|
عرار:
بقلم رحمة الله أوريسي/باحثة وناقدة جزائرية يقول رولان بارت: «يبدأ النص غير الثابت النص المستحيل مع الكاتب»أي مع قارئه»» يقال إن اللذة أمر لا يصدق فهي؛ أمر غير معقول، بل أمر غير قابل للعقلنة. ولكن يبقي عليّ أن أقول :إني أعشق اللغة، فإذا أعلنت عشقي للمحبوب أعلنت عشقي للمكتوب، هكذا قال رولان بارت عن اللذة، وهكذا يُقحمنا الشاعر الأردني»لؤي أحمد» في علاقة وصال، ويستدرجنا من خلال قصيدته «شيخ الطريقة» تاركا لذة مختلفة عالقة في ذهن كل متلقٍ وسامع لهذه القصيدة؛ فبعيدا عن جملة المفارقات التي صنعها الشاعر داخل المتن من حيث الدلالة، هناك جملة أخرى من المفارقات الشكلية جسدها على مستوى الإيقاع/ المستوى الصوتي، وبين الشكل والدلالة تتمظهر اللذة أو الشعرية أو جماليات هذا النص الشعري. يفتتح الشاعر نصه بعنوان «شيخ الطريقة» وهو عنوان جعله أيضا خاتمة لها ليحيلنا بذلك على أن قصيدته جسد متكامل من حيث الشكل، بل ربما يحيلنا على أن قصيدته تقوم على وصال جسدي فكل بيت فيها هو عضو من أعضاء هذا الجسد؛ حيث أنهى الشاعر قصيدته بعودته إلى العنوان، وفي ذلك رجوع للبداية، وكأن كل بداية تظل بداية؛ على حد قول رولان بارت، وهنا يجعل الشاعر قصيدته مدورة،تبدأ لتنتهي عند نقطة البداية. وقبل البدء في البحث عن بداية البداية، أو هوية هذا الشيخ في المتن/القصيدة، يمكن القول إن العنوان عبارة عن خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا؛ لأن أصل الجملة: هذا شيخ الطريقة، وهو مضاف والطريقة مضاف إليه. ولكن السؤال المطروح من هو هذا الشيخ؟ ولماذا صاغ الشاعر عنوانه بهذه الشكل؟ لعلنا سنتعرف عليه داخل هذا المتن الشعري؛فلو انطلقنا من طبيعة العنوان: هذا شيخ الطريقة، فبطبيعة الحال ستكون الإجابة في القصيدة؛ لأن اسم الإشارة هذا للتقريب، وكأن الشاعر من خلال هذا الاسم «هذا» يخبرنا ضمنيا بأنه هو»شيخ الطريقة». ينفتح هذا النص الشعري «شيخ الطريقة» على الاستعارات التي اتخذ منها الشاعر واجهة لإبراز قصيدته في ثوب شعري جمالي يليق به، ولا نبالغ حين نقول إنهأجاد في رسم إيقاع القصيدة، الداخلي والخارجي؛ فحرف «القاف»الذي اختاره الشاعر رويا لقصيدته له وقعه وأبعاده النفسية سواء على المستوى الصوتي أو الدلالي؛ ولعل حضور حرف القاف في هذا النص الشعري خلق لحنا فنيا متناسقا شد المتلقي من خلاله، وكل ذلك بسبب النغم الشعري الذي توّلد من وراء القافية؛بدءا من العنوان حتى نهاية النص الشعري، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الشاعر يمتلك أذنا موسيقية حاول من خلالها أن يزيد القيمة الإيقاعية لعباراته ليشد من وقع الكلمة في النفس الإنسانية؛فقوله: العتيقة/حديقة/دقيقة/ مستفيقة/عميقة/غريقة/ريقه/سحيقة/صديقة/خليقة/رحيقه/بريقه/طريق/منجنيقة/عريقة/ حقيقة/سليقة/رقيقة كلها ألفاظ ذات وقع موسيقي تحمل بين طياتها دلالة القوة؛ فالقاف حرف استعلاء، والشاعر هنا معتد بأناه، بل إنهيتحدى النقاد في هذه القصيدة ليبرهن على قوة شعره، ويبرز فرادته الشعرية؛ وما العنوان إلاّ أكبر دليل وبرهان على ذلك؛ فالشاعر استعار من الصوفية مفردة الشيخ؛ والشيخ هو المؤسس الأول للطريق، وهو الشخص المصرح له بتعليم وإرشاد المريدين، والدراويش المستنشقين بالعقيدة الإسلامية، وذلك بعد توثيق الرابطة معه، والشيخ عادة ما يطير بنفسه إلى طريق التصوف، وينظر إليه على أنه سيد الروحية؛ فهو يشكل الولاء الرسمي لتلاميذه، وهنا الشاعر أراد أن يكون شيخ نفسه، بل أراد أن يعرّف النقاد بأنه غير متكلف؛ أي أنه غير مقلّد؛ بل ربما حاول التماهي مع شيخ الصوفية، ليحيل الآخر على أنه يمتلك رؤية شعرية متفردة، يقول الشاعر: قـــبــلَ القصـــــيــــدةِ أَبْــــرمَ النُّــــقـــــادُ عَقْــــــدَ عَـــــــــداوةٍ بيــــــنَ التَّكــلفِ والسَلـــيــــقَـــــةْ بـيـنَ القَـــصـــــيــدةِ والقَــصـــيــــدَةِ شَــــــاعـــــرٌ لنْ يَـقرأَ الشُّـــعَراءُ حِـكمَـــتَـــهُ الرَّقـــيــــقَــــةْ: أَشياخُ شـــعـــري في الطــريـــــق قــتــلتـــهــــم وقتلتُني مُــذْ قيلَ لـي: (شيخُ الطَّريقَةْ) فلفظة النقاد هنا في هذا النص الشعري، لا تحيلنا على النقاد تحديدا بالقدر الذي تحيلنا فيه على كل شخص اتهمه بأنه متكلف/مقلد، فهو يجيب بهذه القصيدة على كل من أبرم معه عقد عداوة، ويتحدى كل من اتهمه بالتقليد والتكرار، ليقول له ها أنا شيخ أشعاري ولا أحد يشبهني إلاّ نفسي. ولعل القصيدة في مجملها توحي بقوة الشاعر، وفرادته الإبداعية في اختزال الكون في جمل مكثفة تحمل في صميمها دلالة عميقة؛ فالشعر/ والبحر/ والليل/والريح/ والنار/ والحب/ والورد/ والذكريات/ والأمس/ والشرق/والموت ماهي إلاّ مفردات تحيل على ذلك، حيث اشتق الشاعر من نفسه ذاتا مسائلة عن دلالة كل ذلك، ليردف إجابته بعدها فقوله: ما البحرُ؟:شـــيخٌ مُـــولَـــــعٌ بالسَّـــردِ يَــــروي قِــصَّـــةَ البـــــحَّـارِ للسُّفـــنِ الـــغَــريــــقَــةْ ما الليلُ؟: عاشــــقُ نــــــجــــمـــةٍ صيفيةٍ في البــــئــــرِ تَـــغسلُ وَجـــهَــهَا لتَبلَّ رِيـــــقَــهْ ما البئرُ؟: خازنةُ الحَصى، عبثُ الطفولةِ بالصَّدى في جَرَّةِ الريحِ السَّحيقَة ما الريــحُ؟: ســـيَّــدةٌ تُــطــيِّــــرُ شَـــالَـــــهـا كي يَـــسقُطَ الصيَّـادُ بالــنَّـــارِ الصَديـــقَــةْ ما النَّارُ؟: حَربُ الإخوةِ الأعداءِ قبلَ الأرضِ بعدَ الحبِّ مِنْ بَدءِ الخَليــقَـةْ إلى آخر القصيدة فيه إحالة على أن الشاعر يمتلك رؤية فلسفية مكنته من اختزال هذه الكون في مفردات تحمل في صميمها عمقا فلسفيا ورؤية وجودية. ولو أنعمنا النظر قليلا في دلالة كل من: البحر، والريح، والنار، والقبر، سنجد بأن الشاعر ارتكز على العناصر الأربعة المكونة للطبيعة، والمتمثلة في: الماء، والهواء، والنار، والتراب؛ فالبحر هو الماء، والريح هي الهواء، والقبر هو التراب، والنار هي النار، وكأنه يريد أن يخبر كل من أبرموا معه عداوة، واتهموه بالتقليد بأنه يمتلك تركيبة كيميائية خاصة واستثنائية أسس من خلالها نصوصه الشعرية، وهنا تتمظهر الأنا؛ فالشاعر يسأل ويجيب نفسه ليخبر الآخر/المتلقي بأنه يمتلك دلالة الأشياء والمفردات، بل ربما يحيلنا من خلال هذا الاستحضار إلى أن لديه كونهالشعري الخاص به، والخالق لمفاهيمه، ولا يمكن لأحد أن يقلدهفيه. وقد يحلينا تردد مفردة الشعر في بدايات القصيدة أربع مرات على هذا الكون الشعري المتفرد؛ فحين يقول الشاعر: بـحرٌ وإيــــــقــاعٌ وقـــــافِـــيــــــةٌ أَنــــــيـــقَـةْ هيَ فـــتــنـــةُ الـمهــجـورِ مــن لغـــتـي العَـــتيــــقــةْ ثم يقول: الشِّعرُ: أنْ يَطوي الـمَكانَ مـعَ الــــــزَّمـــانِ فَـــمٌ سَيخْــتــــزلُ العَــــوالــمَ في دَقــــيـقَــةْ الشِّعرُ: أنْ تَــهَبَ الـمُـــؤَوِّلَ معنـــيــــيـنِ تـــنـــامُ بـــيـــنــهما الكـــنايـــــةُ مُـــســتَـــفـــيــقَـــــــةْ الشِّعرُ: ثــالـــثـةُ العُـــيــونِ بـها تَــــرى مـــا لا تَـرى الـعَــيْـــنــانِفيالصــور الدقــيــــقَـةْ الشِّعرُ: فَـــنُّ الـمحوِ والإيــــحاءِ إنْ وَجــــدَ الســؤالُ الضَّحلُ أجــوبــةً عَمــيـقــــةْ فهو يختزل الشعر في أربع دلالات، بل أربعة وجوه، أو ربما أربع عناصر افتتح بها القصيدة: بحر، وإيقاع، وقافية، ودلالة/لغتي العتيقة. ليكمل بعدها مجزءا الشعر في دلالات تمثلت في: الاختزال في الحضور الأول، والإيحاء في الحضور الثاني، والعمق والقيمة الفلسفية التي تسكنه في الحضور الثالث، أما الحضور الرابع فقد اختصر فيه الشاعر حقيقة الصياغة الشعرية. لعل هذا الإضمار، والاختزال الفني لحقيقة الشعر، ودلالته لا تخرج إلاّ من وعي وعمق شيخ متفرد في الشعر حد التمكن، شيخ أسس لنفسه مملكة شعرية، بل عالما يشبه عالم المتصوفة؛ وهو العالم الذي تختلف فيهالمفاهيم، والرؤى عن باقي العوالم. ويمكن أن نستدل على كل ذلك بما استحضره الشاعر من تناصات دينية في هذه القصيدة كفاتحة وكخاتمة؛ فالنص الديني، أو القرآن الذي أنزله الله تحدى به آل قريش الذين عرفوا ببلاغة قولهم/شعرهم،فخاطبهم ربهم من جنس ذاتهم/اللغة/ليعجزهم ويتحداهم بأن يأتوا بآية واحدة مثله، فلم يقو أحد على ذلك. وهنا الشاعر غرف من القرآن الكريم في قوله: ما النار؟ حرب الإخوة الأعداء قبل الأرض، بعد الحب، من بدء الخليقة؛ مستحضرا قصة الإخوة الأعداء قابيل وهابيل، والعداء الذي نشب بينهما عندما تقبل الله قربانا من أحدهما ولم يتقبل من الآخر فحصل العداء، وقتل قابيل أخاه هابيل. ولعل هذه الحادثة اختصرها الشاعر في هذا البيت؛ الذي يوحي بأن النار هي نهاية حروب الإخوة دائما؛ فاختصر الشاعر دلالة النار في جملة موحية، مستعيرا من قصة قابيل وهابيل دلالة العداء التي حصلت بعد الحب؛ -أي بعد ما تقبل القربان من أحد دون الآخر-، من بدء الخليقة، ولعل الأمر نفسه تكرر في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، حين نشب العداء بين يوسف وإخوته، وكل ذلك بسبب الحب؛ أي بعد حب يعقوب لابنه، والمبالغة في ذلك؛فالحرب وقعت بعد الحب على قول الشاعر؛ الأمر الذي يجعلنا نقر بأن كل عداء وخلاف ينشب بعد حبٍ. وقد استحضر الشاعر القصة نفسها/ قصة يوسفحين قال: بــيضاءُ في عينـي القَصيدةُ إنْ تَــكُنْ فــيـــها الــــنَّــــوافِـــذُ لا تُــطلُّ على حَديـــقَـــة فجملة «بيضاء في عيني القصيدة»قد تذكرنا بقوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}(يوسف84(كما استدعت الجملة نفسها الآية الكريمة:{...وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ..})النمل الآية 12( والتي أحالنا الشاعر من خلالها على قصة سيدنا موسى والتي تتضمن دلالة العداء أيضا. ولو ركزنا قليلا في هذا البيت الشعري لوجدنا بأن الشاعر يريد أن يؤكد على عوالمه التي يغرف منها شعره/لا تطل على حديقة؛ فعالم الشاعر مزهر، وإن لم يكن كذلك فالقصيدة لن تولد/بيضاء/بياض الورق والقصيدة=الشعر=اللغة=الحبر=السواد، وحين تقول بيضاء=اللاقصيدة=اللاشعر=اللالغة إن أول ملمح للذة في هذا النص الشعري هو التعالق النصي.النص الديني؛ فالقصيدة في بدايتها ونهايتها يتناص فيها الشاعر مع القرآن الكريم، ولعل هذا أهم ملمح يثير اللذة/ الشعرية في عمقها الدلالي بعد العنصر الإيقاعي؛ فحضور النص المقدس فيه إحالة على قداسة الطريقة، وقداسة العالم الذي يقطف منه الشاعر لغته، ويصنع منه فرادته، ويؤسس من خلاله لطريقه. ليمنح المتلقي المتعة/اللذة؛ فاللذة تأتي هكذا دون استئذان، فهي حضور من غير سؤال، ووجود يعم كل شيء دون أن يتموضع في شيء.. فهي القصيدة برمتها شكلا ومضمونا/إيقاعا ودلالة؛ فالشاعر أوجد اللذة في نصه وجعلنا ننشدها. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 11-05-2020 02:17 صباحا
الزوار: 1412 التعليقات: 0
|