|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
«النبطي المنشود» لصفاء الحطاب رواية تستكشف كنوز مملكة الأنباط الحضارية
عاشقة
الصحراء :
د. ضياء الجنابي تتسم الأعمال الروائية للكاتبة الأردنية صفاء صبحي الحطاب بأنها حلقات مترابطة يفضي بعضها إلى بعض، وتشكل بمجموعها سلسلة روايات هادفة متتالية ضمن رؤية واضحة يستبطنها مشروعها الموسوم بعنوان سلسلة «الحضارة المفقودة» الذي تهدف الكاتبة من خلاله إلى استكشاف كنوز وألغاز الإرث الحضاري الكبير للأمة، وبالذات مملكة الأنباط العربية الغنية بمعطياتها العلمية والمعرفية التي لها حضور واضح في سجل التاريخ الإنساني، وقد ازدهرت هذه الحضارة في شمال شبه الجزيرة العربية في القرن الثاني قبل الميلاد، وظلت معالمها الآثارية شاخصة شامخة تتحدى الزمن وعادياته وعوامل التعرية الطبيعية والظروف التاريخية الصعبة التي مرت بها المنطقة إلى يومنا هذا. يتجلى مشروع صفاء الحطاب من خلال بعدين مهمين هما؛ البعد الإبداعي والبعد التربوي، وتبغي الكاتبة من خلال الموازنة بين هذين البعدين الوصول إلى المحتوى الهادف الذي تسعى إليه بجدية وبشكل حثيث والذي يتمثل بإغناء ثقافة النشء الجديد والأجيال القادمة وتعميق رؤاهم الفكرية وربطهم بتاريخهم المجيد دون إغفال البعد الجمالي، وهذان البعدان شاخصان في جميع أعمالها الروائية ومن بينها رواية «النبطي المنشود» التي تقوم الكاتبة من خلالها بإعادة الحياة للآثار الموثقة على الصخور والمدن الحجرية الكبرى باعتبارها شاهدة على حقب طويلة من الزمن وكونها وثيقة علمية تاريخية توكد المستوى الحضاري الرفيع الذي بلغه الأنباط وخصوصاً في مدينة «الرقيم» عاصمة الدولة النبطية والتي كان اسمها القديم «سلع» ويعني الشق، وهذا يشير إلى القدرات الإنسانية الهائلة التي تعاملت مع الحجر وشققته بطواعية وتمكنت من تحويله إلى مدنية متقدمة في عصرها، وحضارة يشار لها بالبنان على مر العصور، ويمكننا الإشارة إلى أن مدينة «الرقيم» قد اتسمت بأنها ذات تخطيط عمراني لافت، منحوت بشكل عبقري، جميل بصرياً ومخفي في ذات الوقت في الوديان الصخرية سحيقة العمق بحيث كانت شامخة ومستعصية على الأعداء والمتربصين، ما يصعب اختراقها والدخول إلى باحاتها، إلّا من قبل أهلها وأبنائها الذين يعرفون مسالكها ودروبها، وظلت هذه المدينة لقرون طويلة تستبطن سحراً غامضاً يحمل في طياته فكراً عميقاً وجمالاً خلاباً منقطع النظير، وقد أطلق الرومان عليها تسمية «بترا» وتعني الصخرة في اللغة اللاتينية، وهي الآن تمثل مدينة البتراء الكائنة في المملكة الأردنية الهاشمية. من خلال رواية «النبطي المنشود» تحاول الروائية الأردنية صفاء الحطاب إعادة نسغ الحياة في الآثار النبطية وتدعو إلى عدم التعامل معها على أنها مجرد أحجار صماء نقشت عليها بعض الدلائل المعرفية والحضارية فحسب، بل هي جهود إنسانية نابضة بالحياة على الرغم من الزمن الطويل الذي مر عليها، وكأنما الحطاب بذلك تريد أن تنفخ في أوداج هذه اللقى روحاً جديدة لتفصح عن نفسها بصياغات حيوية ولغة إبداعية وأحداث معيشة ينبض في عروقها شريان الحياة، كما أن الحطاب في ذات الوقت لا تقيد حركة الحدث الروائي أو تحيّده في بقعة محددة داخل الحدود الجغرافية للمملكة الأردنية الهاشمية حيث توجد عاصمة الأنباط، وإنما تتحرك عبر نسج روائي جميل في أكثر من موقع في الأرض العربية، أينما حط الأنباط رحالهم فيها، بصرف النظر عن الحدود الدولية الحالية، ومن بين ذلك توثيق اكتشاف ميناء نبطي في منطقة تبوك في المملكة العربية السعودية، لتعيد إلى الأذهان أيام المجد والمنعة والثقة بالنفس التي كان عليها العرب في مخر عباب البحار عبر الأسطول النبطي العربي، وكذلك توثيق حدث اكتشاف المنقلة الفلكية على رأس الهرم الأكبر في الجيزة والتي تناظر في تصميمها تلك الموجودة في مدينة البتراء، وكذلك اكتشاف قبة فلكية في معبد «دندرة» في مدينة الأقصر في جمهورية مصر العربية، وهي مثيلة لأختها في قصر «عمره» الأثري في منطقة الأزرق الأردنية، كما تستعرض الرواية حادثة سرقة بوصلة تعود للحضارة النبطية في صحراء سيناء. وبهذا استطاعت الكاتبة الروائية صفاء الحطاب زج المحتوى المعرفي الموثق والدقيق الذي يدخل ضمن دراسات حقل التاريخ في البناء الدرامي لرواية «النبطي المنشود» وبأسلوب سردي سلس محبب لذائقة الفئة العمرية المتمثلة بفئة الفتيان واليافعين، حيث جعلت أبطال الرواية على صلة حميمة بالآثار، وبالذات البطلين الرئيسيين «معمر» وزميلته «سونيا» اللذين جعلت منهما باحثين تتاح أمامهما فرصة الاشتراك في أكثر من مؤتمر علمي متخصص بعلم الفلك والآثار التكنولوجية المتعلقة بالحضارة النبطية وموضوعات أخرى ذات صلة على أصعدة عديدة محلياً وعربياً ودولياً، وقد كان أحد الأبحاث المشاركة في أحد هذه المؤتمرات التي تشير لها الرواية على سبيل المثال لا الحصر موسوماً بعنوان «الآثار والتراث الفلكي في الحضارات القديمة»، وبحث آخر موسوم بعنوان «الحضارة المصرية القديمة تحفة الحضارات الشرقية»، وكل ذلك يشكل جهد بحثي يدخل ضمن رؤية مشروع الكاتبة الذي يهدف إلى إعادة كتابة تاريخ حضارة الأنباط وتسليط حزم من الضوء الكاشف وبقدر كافي على معطياتها ونتاجها الحضاري. رواية «النبطي المنشود» حلقة مهمة في السلسلة الروائية التي صدر منها لحد الآن أربع روايات هي على التوالي؛ رواية «لصوص الآثار»، رواية «صندوق صقلية»، رواية «النبطي المنشود» إضافة إلى رواية «نفرتاري الرقيم»، ومن أهم ما يميز هذه الروايات كخط عام، هي أنها هادفة وموجهة إلى فئة الفتيان، وهذه الالتفاتة بحد ذاتها تعد رسالة مهمة سامية معبئة بالقيم التربوية وغنية بالمحتوى المعرفي الرصين إضافة إلى تأطيرها بالمحتوى الجمالي والتشويقي لجذب الفئة المستهدفة من القراء، ومن ثم إيصال القيم الإنسانية النبيلة المشبعة بحب الأرض والوطن والمعززة بالقيم الأخلاقية والتقاليد العروبية الأصيلة من قبيل الشجاعة والكرم والحمية والوفاء والإخلاص والعفو عند المقدرة وما إلى ذلك من مكارم الأخلاق والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقيمنا السامية والقيم الإنسانية العليا، إضافة إلى ذلك اعتمدت الكاتبة الحطاب في جميع رواياتها أسلوباً سلساً رائقاً وثرياً بالمعلومات التاريخية الموثقة مع التنويع في المشاهد الدرامية والحبكة الروائية لخلق الدهشة لدى النشء الجديد الصاعد دون أن تتخلى عن مقومات الرصانة الإبداعية والقيم الجمالية. من جانب آخر فإن جميع روايات هذه السلسلة تميزت برصانتها لغوياً وبنائياً وبقالبها السردي العجائبي الذي يعتمد على دلالات الخيال والاندهاش والباراواقعية، مع إصرار الكاتبة على النأي عن السفسطائيات وعدم الخوض في الأبعاد الفلسفية التي تبعدها عن الهدف المطلوب، كونها تخاطب اليافعين، وهم الفئة العمرية المعنية، وبالتالي يحتاج التعامل مع أبنائنا من الجيل الصاعد إلى الوضوح وعدم التعقيد لا سيما أنهم يرزحون تحت تأثير العولمة وشبكات التواصل الاجتماعي التي تهدف إلى سلب الهويات الخاصة للشعوب، وقد تمكنت الكاتبة بالفعل من التعامل الحذر الواعي مع التأريخ في كافة مناحيه الثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية، واستطاعت أن تتفاعل معه بطريقة منهجية أكاديمية في إطار فني معبأ بالقيم الجمالية ضمن بناء متماسك أعمق من كونه مجرد سرد ينطوي على قصة عابرة ولدت من نسج الخيال، على الرغم من أن الأسلوب في مثل هذه الحالات يحتاج إلى الحكائية أحياناً، وذلك من أجل غرس الفكرة المتوخاة بأريحية في ذهن المتلقي، وإيصال الرسالة المطلوبة بطريقة ذكية وجميلة مضوعة بأريج الهوية الوطنية وقيم الوفاء لها، وهذا ما يسهم في تدوين التاريخ في ذاكرة الأجيال وحفظ تفاصيله الجزئية، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الكثير من القراء لا يعبأون بكتب التاريخ التي تعنى بحضارات المنطقة، ويفضلون قراءة القصص المثيرة والروايات الحديثة، ومن هذا المنطلق استوعبت رواية «النبطي المنشود» قضية مهمة وحساسة تتعلق بتاريخ وتراث هذه البقعة المشرقية وحضارتها المتميزة الخالدة. على صعيد آخر تمتاز الروائية الأردنية صفاء صبحي الحطاب بامتلاكها بصمة فنية خاصة، تفصح عن هوية إبداعية متميزة ناجمة عن إحساس الكاتبة العميق بالمفردة والتجليات المؤثرة للّغة إلى جانب شعورها العالي بالمسؤولية وتصديها بكل ثقة للاضطلاع بمهمة فكرية تربوية بالغة الأهمية، ولم يكن ذلك بطبيعة الحال محض صدفة عابرة ولا مجرد أمر طارئ حصل جراء لفتة غير مقصودة، بل هو بناء تراكمي لمشروع تربوي حضاري وضعت الكاتبة لبناته الفكرية والجمالية بعناية فائقة ورعته بمثابرتها الدؤوبة وإصرارها على مواصلة منطلقاتها وتطلعاتها الفكرية والفنية المصحوبة بوعي عميق بمخاضات العملية الإبداعية، ويعزز ذلك ذوق رفيع في التعامل مع الأشياء، وقد حققت ذلك فعلاً من خلال أعمالها الروائية والبحثية التي انتظمت كأحجار كريمة في عقد ثمين. ونستخلص من خلال متابعة أعمال الكاتبة صفاء صبحي الحطاب ومشاركاتها الواسعة بالندوات والمؤتمرات التي تعنى بالتاريخ العربي وآثار المنطقة، أهمية مشروعها المهم والحيوي، كما يمكننا كذلك تحديد الخاصية التي تتميز بها سلسلة «الحضارة المفقودة بمسارين أساسيين؛ الأول يتمثل بالنهج الفكري التربوي الهادف الذي تلتزم به الكاتبة ولم تتخل عنه في كافة نتاجها الابداعي وأنشطتها الفكرية والبحثية والمجتمعية على حد سواء، والمسار الثاني يتمثل بالبعد الفني الجمالي الشفيف الذي كسر القشرة الخارجية الصلبة المتحجرة للموجودات ونفذ إلى دخيلتها وراح يلون البقع الباهتة ويضيء البؤر المعتمة في قضية ذات صلة بعلم التاريخ عبر دراماتيكية السرد الروائي، وكلا هذين المسارين يقفان على أهمية بالغة في مثل هذا النوع من الأعمال الروائية، وقد تجلى ذلك واضحاً في رواية «النبطي المنشود»، إذ استطاعت الكاتبة خلالها مسك العصا من الوسط كي تحرك رؤاها النظرية وهواجسها الجمالية بالاتجاه الذي تشاء ومتى تشاء برشاقة ودراية وعناية فائقة، لذلك فالرواية لم تأبه بالنقل الحرفي أو التوثيق التراتبي لمجريات الأحداث التاريخية، ولم تهتم برسم نسخ مكررة لشخوص الواقع، ولا قامت كذلك بمجرد وصفها وصفاً دقيقاً، لكنها في المقابل نزعت إلى الحفر في منطقة وسطى بين محمولات التاريخ وشفافية الحس الإنساني، وبالتالي أصبحت الأمكنة والأزمنة مؤنسنة وأليفة، بيد أنها ليست بالضرورة نفس أمكنة الحياة العادية وأزمنتها، وكل ذلك مع نزوع مبدئي يتجسد بالمحافظة على معيار الأمانة والمسؤولية التاريخية. جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: السبت 30-03-2024 01:42 صباحا الزوار: 276
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
قراءة في رواية «النبطي المنشود» لصفاء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-09-2024 |
«اليركون» لصفاء أبو خضرة... بناء ملحمي ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 04-07-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 09-06-2024 |
إطلالة على رواية «العبور على طائرة من ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 22-02-2024 |
قراءة في رواية صفاء أبو خضرة «اليركون» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 14-02-2024 |
«العبور على طائرة من ورق»... رواية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-01-2024 |
رائدة الطويل في رواية «عابرو حريق»... ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 17-12-2023 |
الخطاب المزدوج في «قطة شرودنجر» لسامية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 01-09-2023 |
نظرات في روايتي «خلق إنسانا» و«أنا مريم» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 15-08-2023 |
قراءة في رواية( عشرُ صلواتٍ للجسد) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 24-07-2023 |
"القدس بالرواية العربية" ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 04-07-2023 |
قراءة في رواية «ثلج أحمر» لأمل أبو سل | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 26-05-2023 |
سحر الرواية وتاريخ المدن | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-05-2023 |
قراءة انطباعية في رواية "77 ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 06-04-2023 |