الحب كما يقول الكاتب علي حرب: "حالة قصوى من حالات الشرط الإنساني كالخوف والقلق والموت." فالإنسان كائن يحب ويهوى، بل هو لا ينفك عن حبه للحياة التي تسري في كيانه.
من هذا المنطلق سنحاول أن نتعرف كيف وظفت الشاعرة نعيمة الرامي ثيمة الحب في ديوان احتراق من خلال مساءلة بعض النصوص الشعرية و محاولة سبر أغوارها. في هذه القراءة المتواضعة سنحاول الإجابة عن هذا التساؤل انطلاقا من قراءة بعض النماذج الشعرية من قصائد ديوان احتراق .
إن الشاعرة الرامي قد رمت بسهامها الناعمة التي اخترقت المستحيل، فأصبحت رمادا حسب قولها.
وهنا يحق لنا أن نتساءل : أيكون هذا المستحيل هو التقاليد العربية التي تكبل فكر المرأة، فتكبح جماحها في التعبير عن كل ما يخالج هواها؟ أم هو عجز الآخر عن فك شفرات الهمسات الوجدانية الرقيقة؟
إن الشاعرة استطاعت أن تتجاوز العادات والأعراف، وتختار التعبير عن مكنوناتها بكل طلاقة وحرية، وتنتقي من درر الكلمات أبهاها، وتشكل من الرموز والاستعارات أجملها، وترسم من اللوحات عبر السطور أروعها، لتسمو بنا إلى عالم الخيال والمتعة، لنسبح في خضم بحور الشعر الحر، الذي لم يتحرر في ديوان احتراق" من قيود القافية والروي والأوزان فقط، وإنما تحرر كذلك من قيد الأعراف التي تكبل حرية المرأة العربية بشكل عام ، وتجعلها حبيسة أدوار محدودة.
و هكذا فالشاعرة نعيمة الرامي تعتبر مثالا للمرأة الأبية، التي جعلت من الكلمة سلاحا يواجه الخوف، ويحرر اللسان من قيوده، ليُعلِن للعلَن أنه قادر على البوح بكل ما يعتري القلب من فرح وأشجان، وكل ما يخالج الوجدان من فرح وألم، لتصنع الكلمات من الألم أملا يداوي الجراح، ويشفي الأسقام التي ما إن تكاد تندمل وتشفى حتى تجدَ نفسَها تتوق للحياة من جديد و هكذا تنبعث الشعلة من رمادها، متوهجة في عنان السماء.
إن كل المشاعر التي عبرت عنها الشاعرة بين سطور قصائدها الشعرية بديوانها احتراق تعد همسا وجدانيا و فكريا يتحدى جدار التدليس و يصارع وهم الأقنعة لتحترق الأفكار السلبية و تتحولَ إلى رماد منسي عبر حروف و كلمات نسجتها الشاعرة و هي تعبر عن رفضها لمتاهات الزيف أو التخفي وراء ارتداء أقنعة تزيد المشهد بشاعة، لتعود الشاعرة لمناجاة لحظات الحنين علَّها تواسي بها ذاتها.
ثم تنتقل بنا في خضم هذه الأمواج العاتية لتسلط الضوء على الوجه الجميل من الآخر باحثة عن سُبل السِّلم والأمان داخل وخارج أسوار الحرية، فالشاعرة لا تعترف بقاموس الضجيج، بل تقر بين ثنايا السطور أنه أحيانا مهما حاولنا معرفة الآخر فإننا قد نصطدم بجدار من ضباب يحول بيننا وبينه، يجعلنا عاجزين عن إدراك جوهر الآخر وحقيقتِه، نظرا لحاجز الأقنعة التي تنكشف حقيقتها رغم الزيف و محاولة التخفي .
كما نجد أن الشاعرة تتناول قضية المرأة إذ تُشَّبه الأنثى بفاكهة الموز فهي سهلة التقشير، ناعمة الملمس، فائقة الجمال، حلوة المذاق، لذيذة المطعم ومع ذلك فهي قوية و إن تظاهرت بعكس ذلك .
وهذه همسة ضمنية من الشاعرة إلى الاهتمام بالمرأة باعتبارها الجنس اللطيف، الذي يستحق الغنج والدلال مع عدم الاستغلال، فهي الأم والأخت والإبنة والزوجة تستحق من العزة والشرف أكثر مما يستحقه أي كائن آخر على وجه البسيطة.
ثم تدعو الشاعرة المرأة في نفس السياق إلى ضرورة إعمال البصيرة، فليس كل من ادعى الهوى متيم مغرم، لأن قاموس العشق متعدد ويقبل الانزياح.
وهذا ينطبق على الذات الإنسانية، منها ذلك الذي لا يهتم إلا بربطة عنقه، مُتقِنا لفنون الخداع، مُجيدا لمهارات انتحال صفة العاشق الولهان . و هنا يحق لنا أن نتساءل : أليس من المفروض أن يكون الآخر رمزا للسمو و القدوة؟ أليس الأجدر أن يكون المثل الأعلى؟
تتوصل الشاعرة إلى أن البدايةَ طريقُها أشواك ومتاهات، لا دواء لها ولا بلسم سوى العيش على أمل النسيان و دروبه، بعيدا عن خوض غمار حرب الغضب التي يَزِلُّ فيها اللسان. إن الشاعرة هنا تُتَرجم لنا غضبها عبر حقول بياض الصمت، وفي أعالي أبراج الرقي حيث تسمو بها عن السقوط والاندحار.
لهذا نجد عبر القصائد سلسلة من اختيارات تنحو منحى الغوص في أعماق الذاكرة، كي لا ينقلب العرس مأتما، فيحرق الكبرياء أوراقها، ويفسد الخداع شذاها، ليُسدَل الستار على مشاعر الحب التائهة، وتتهاطل الدموع من المُقل رثاءً لقصة عشق انتهت ، جاعلة من الحروف و الكلمات رمادا، حيث نَثَرت في سمائه غبار حبٍّ يتيم، شرب من خمر العشق حتى الثمالة، وعندما استفاق من سكره تجرع مرارة الزيف ، وثار ضد عدل المنطق الرافض للخضوع، واضعا الحب واللاحب في ميزان واحد، ليكون وجوده و عدمه سيانِ لديها، كلاهما يشير إلى سقوط أوراق الخريف معلنا غياب المثالية المنشودة، لتكتمل فصول حكاية حب أعزل، أبى إلا أن يُبعث من رماده في رحلة بحث جديدة عن توأم روح يشفي الجراح العليلة، و يسترجع أحلام الطفولة البريئة، ويعيد جنون الشباب، لعل حبل الود يوصِل ما انقطع، وتعود ليالي السهاد مزهوة.
هكذا تشبثت الشاعرة بالأمل من جديد واستعادت القصائد أنفاسها، وتخلصت من عبء صخرة سيزيف التي أثقلت كاهلها، فألقت بأشجانها في يم النسيان، مصافحة يد السلام نحو الأفق البعيد، لتحلق نحو الأعالي، حيث البداية الجديدة، حيث الأمل يزهر بوروده الحمراء، حيث العصافير تشذو بتراتيل عصفور ملائكي ولد من قلب احتراق دون كلل أو ملل.