|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
الأقصوصة في الأدب التونسي بقلم النّاقدة الأستاذة: نجاح عز الدين نصيري قراءة في قصة زينب بوخريص
عاشقة
الصحراء :
الأقصوصة في الأدب التونسي...بقلم النّاقدة الأستاذة: نجاح عز الدين نصيري
المقدّمة
اِتخذت القصّة القصيرة أو ما يسمّى بالأقصوصة في الأدب التونسيّ، خاصّة في السنوات الأخيرة مسارا متزنا مكّنها من بلوغ مرحلة مهمّة من مراحل النّضج في الكتابة السرديّة. هي كتابة تسير على نار هادئة تزامن تطوّرات الواقع الأدبي العالميّ والعربيّ ومشكلات المجتمعات الإنسانية عامّة، بتلوّناته المختلفة وهي لم تكن يوما أمرا هيّنا. لقد كانت "ايزابيل اللّيندي" تردّ دوما على أسئلة الصِّحافيّين حول ابتعادها عن كتابة القصّة القصيرة قائلة: "القصّة القصيرة بالنسبة إليّ جنس صعب كالشّعر ولست أظنّ أنني سأعود إلى محاولة كتابتها، إلاّ إذا سقطت عليّ من السّماء".
ولا نعدمُ في هذا الإطار مواكبة القصّاصة اٌلصّاعدة" زينب بوخريص" لهذا الواقع من خلال إنتاجها للمجموعة القصصية "سيمفونية شغف" فنبشت في هموم التّونسيّ وأفراحه وأتراحه وطموحاته وأحلامه. لئن انطلقت الكاتبة في إيجاد مكان لها في الكتابة السردية موطّدة علاقتها بها، متحسّسة طريقها باتّزان فإنّها قد أبرزت طاقة استثنائية في عالم القصّ انخرطت في الكتابة الواقعية فسايرت القصّاصة ما طرأ على المجتمع التونسي من تحوّلات. ولكن ما يجب أن يُلفت إليه النّظر هو أنّ هذا السرد للواقع لم يكن سردا آليّا سطحيّا بل بدا في أحيان كثيرة عميقا موغلا في التخيّل ويتطلب من القارئ جهدا لرصد ما بين السطور. فالكاتب عندما يصوغ قصصه ينشئ عالما متخيّلا بالضرورة لكن حين يعيد قراءته يتبيّن أنّه في علاقة جدليّة مع الواقع. فهذه النصوص تفترض حسّا استكشافيّا للمعنى يتحتّم على قارئها قلْبُ أديمها حتى يستكشف كُنهها، ولنا أن نستشهد على سبيل المثال ليس الحصر بالأقاصيص التالية "ترنيمة عشق" "حلم مفقود" "نوافذ الذاكرة"... في هذه الأقاصيص وغيرها نجحت "زينب بوخريص" في اختراق العقليّات المتكلّسة. فكشفت المستور وحلقت في سماء الأمل داعية إلى مراجعة ما تبلّد منذ أزمان ولّت، منتصرة لحقّ الاختلاف ومناصرة للقيم الإنسانية كالحريّة والعدل وما ينطوي عليهما من إنصاف للمظلوم ومساواة بين جميع البشر. وعناوين بعض الأقاصيص تدلّ على ذلك: "انعتاق" "حلم مفقود" قبس من ضياء" سيمفونية شغف" "الوتر والظلّ".. أرادت "زينب بوخريص" أن تحفر نفقا في الوعي الجمعي متأثرة بالبيئة الجديدة للواقع التّونسيّ، فأثارت عديد القضايا الطافحة على السطح منها ما تعلّق بالمرأة، فبدت القصّاصة مناصرة لقضاياها ومدافعة عن مبادئها وأفكارها فطرحت واقع هذه المرأة، وما اتّسم به من ظلم وقهر وضعف وانتهاك لكرامتها وشكوى من مكبّلات عديدة تحول دون نشاطها السياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ. كذلك لم تخلُ هذه الأقاصيص من إشارة إلى عالم السياسة وما اعتراه من عفن بشريّ شوّه مقاصده الإنسانية والمدنيّة. لقد حاكت الكاتبة هذه المجموعة القصصية بشغاف قلب متألّم تارة ومستبشر طورا ومتفائل دوما.. لم يصدق"رولان بارت" حين قال: "إنّ المؤلف قد مات وهو يكتب" فحياة "زينب بوخريص" وأفكارها وتخميناتها وتجاربها تنطبع على هذه الكتابة، فلا تكاد تخلو أقصوصة من أقاصيصها من كل ذلك وإن لم تقرّ بذلك متوسلة بالترميز أحيانا ولم يكن التدقيق في وصف ملامح شخصيّاتها، ولا اختيار أسمائها وأسماء الأماكن من وحي الصدفة، بل اختارت الكاتبة شخصيّات من العالم المحيط بها. يحقُّ لنا أن نتساءل الآن عن طبيعة هذه الكتابة فنقرّ بكل وضوح ودون أن يتعلق الأمر بتمجيد للأثر أنّ الكاتبة أحكمت صياغة هذه المجموعة صياغة فنية، فاستعملت لغة سهلة سلسة يفهمها القارئ العاديّ، ويستبطن خفاياها القارئ المتمرّس بالنقد ولا يفوتنا هنا أن نستشهد بما قاله الناقد "محمد صالح بن عمر" في إحدى تدويناته على الفايسبوك بـ"أنّ النص الشّعري أو السّردي حين يكون مكتوبا بلغة سليمة وجيّد البناء فهذا حسن ولكنه مع ذلك لا يبهر القارئ فإنه يبقى نصّا عاديّا". ونصوص الكاتبة "زينب بوخريص" ليست عاديّة ولا نقول هذا مناصرة للأثر أو مساندة للكاتبة بل باعتبار ما اتّسمت به هذه النّصوص من إحكام جيّد لبنائها وما توفر فيه من تقنيات قصصية منسجمة، كتوظيف أنماط الخطاب بدءاً من السرد الذي حضر خطيًّا استرسلت فيه الأحداث مرتبة ترتيبا متناغما فيلاحق زمن القصّ زمن الأحداث وفي أحيان كثيرة يخترقنا السّرد الاسترجاعي فلا يعلن عن نفسه منذ البداية بل تشير إليه الشخصيّة البطلة ففي أقصوصة "نوافذ الذاكرة" يقول في جملة قصيرة خاتما بها الأحداث: "صارت بعد أن تزوجنا ترسمني بشكل أفضل". كما يحضر الوصف دقيقا تتزاحم فيه المجازات فتتناغم الاستعارات والتشابيه جنبا إلى جنب في حضن الجمل الاسمية المتواترة والمكتظة فاستعرضت مشاهد مغرية تقتلعك من ظلمتك الحالكة وتلقي بك في عالم منير تكتظّ فيه الصور وتتنوّع فيه الأماكن فيتنقل القارئ دون ملل مع الأحداث في فضاءات شاسعة بلا حدود.. ويتواتر الحوار في هذه المجموعة القصصيّة، فتتقاسمه شخصيّتان أو أكثر.. وقد تستأنس الكاتبة أحيانا بالحوار الباطني فيضيف عمقا للأحداث ناقلا المواقف والمشاعر المتناقضة. وتلتزم هذه الكتابة بتوظيف المفاجأة محققة وحدة الانطباع والأثر فكم ارتبك القارئ وتأسف كثيرا وحزن أكثر عندما توقع نهاية مأساويّة، ثمّ تباغته الكاتبة بنهاية جديدة مغايرة تماما لما اعتقده ...
هكذا صاغت "زينب بوخريص" مجموعتها القصصية "سيمفونية شغف" فلم تتنكر للأقصوصة التقليدية لكنها استجابت في الآن نفسه لمتغيّرات البيئة الجديدة وخاصّة في العشريّة الأخيرة للقرن الواحد والعشرين. لقد تركت الكاتبة النوافذ مشرعة لعقول القراء وأكدت بذلك أيضا أنّ الأدب فنّ في خدمة قضايا الإنسان يهدف بالأساس إلى تغيير موقف المتلقّي إمّا دحضا أو تعديلا فجمعت في نصوصها بين الواقع والمتخيّل الذي حملته مقاصد ولا سبيل لاستجلاء ذلك إلا عن طريق قارئ متريّث.
لا نزعم في هذه المقدّمة القراءةَ الأكملَ بقدر ما نعتقد أننا نشير إلى المفْصل الأهمّ من هذه الكتابة.
لقد كانت القصّاصة "زينب بوخريص" تخطو فيها خُطًى ثابتة تجعلنا موقنين أنها ستقودنا إلى مرحلة أكثر نضجا وأكثر جرأة، فلا يهدأ لها بال حتى تطأ المحرَّم والمسكوت عنه لأنها في "سيمفونيّة شغف" أصرّت على الحياة، ودفعت الموت وتمسّكت بتلابيب الانعتاق، وفسحت للأمل دروبا وعانقت سماءً بلا حدود.
الكاتب:
إدارة النشر والتحرير بتاريخ: الخميس 11-06-2020 04:35 مساء الزوار: 1193
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
قراءة في رحلة (الطّريق إلى كريشنا) لسناء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 14-11-2024 |
قراءة في رواية «النبطي المنشود» لصفاء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
ميزان النقد في رأي المجتهد بقلم نجم ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
قراءة في كتاب «معاصر السمسم بين الماضي ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 22-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 09-06-2024 |
إطلالة على رواية «العبور على طائرة من ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 22-02-2024 |
قراءة في رواية صفاء أبو خضرة «اليركون» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 14-02-2024 |
أدب المقاومة الفلسطينيّة عند سناء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-01-2024 |
«العبور على طائرة من ورق»... رواية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-01-2024 |
قراءة في ديوان «المشكال» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 22-12-2023 |
قراءة في رواية( عشرُ صلواتٍ للجسد) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 24-07-2023 |
قراءة في كتاب «للأشياء أسماء أخرى» لروند ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 28-05-2023 |
قراءة في رواية «ثلج أحمر» لأمل أبو سل | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 26-05-2023 |
قراءة انطباعية في رواية "77 ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 06-04-2023 |