عندما كتب عبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا روايتهما المشتركة « عالم بلا خرائط» جاءت الآراء متفاوتة بين مؤيد ومعارض لكتابة رواية يشترك في إبداعها أكثر من روائي؛ لما يقتضيه الفن الروائي من إحكام للبناء الفني والصياغة اللغويّة  المنبثقة عن مشاعر كاتبها، ومعاناة شخوصها، وتبنيها لرؤيا مبدعها، وهي رؤيا تنبثق من تفاعل العقل والعاطفة يتشكّل فيها العمل الفني من منابع ثقافة مبدعه التي تساعد في تدعيم كتابته برؤى فكريّة خصبة.
يواجهنا الروائي جلال برجس ورفاقه برواية أبدعها تسعةُ روائيين، وهي رواية «حكايات المقهى العتيق» التي تنهل معينها الروائي من مكان واحد هو «مأدبا» المكان والإنسان، وهذا  ـ في  اعتقادي ـ عمل فني غير مسبوق على مستوى الكتابة الروائيّة العربية، حيث نقرأ مأدبا روائيّاً منذ الحقبة المؤابية حتى تاريخ تأسيس إمارة شرقي الأردن عام 1921م. إذ سعى الكتّاب ـ جاهدين ـ من خلال الرواية إلى تغطية الحُقب الزمنية المختلفة لمدينة مأدبا منطلقين من الجنس الأدبي (الرواية) التي تستوعب التاريخ والمجتمع والإنسان.
ما أجملَ أن تكتبَ نصاً سرديّاً يتغلغل في المكان، ويكتنه روحه وتفاصيله الرائعة، لكن ما أصعبَ أن تجعل المكان نصاً ثائراً عاصفاً بالمشاهد واللوحات والتفاصيل وبخاصة عندما يكون مكاناً عظيماً بحجم مأدبا  المدينة والإنسان والتراث، إذ تمتاز هذه الرواية بنجاح مبدعيها في الخروج من نطاق مأدبا المدينة إلى مأدبا المكان التراثي بتجلياته وانبعاثاته الوجدانية، حيث نقرأ في صفحاتها أمكنة لا تنفصل عن تاريخ مأدبا مثل ذيبان وماعين وصولاً إلى ناعور.
إنّ توافق مجموعة من مبدعي مأدبا(جلال برجس، يوسف غيشان، علي شنينات، سليمان قبيلات، نوال القصار، بكر السواعدة، إسلام حيدر، عيسى الحميد، بلقيس العجارمة) على إبداع حكايات المقهى العتيق كشف عن انسجام وتناغم بين النصوص المكتوبة التي جاءت في تسع حقب زمنية، فضلاً عن نجاح المبدعين في المحافظة على تماسك البناء الروائي رغم تعدد الساردين، ممّا وفّر عنصر التشويق وأظهر جماليات اللغة رغم التفاصيل التاريخية التي أذابتها إنسانية الشخوص وعمقها الحضاري.
لقد امتلكت مأدبا في الرواية قدرة مذهلة على توحيد الرؤيا وإشاعة الفكر الحضاريّ المشرق ؛ فجميعهم ينهلون من معين تراثي وحضاريّ واحد، فكان المقهى منبع الحكايا ومبعث السرد، وما نعت المقهى بالعتيق إلا تعميقٌ لطابعه التراثي، وتبيان لعمقه الحضاري.
إذا كانت الكتابة المشتركة في الرواية مغامرة لا يخوض غمارها إلا المبدعون الذين أجادوا سرد التفاصيل والبوح بسرّ التكوين، فإنّ مأدبا ملهمةٌ أيضاً بهذه التفاصيل ، ممّا يعني أن رسم عالم روائي متخيّل ومتكوّن في الوجدان وراسخٌ في الذاكرة أمرٌ واضح وبالغُ الدهشة في حكايات المقهى العتيق، فهي حكايا لا تنضب ولا تغادر قلوب عاشقيها، تُسرد لتخلد، لكن ببهاء الرواية وتقاليدها الموروثة لا بسلطة التاريخ وواقعيته السردية؛ فذيبان لم تُسرد تاريخاً صافيّاً بل جاءت (نبوءة مؤابيّة) يسرد تفاصيلها (الدكتور مؤاب) الشخصية المتخيلة والمركزيّة المؤسسة للأحداث،والباعثة على السرد والتغلغل في فصول الرواية وحقبها التاريخية التي انبعثت روائيّاً بلغة الرواية المدهشة، وسحرها الخاص، ممّا حررها من سطوة التاريخ ورتابته أحياناً، فكانت النبوءة المؤابية أكثر وضوحاً في عنوانات فصول الرواية الأخرى: شوكة أشوريّة، وقصة حبّ نبطيّة، وجبل الخطيئة، والوردة السماوية، والعائد، وهاري سانت جون فيلبي، وشجرة الحنين، وحوطة أبو ذر.
يمتلك المقهى في التجربةالسرديّة دلالات عميقة ذات تأثير في المتلقي، إذ تتصف حكاياه بأنها تمثل قاسماً مشتركاً بين كثير من المتلقين وذات التصاق بالحياة اليوميّة، فضلاً عمّا يعكسه من كونه ملتقى زاخراً بالنشاط الإنسانيّ الفاعل، ممّا جعله يحمل تراثاً شعبيّاً وسرديّاً في الوقت نفسه. حيث بقي المقهى في الحياة العامة رغم التطور التكنولوجي وكثرة وسائل الترفيه، ممّا يعني أنّه تجاوز وظيفته الجماليّة إلى وظيفة حضاريّة موغلة في القدم والحفر المعرفيّ في الثقافات والتاريخ.
إنّ المقهى بوصفه مكاناً واقعيّاً يُضفي على الرواية فاعلية فكريّة وروحاً فنيّة حاضنة لفعل السرد، يمنح الشخوص بعداً فكريّاً يساعد على بعثهم بطابع روحيّ عميق، وهو في رواية ( حكايات المقهى العتيق) يكشف عن بعد تاريخي يشتبك فيه التاريخي بالاجتماعي، والسردي بالتخييلي.مقهى حكايات مأدبا يختلف عن مقهى نجيب محفوظ أو حتى مقهى جمال الغيطاني، هو بؤرة مكانيّة ذات إشعاع زمني موغل بسرد التفاصيل وسرد العوالم الماضية، مقهى مليء بالأحداث المثيرة والتحولات المؤثرة، والإيقاعات العذبة.إذ نجح سارد الرواية في جعله متحفاً تراثيّاً ذا قيمة تعبيريّة يسرد تاريخ مأدبا، ويربطها بحاضرها المشرق.
ظهر المقهى في الروايةبأبعاده الواقعيّة والمتخيلة مرتبطاً بالتاريخ وشخوصه في منظومة سرديّة ذات إيقاعات نفسيّة وحركيّة واضحة؛ فالمقهى يمارس فعل السرد وتأطير الأحداث زمنيّاً كذلك نجح الساردون في إبراز دور المقهى في إثارة خيال المتلقي بتحولات الزمن المستمرة وحركة الشخوص الفاعلة إبرازاً للعمق الحضاري الذي تجسّده مدينة مأدبا عبر العصور.
لعلّ ممّا يُسجّل للرواية نجاح مبدعيها في إبراز تقاطعات المكان المأدباوي جغرافيّاً وتاريخياً ومتخيلاً ، وإخراج المكان من حيزه الجغرافي الضيق إلى فضاءات أرحب صاغتها الحضارة، وأبرازها الفعل الإنساني الراقي الذي امتازت به شخوصها.
يرى (جيرار جنيت) أن حركة الحدث الروائي في النص السرديّ لا بدّ أن تنتظم ضمن منظور مكاني يحيط بالحدث، إذ إنّ تصوّر مدلولات واضحة للمكان يُسهم في تعميق الفعل السردي والانتشاء بوقائعه.
أمّا (باشلار) فتحدث في (جماليات المكان) عن أثر المكان في تكوين وعي الشخوص النفسي، إذ إنّ أوليّة المكان في حياتنا تترك أثرها في اللاشعور، هكذا كانت مأدبا في الرواية تُعيد إنتاج صورها من جديد ومن حقبة إلى آخرى؛ لتظهر أكثر بهاء وألقاً.
وذهب (رولان بارت) إلى أهمية التفاصيل المكانية في صياغة المتخيّل السردي، لذلك فإنّ انبعاث رؤية العالم من المقهى في الرواية بات واضحاً، وهي رؤيا حضارية تستعيد مناخات ملهمة وتحولات إجتماعيّة فريدة، حيث توالي حلقات السرد الأمر الذي حرر الرواية من الوثائقية لتصبح أكثر تخييلاً.
لقد نجح كُتّاب الرواية في تحريرها من المسار التاريخي؛ لتدخل في المسار السرديّ الذي أخذ ينمو منذ الصفحة الأولى لا بل ومن العنوان الذي فتح الباب واسعاً على كلّ الاحتمالات الممكنة نحو التصعيد السرديّ والإثارة الدراميّة.
توزعت المقاطع السرديّة أو التمفصلات السرديّة عبر حقب تاريخية (زمنية) تقوم على تحقيب السرد الحكائي وفق محورين متوازيين: الأوّل ، الزمن الداخلي للرواية الذي يقوم على متواليات سردية تتابع فيها الأحداث بحبكات متداخلة، والثاني، الزمن الخارجي الذي يخترق النص بإحالاته على الواقع ليتقابل مع البنية التاريخية العامة للرواية.
نقرأ في الرواية حوارية مذهلة للزمن بنوعيه الداخلي والخارجي، فكثير من مسرودات الرواية اختلطت فيه الروايات التاريخية بالخيال من خلال ما يمكن تسميته بالمحتمل التاريخي، ممّا جعل الرواية تتحرك في حيّز مكاني بقيمه الاجتماعية وأبعاده الفكرية وانبعاثاته التاريخية.
لقد استقى الكتّاب مادتهم الروائية من كتب التاريخ والروايات الشفهية وقصص البطولة ، ومعايشة مختلف الفئات الاجتماعية لساكني مأدبا بحكم تنشئتهم فيها بعيداً عن الشخصيات المصنوعة ، بل جاءت الأحداث ضمن نطاق سردي حركيّ مليء بالتحولات وتتابع الأجيال في ظل تغيرات ثقافية وسياسية راصدة لظواهر حضارية أسهمت في تكوين مدينة مأدبا.
إنّ خضوع الشخصيات الروائية للسياق التاريخي وبتقنيات الرواية أفرز تعددية في الأصوات والحوارات، وقدرة على التقاط التفاصيل المنسيّة، حيث ينقل الكتّاب تصورهم للعمل السرديّ من خلال احتواء التاريخ وتفاعلهم معه؛ لاستنباط مادة أدبية في بناء روائي بعيداً عن تدوين التاريخ ، وإنما إبراز وهجه الحضاري بوعاء الأدب.
لقد نجح كتّاب روايات (حكايات المقهى العتيق) في تصوير الملامح الفردية والحضارية للشخوص بآمالهم وأحزانهم والذهاب بعيداً إلى أماكن وتفصيلات منسيّة في كتابات المؤرحين عن مأدبا، وكتابة ما يمكن تسميته بالتريخ الاجتماعي لمأدبا بمزج التاريخي بالدرامي بالسردي بعيداً عن لغة الأرقام الرياضية والوثائق التاريخية، بعدما أطلق الكتّاب خيالهم دون تزييف التاريخ أو الإخلال بحركته المستمرة، بل جاء خلق الشخوص الروائية وابتكار الأحداث في إطار الحقائق التاريخية التي مرّت بها مدينة مأدبا والالتزام بالصدق التاريخي والصدق الفني.