الساعة لم تتجاوز بعد الخامسة صباحا و(سيلا) مازالت تغط في سبات عميق. بقيت أنظر إليها مستلقية في مكانها هادئة لا شيء يعكر صفوها ولست أعرف لماذا أخذني خيالي دون سبب معلن إلى تلك الزاوية القاتمة. الخيال كالوجه مرآة النفس الشارعة وأنا يحدثني خيالي بما ألاقي وكأنه علاّم بالغيوب ولا أحد يمكن أن يتصور عبء ما أعانيه بسببه في صمت. أغمضت عيني حتى لا أرى شيئا ف(سيلا) كائن مسالم يملأ علي وحشتي . أدرت ظهري إلى الحائط وغطيت كامل جسدي بلحاف أبيض حريري ناعم وجدته على طاولة الركن المحاذية لسريري. ولأنقذ(سيلا) من خيال موغل في الإيذاء قررت أن أنام. كنت أعلم أني أؤجل قدرا لا يؤجل ورغم ذلك سحبت من تحت وسادتي أقراصا مهدئة أحتفظ بشيء منها في كل ركن من أركان المنزل خشية نفاذها دفعة واحدة .كانت لي في تلك الأقراص حياة وحدي أريي خواءها في ذاكرتي. وعنّ لي أن أتناول قرصين كاملين لأضمن نوما عميقا يشتت خيالي ويبدد هواجسي. ونمت. نمت إلى أن استيقظت.... هناك، الظلام غامض أكثر مما يجب والأصوات عالية صاخبة حادة مفزعة والجبال شاهقة والمنحدرات تصل السفح بالهاوية...وكنت أسير كالبرق ألاحق شبحا ...خفيفا كنت من كل ما يثقل حركتي . لا حذاء يضغط على قدمي ، ولا ربطة عنق تخنقني ، كنت عاريا تماما .. هناك، لم يكن المكان غريبا عني...لكن كانت كل تفاصيل الحياة مبعثرة، منفرة ومقززة....كنت جزءا لا يتجزأ من تلك الفوضى العارمة، أقفز على الأشلاء كضفدعة ، أتعثر في جماجم وجثث متعفنة ....وكثيرا ما تغوص أقدامي في برك من سائل لزج سرعان ما يتخثر فتتيبس أصابع رجلي....كنت أهش جحافل الذباب الأخضر بيدي حتى لا يعيقني عن مواصلة المشي ....كنت أرى حشودا من العيون المتورمة والأذرع الطويلة والسيقان النحيفة والأفخاذ البضة والبطون المنتفخة مكدسة فوق بعضها البعض كأكداس فضلات في حي سكني فقير موبوء تنتظر من يضرم فيها النار ...هناك عليك أن تتأقلم بسرعة فقد تخونك الصدمات ....هناك كنت خفيفا حتى من جسدي ولن أستدير لأودع أحدا ....هناك تمخطت وتبولت وتدحرجت ككرة الثلج وارتطمت بدودة ضخمة كفيل تقضم في هدوء تام ما لذ لها من التفاح الشهي، ...ارتددت قليلا إلى الخلف حتى لا أعطلها في أداء مهمتها المقدسة ...هناك، رأيت فتاة بكل عنفوانها جالسة على الأرض تقلم اظفارها وتطليها بطلاء فاتن...رأيتها تضع رجلها على كرسي الخيزران قبالتها وتجمع اطراف فستانها القصير بين فخذيها لتصل إلى اصبعها الصغير وتزيل عنه طلاءه القديم بسائل رائحته تذكرني بمطهر يستعملونه في المستشفيات للقضاء على الجراثيم...يا لهدوء تلك الفتاة بل يا لمكر خيالي وهو يدقق لي في تفاصيل قد تجعلكم تعتقدون أني فاقد الإحساس ولكن ما جدوى انسانيتي في تلك اللحظة ... أعتقد أن الفوضى العارمة تبدع في تصوير مشاهد المرح و السخافات ...فقد بقيت أستمع إلى عزف مذهل على البيانو ربما لساعات أو لأيام أو لسنوات...المهم أنها كانت لحظة شغف لا تضاهى ، كنت أرى امامي سيلين ديون بفستانها الأحمر والجمهور أمامها واقف في خشوع...خشوع رهيب....خشوع أفزعني... حينها تناهى إلى سمعي صوت جعلني أغرق في الحلم...كان صوت (سيلا) وهي تئن أنينا قاتلا فتت روحي كصحن من البورسلان وقد دهسه قطار ، أردت أن أقفز من سريري ولكن بقعا حمراء قانية اجتاحت الغرفة بالكامل ولم يبق شيء على طبيعته...بكيت بحرقة شديدة حين لم أجد لحافي الأبيض ... مهما كانت الرفوف جد عالية فخيالي يتعامل معها وكأنها لحافات مطوية بعناية فائقة على طاولة بالركن المقابل..
قيل لا يكتمل الحب إلا بالألم، ولكن بم يكتمل الألم ؟ وأنا أتأمل في وجه ذاك المسكين المعدم الذي طرق بابي مبتسما مساء الأمس كنت أبحث في عينيه عن شيء مشترك بيننا. أليس من المفترض أن يكون خائفا ؟ لا أخفي عليكم ، لو لم تكن (سيلا) معي لعجزت عن فتح الباب. نحتاج أحيانا إلى بعض التفاهة لنتقبل ما نحن عليه. لو تأخرت (سيلا ) يوما آخر، لجننت. حين أتت بها الجارة كنت بائسا، بل بائسا جدا. قضيت أياما ولياليا لا أنهض من الفراش إلا لأذهب إلى الحمام . لم يكن ألما فحسب بل حزنا. لم يكن فقدا، كانت سلسلة من المآسي المتسارعة التي لم يتخيلها المسرحيون الإغريق، الواقع أقسى وأكثر وجعا من الخيال، ولكن خيالي لم يكن خيالا ، إني أعيشه ككابوس يخلط الليل بالنهار...الانطوائيون يعيشون في سجن انفرادي يحملون أوجاعهم كحزام ناسف.. بعض مآسينا يخطها بعنف قدر أعمى . لم أشعر يوما أني غيري إلى أن أشهر الغياب سكينا فنهضت نجمة العزلة وجلست على ضفاف النهر . أتعلمون متى يشعر النهر بالألم؟ حين يتأكد أنه عاجز على أن يصبح ضفة واحدة..