أكثر من العالم الخارجي وإن كان ولا بدّ من حضور العالم الخارجي فسيكون مؤطراً لتفاعلات التجربة الذاتية الموثّقة سرديا، ثمّ إنّ الرواية السيرية تقوم على الجانب التسجيلي ممّا يعني غياب للخيال الذي هو ملكة خلاّقة ليست رهينة كلّ الأقلام.
رواية «مقاش» للمناضلة الكاتبة الفلسطينية «سهام أبو عواد» تجربة من تجارب كتابة الرواية السيرية المعاصرة، رغم عدم النضوج السّردي التّام في النّص كبنية، إلاّ أنّ هناك ثمة أشياء كثيرة كفيلة باستدراج القارئ لاستكمال قراءتها دون توقّف، لا سيما أنّها نصّ مكتوب من ذاكرة مؤلفته التي عاشت التّجربة القاسية بحذافيرها، فالنّص إذن ليس مروياً من خارج التّجربة الذاتية، وليس توثيقاً لمرويات شفاهية عن أشخاص، هو نصّ ذاتي بامتياز رغم أنّ ما يحتويه من تجارب ظلم وسجن واضطهاد هو قاسم مشترك بين عدّة أسر فلسطينية تعيش في الدّاخل تحت نير سلطة الاحتلال . 
«سهام أبو عوّاد»، ورغم حداثة التجربة الكتابية، إلاّ أنّها نقلت في هذا الكتاب ما غضّت عنه الكثير الكاميراوات عيونها، وماغيّبته بعض التقارير الصحفيّة، والمقابلات التلفزيونية، وما زيّفته الكثير من كتب التاريخ المتداولة.  
« مقاش» سيرة روائية تحمل في طيّاتها معاناة الكثير من الأسر الفلسطينية التي تعيش تحت نير الاحتلال الصهيوني، وقد ركّزت الكاتبة في كتابها على جانب مهمّ للغاية وهو واقع حياة أسرة السجين، فإن تحدّثت الكثير من الأعمال الروائية والسّير الذاتية عن حياة السجين القابع خلف أسوار السّجن وما يعانيه من قهر وإذلال وتحقير، فإنّ هذا النّص «مقاش» ينقل للقارئ واقع حياة أسرة السجين، لا سيما إن كان السجين أمّا لأطفال صغار حياتهم واستقرارهم وأمنهم وسعادتهم يرونها لصيقة بتواجد الأم بالبيت ورعايتهم .
من هذه النقطة التي رسخت في الذّاكرة منذ كانت طفلة غضّة، ومن التجربة الذاتية في رعاية إخوتها والتكفّل بهم وممارسة دور الأمومة في سنّ الطفولة إذ لم تكن وقتها تتجاوز سنّ الرابعة عشر، ممّا كابدته وعاشته كتبت «سهام أبوعواد»، هذه التّجربة، هي التي تكفّلت برعاية اخوتها في ظلّ غياب الوالدة السجينة، فيما كان أترابها ينعمون بدفء الرعاية الأسريّة، ويعيشون طفولتهم، بدأت هي باكراً حمل أثقال الحياة، تلك الأثقال التي ظهرت على أنقاض طفولة مهدورة .   
تنهض هذه السيرة الروائية في سردها على الفلاش باك، فالكاتبة دوّنت النّص من مخزون الذاكرة التي ظلّت تنزف ألماً رغم تعاقب السنوات والعقود، تقول في مستهلّ الكتاب «مازالت تلك الطفلة الأمّ تحيا داخل جسدي الأربعيني وقلبيَ يعودُ بها إلى الوراء مُحمّلاً بألف أه وألف لو ...» (مقاش / ص 16) .
دوّنت الكاتبة هذه السيرة الملحمية، بوحي من قصيدة»ياوجه أمي»للشاعر الفلسطيني الأردني»محمد خضير» والتي سمعتها لأوّل مرة في  العام 2014، والتي يقول فيها :
يا وجه أمّي 
هذه القسماتُ منفىً
حين يلفظني الحصى
أخلو بها لأنام بين ظلالها
فهناك رائحة الخيام
وبعض ذكرى من أغان ساهرة .
كانت هذه القصيدة كفيلة بتحريك جمرة الكتابة واحتمال حرائق الذكريات الموجعة ووحمل القلم وتجريب تدوين هذ السيرة الروائية التي توزّعت على عشرة فصول وهي كالآتي: (ولادة/طفولة لادمية لها/ليلة مختلفة/أمومة مبكّرة/ملامح حياة/في الطريق إلى السّجن/في البيت/آمنة/الانتفاضة/يوسف/البداية)، وقد تمّ تصدير الكتاب بمجموعة شهادات لكتاب عرب، وكلمة للمؤلفة مما جاء فيها قولها: « هل وقفت يوماً على حاجز يفصل بينك وبين من تحب...ثمّ عدت أدراجك، وعينك خالية الوفاض ولو من نظرة عابرة؟
هل جرّبت أن تكتب ألمك بقلم مداده دمك؟
نعم ...أنا فعلت 
لذا..إن لم تنل من عدوّك اليوم، فعلى الأقل علّمه رقصتك.»(مقاش/ص13).
وقد تمّ تذييل الكتاب بنص قصيدة الشاعر» محمد خضير» كاملة والتي سبق التنويه لها من خلال إيراد مقطع منها، فللقصيدة فضل في كتابة  سيرتها التي ظلّت سجينة الذاكرة أعواما كثيرة.
بالعودة إلى عنوان الكتاب الذي جاء نكرة توحي بالرّفض، «مقاش»في التراث الفلسطيني هو اسم الإناء الذي يوضع فيه الأكل للمساجين، وكأنّ هذه السيرة المليئة بالجراح والآلام ما كان يليق بها سوى أن توضع في» مقاش» ليلتهمها القاريء كوجبة لغوية سيرية مالحة معجونة بمرارة الفقد والظّلم والتشرّد والقتل وكلّ ما من شأنه سحب الحياة جزءاً بعد جزء ممن ظلّ مرابطاً في أرض الوطن ومدافعاً ومنافحاً عنه كقضية أولى، ولكلّ حمل قضيته معه أينما حلّ وارتحل. 
في هذا الكتاب زاوجت «سهام أبوعواد» في تسجيل السيرة بين ما ترويه عن والدتها السجينة، وبين  صوتها هي كساردة تروي ما حدث للعائلة من ارتباك وتفكّك وغياب استقرار، تقول الكاتبة:» حكايات أمي عن السّجن تنسينا كثيراً الحديث عن أنفسنا، تنسينا حقاً التفكير في أيّ معاناة نواجهها في البيت، نأتي للزيارة محمّلين بالشّكاوي، فننساها على مهل كحبّات قمح داخل خُرج مثقوب...» (مقاش /ص102).
فيما تمارس سهام دور الأمومة الباكرة وتزجّ بها الظروف لإلغاء مرحلة الطفولة، كانت والدتها تواصل دور الأمومة حتى داخل أسوار السجن، فقد كانت ملاذاً لفتيات سجينات يلجأن إليها ويسردن في حضرتها أحزانهنّ وتفاصيل أوجعهنّ، قدرها أن تكون أمّا حتّى ولو كانت في منأى عن أطفالها الذين هم أحوج النّاس إليها، «تقول أمّي: الأسيرات يعتبرنني (الفورة)، فكلّ من لديها شكوى أو همّ تريد البوح به، تأتيني باكية لترتمي داخل حضني الذي صار مزاراً لكلّ واحدة منهنّ»(مقاش/ص 102)
يتوقّف القارئ في هذا الكتاب الذي جاء بأسلوبه المتواضع وفي مستوى تناول شريحة كبيرة من القرّاء، عند نقطة مهمّة وهي عدم جنوح الكاتبة لسرد بطولات خيالية أو تغييب دور بقية إخوتها وهم خمس فتيان وفتيات ووالدهم، بل روت في هذه السيرة بأنّهم عملوا على  اقتسام الأدوار داخل الأسرة لكي يرمموا جزءاً من غياب الأم التي كانت تحمل وتتحمّل كلّ تلك الأدوار وتؤديها بمنتهى الصبر والحب والتفاني الأمومي، لكن الدور الأكبر تحمّلته الكاتبة بوصفها الأخت الكبرى لا بوصفها بطلة تحدّت الصعاب بمفردها وهي سنّ الطفولة. 
يظلّ الكتاب السّيري النّاقل لعذابات السجين وأوجاع أسرته شكلا ً من أشكال التأريخ للمآسي واستنكارها، وهو وثيقة متاحة للقاريء العربي والقاريء غير العربي الذي يتقن اللغة العربية، لكن من الضرورة بمكان السّعي لترجمة هذا النّوع من الكتب العربية  التي تروي عذابات الأفراد والجماعات والأسر العربية الرازحة تحت وطأة الإستعما، وأوّل اللغّات التي وجب نقل هذه الكتب إليها هي  اللّغة الانجليزية باعتبارها اللغة العالمية الأولى والأكثر انتشاراً، ونقله أيضا إلى اللغة العبرية وهي لغة  المستعمر المحتل للأراضي الفلسطينية، وإلاّ ستظلّ هذه الكتب بمثابة خطاب الذات لذاتها، صوت ورجع صدى في غرفة مغلقة أو محادثة الأنا للأنا  أمام مرآة مصقولة في جدار مقابل.