|
عرار:
عمان - د. ريمان عاشور نبض ثوري عروبي وقومي، وقلم ثائر، ما انفك يكتب عن آهات الأوطان العربية وفي مقدمتها فلسطين، وهو الشفيف الرقيق إذا ما كتب عن عاشقة مرَّت في الأفق فهزَّت مداده وحثته على توليد قصيد في الهوى.. هو الدائب على تناول الشخصيات الفلسطينية المؤثرة لينثرها على أوراق الجيل الصاعد كيلا ينسوا.. وكيلا ننسى الواجب المحتم علينا أمام ملء جوف أبنائنا بما كان وجرى.. إنه الشاعر هشام عودة، الذي صدر له في نهاية العام الماضي (ديوان هشام عودة 1989-2019)، والذي ضم بين صفحاته 7 مجموعات شعرية صدرت للشاعر من قبل في الكويت وبغداد وعمان، وهي على التوالي: «حواريةُ الجمّيز والحجارة»، 1989، الكويت، و»أمير مجدّو»، 1993، بغداد، و»دفاعًا عن اللحظة الراهنة»، 1994، بغداد، و»أسئلةُ الوقت»، 2014، عمّان، و»رفيفُ الكلام»، 2015، عمّان، و»أقتفي خطو ذاكرتي»، 2015 عمّان، و»ما قاله الراعي لصاحبه»، 2016. وفيما يلي قراءة في قصيدة (اقتفي خطو ذاكرتي).. لم يبقِ الشاعر فيها على أمرٍ يوشي بذكرى المكان إلا وعرَّج عليه.. شكا له مرة وبكى على أطلاله أخرى مستهلًّا حديثه باعتراف أحضره معه ماثلا أمام قريته حين قال: «ادخرت حنينًا يغطي الجبال ويكفي لميون امرأة في المنافي واخرتُ دموعًا لتغسل حزن السنين العجاف» ها هو يصرِّح منذ البداية بما سيقوله لاحقًا ولماذا سيقول، فوقف عند مرحلة الطفولة يبكيها معه بقجة فارغة حين جلس على أربعين رصيفا، ثم راح يربط بين الماضي والحاضر حين رآه في فتية يذهبون إلى المدرسة وعجوز تعود من الحقل ولحن شبّابة تحتفي مع الأوف والميجنا، مسوغًا اقتفاء خطو ذاكرته بالبوح أمام البيوت العتيقة والأرض والواقفين على شفرة الحلم والذكريات.. ثم يقف قليلا مغازلًا: «كي أرى فتنة الأرض حين تفك جدائلها من وراء الجدار أو أرى وجهها في شقوق السنابل...» وحين فرغ من المكان عرَّج على الزمان قائلًا: «أقتفي خطو ذاكرتي في الصباح المبلل بالغيم والمطر المُشتهى منذ خمسين عامًا وقفتُ هنا» ثم عاد لطفولته المبكرة في قوله: «أقتفي خطو ذاكرتي منذ كانت تنام على شفة الريح طائرةٌ من ورق» وراح يكبر رويدًا رويدًا فصار فتىً ثم شابًا يصارع آهات الوجد والعشق: «يقول لعابرةٍ في الطريق قفي إنها سدرةُ القلب والمرأة العاشقة على بعد خمسين عامًا تجمعت الريح في كفها» ليهيئ المتلقي للمشهد الأكثر حزنًا وتأثيرًا في هذه السيرة الاسترجاعية مشهدًا يُعدَّ بؤرة الألم حين يمسي الألم ألمين: فقدان وطن وفقدان أم..يقول: «أتحسس وجه المكان الذي كان لي ذات يوم بعيد لا أرى وجه أمي» ليمرَّ بعدها بلحظات تمثلِّ صدمة إذا ما تعرض الإنسان لحادث جلل هزَّ كيانه.. ففي الوهلة الأولى يفقد خريطته بل أحيانًا يفقد بصره لبرهة من الزمن.. ظهر ذلك في قوله: «وضاع الطريق إلى الذاكرة وحدها السروة العالية وحدها أدركت ما يجول ببال الفتى فانحنت» وبعد الصدمة حضرت مرحلة الإنكار وعدم التصديق فراح الشاعر يفتش عن إخوته: إلهام ومحمود ودينا وعن قصة جمعتهم لعله يخرج من صدمته ويعود إلى أناه... ليعود بعدها إلى الاستسلام الموجع والحزين: «حملتني القصيدة خمسين عامًا وحين افترشتُ الطريق إلى لغتي لم أجدني وجدتُ الضبابَ وجدتُ الترابَ وجدتُ الغياب ولكنني لم أجدني» وقع الشاعر في شراك التيه والضياع.. وقع ما بين بين.. لا هو ذاك الوطن المرتسم في ذاكرة طفولته ولا هو ذاك الجديد الذي يعرفه ليسلم عليه ويأخذه بين أحضانه.. هي تلك الفجوة الزمانية والمكانية التي عاشها الشاعر في رحلة الغياب ثم خلقت ذاك الفراغ وتلك الوحشة التي افترست الشاعر في اللحظات التي واجه فيها الحقيقة.. ولعلَّ أكثر مشهد هزَّ أركان القصيدة الطويلة التي بين أيدينا هو مشهد وقوف الشاعر عند ضريح أمه: «وقفتُ على طرف القبر أسأل عن لحظة لم أعشها وعن لحظة سرقتها البلاد الغريبة من دفتري وقفتُ أردد ما كنتُ أحفظه من قصار السور تحسستُ شاهدة القبر قلتُ بصوتٍ خفيضٍ: تأخرتُ عشرين عامًا فهل تغفرين؟» جاءت صيغة الاستفهام في قوله»هل تغفرين؟» مثقلةً بالآهات ووجع الذي ما بيده حيلة سوى الترجي أن يُغفر له.. شعور بالتكبيل والقهر والإبعاد ثم الفقد والبكاء المرير: «سالت دموعٌ مخبَّأةٌ في قميص السفر» لم يستدعِ هذا القميص معنى سوى معنى النفي خارج الوطن وكل الأحزان الحاضرات وقت المغيب ولا شيء غير هذا المعنى الوجيع.. «أقتفي خطو ذاكرتي» هي متتابعات متأوهة نابضة بالعالم النفسي الذي سكن الشاعر حين زيارته لبلدته من جهة، ومن جهة أخرى تمثل تأريخًا للغياب الجمعي الفلسطيني المتشرد في كل أنحاء البقيعة.. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 02-05-2020 02:30 صباحا
الزوار: 452 التعليقات: 0
|