تأملات في ديوان (وهل يرقد الموج؟) للشاعرة لويزة ناظور
عرار:
ناظم ناصر القريشي
(والحال إن الأشياء، في الشعرِ الفاعلِ، ليست ما هي كائنة عليه، بل هي ما تصير إليه) غاستون باشلار. كيف يرقد الموج وهو نبض الماء، والماء لغة الحياة وقصيدة الطبيعة، التي تنمو أشجارها بالكلمات، والكلمات في القصيدة هي حياة أخرى، وإذا رقد الموج فهو في حلم، وبعض الأحلام هي رؤيا، والرؤيا تتسع في حضور التأويل، لكن الموج متمرد دائما، ويخفي أكثر مما يبدي من أسراره، في تشكيله الشعري والإيحائي والصوري، وحركته الدائمة في محاولة إثبات وجوده، لذا سيغمرنا الموج ونحن نتماهى ونتماوج معه بالشعر في حضوره المدهش، هذا ما ابتكرته وأبدعت به الشاعرة لويزة ناظور في ديوانها (وهل يرقد الموج)، والصادر عن دار (أزمنة) الأردنية، في طبعته الأولى، وعن منشورات القرن 2021 للنشر والتوزيع والترجمة في الجزائر، الديوان يتكون من 27 نصا شعريا، في 130 صفحة، والذي قدم له الكاتب المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل. فيزياء الموسيقى وكيمياء الجسد قصيدة (رقص) نموذجاً: يبدأ موج الديوان بقصيدة (رقص)، فيمنح الموسيقى المرور عبر الكلمات، في حضورها عبر رقصات أندلسية، حيث القيثارة أوتار تداعبها الريح، لتحرك الإقدام على الأرض بتتابعها الموسيقي كأنها ستنهض كالرغبة حتى يرتج خصر القصيدة على ناي الحنين الذي يسري في المدى، ورغم أنه لا يمكن تدجين فكرة الرقص، لكن الشاعرة استطاعت ذلك وببراعة مدفوعة بغريزةِ التعبير عن حضوره عبر نسيج القصيدة الروحي وإيقاعاتها المنسقة والمنتظمة ولغتها الحركية التي هي وسيط بين الموسيقى وتصميم كوريغرافيا الرقص عبر الشعر، وحتى المتلقي فإنه سيستشعر هناك تفاعلات ديناميكية حساسة، تلك هي الطاقة الراقصة الكامنة في الكلمات نفسها و التي ينغمها حرف السين المهموس، ثم الحدس بها، والتعبير عنها بحرف الشين والبقية تأتي بين فيزياء الموسيقى وكيمياء الجسد ، فلنقرأ ونستمع ونشاهد قصيدة (رقص): رقص كُنْ ثمالَةَ كَأْسِي وعَلَى إِيقاعِ عَزْفِ الْأَنْدَلْسِي راقِصْ خَصْرَ اللَّيْلِ دَعْنِي أَسْهُ عَنْ شُمُوعِ البُؤْسِ وساذَجاتِ الحُبِّ مِثْلِي دَعْنا نَرْقُصْ وإلاًّ ضِعْنا... كيف تسري (نَشْوَةَ الصُّبْحِ المُتجلِّي) كما تسري الموسيقى في الدم وهي قيد الإحتمالات ومتاحه للتأويل، فهي تطوف حول الفكرة وهي تتسع وتتجلى، كصوفي في مداد نشوته، لتتحرر عبر حركة اليدين والقدمين ثم الجسد بكامل تناغمه الحر، فالكلمات في هذه القصيدة تتوحد مع الجسد، فصوت القيثارة بمثابة مدد للمحبة والنقاء والصفاء، فهو في تردده عبر الهواء يعبر عن ماهية الشعر في فكرة الكلمات، فهل تدرك الحواس الموسيقى بين الفواصل وكيف تمر عبر الزمن بين بداية ونهاية ثم بداية جديدة: عُشَّاقُ الشَّمْسِ الرَاكِدَةِ تَحتَ أَشْجَارِ الرَّمادِ سَوْفَ يَعُودُونْ من ميتتهم المئة بعد الألف معي سيُقَبُلُونَ نَشْوَةَ الصُّبْحِ المُتجلِّي جَفْنَ السَّماء... راقصني عَلَى جُفُونِ اللَّيْلِ كَما لو كُنَّا اثنين عَلَى شُرْفَةِ الفَنَاءْ وسنجد أنه ليس وقع الأقدام وإنما الإيقاع الذي يخرج منها ويتحول إلى نشوة روحية ووجد صوفي ويتحرك ويجعل كل شيء رحباً مثل الفن الذي بدأ من مركز ذاته وتوسع في المدى حتى تتلاشى الكلمات، فلم تعد الشاعرة بحاجة الى إبتكارها: كُلَّمَا لَاحَتْ غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ... لَسْتَ فِي حَاجَةٍ لابْتِكَارِ الكَلِمَاتْ مَرَّةً أُخْرَى فَقَط... مارِسْ مَعِي هَاهُنَا هوايةَ الصَّمتِ وفي حَفْنةِ اللَّحْظَاتْ... كُنْ ثمالَةَ كأسي وآخر الرَّجاءْ!
في مَوَجانِ الموجِ قصيدة (في حضرة الموج) نموذجاً: في هذه القصيدة أكاد اسمع موسيقى زرقاء بلون الموج في حضوره، و ما تتداوله الريح بين الأزرق والأبيض، هكذا تكلم الكمان المبجل في مقاماته المتعددة أيضا، وهو يتعقب الحلم، حلم الموج في الوصول ،محاولاً أن يقتفي أثره وأثر الريح على موج الكلام، وأثر اللحظة في اللحظة، ففي إيقاعات الموج ترتفع موجة القصيدة الأولى بحضور المعنى وتذهب بعيدا في التأمل ،ماذا سنخبر الموج في حضوره ،وما لذي سيخبرنا به، الموج الذي تغمره الموسيقى في عنفوان حضوره المأسور لحقيقته، والذي يبدده الإنحسار كأنه حكاية لم تكتمل بعد، فهو اختصار للحياة رغم امتدادها الأبدي في الزمان إلا إنه آني الحضور في الوقت ، ففي مفتتح القصيدة سنجد أننا بين ضفتين وما بينهما النجوى ضفة الشاعرة و ضفة الأخر (الحب، الوطن الأم) فيوقظ مضجعها حين يناديها موجه العليل ويناديها الى الترحال، والعودة الى حيث هو: يُوقِظُ مَضْجَعي أَرَقٌ يُبـرحُ بِيَ الوَجْدُ حِينَ يُناجِيني مَوْجُكَ العَلِــيل يُشرَّدُ نَوْمِي وأَنْتَ تَجْتاحُ مَنافِذَ الجِنانْ لَيْلٌ يُنادي إلى التَّرْحالْ! وكأن الموسيقى تنسحب على نوتة إنحسار الموج، في هذا الاستثناء المدهش، ففي حضرت الموج تحضر المقاربة الإيحاءات الجمالية بينه وبين الجملة الشعرية، فامتداد الموجة وارتفاعها يعتمد على امتداد الصور في الجملة الشعرية وتوهجها في الحضور، وبهذا ستكون موسيقى الموج متماهيتاً مع إيقاعات الجملة الشعرية بين مد الموج وإنحساره: تَرَدُّداتُ مَوْجِكَ تُرَتِّبُ نَبْضَ القَلْبِ تَزيدُهُ احْتِمالاتِ العَيشِ فأَرْفَعُ قُدورَ الكُهولَةِ مِنْ جَدِيد لم تكن الكلمة المنطوقة في هذه اللوحة هي الموج، بل كان مضارع حضوره العاطفي المستمر، فهل آن الأوان أن نرى القصيدة، لنقل الإحساس بالتصاميم البصرية للصورة الشعرية الى المتلقي بحضور الموج الحيوي في الحركة الذي يرسم تلك الفكرة المرتبطة بمشاعر الحنين، وتحويلها من تخييلية إلى تصويرية بالكلمات عبر حضورها المرهف الآتي من ذلك الزمان وذاهبة في اتجاه زمن آخر: أَتَصَفَّحُ وَجْهَ البَحْرِ وهُوَ يُخاطِبُ الأَرْبَعينْ أُرَتِّبُ خَضْبَ شَفَتَايَ أضْفُرُ خُصلةً مِنْ شَعْري وَقَدْ تَيَمَّمَتْ بِشَمْسِ العَشِيَّةْ أَتَولَّى مَراسِيمَ الطِّفْلَةِ هكذا تعلن الشاعرة أنها فى حضرة الموج الأكثر شبها بالحياة، هذا الموج الذي يتماوج حضوره بين الأزرق والأبيض كفكرة من ماء راقت للرياح، وظنت إنها قادرة على إعادة تشكيل اللحظة فكتبتها شعراً، فهي متوحد مع تكراره الذي ترتسم عليه الأيام، كأغنية في أعلى الموجة: أَغْرِفُ من نَغَمِ الخُلُودِ وبَيْنَ كَفَّيْ مَوْجِكَ والذِّكْرَياتِ الَّتي تَذُوبُ في حَفْنَةِ مِنْدِيل أَبْحَثُ عَنْ بُوصَلَةٍ تَأْخُذُ بِيَدِي صَوْبَ مَشارِبِ الحُلُمِ الاكتفاء بالأبيض المتجانس مع الأزرق لو يتفكر المتلقي فيما يدعى إلى الكلام عنه، في الحضور والتحول من الموسيقى الى موجة تشكل الأيام وتشكلها الى بياض الحلم في طوق الياسمين، هل على المتلقي أن يفهم بقوة المعنى الواضح في الشعر ،أم يكمل ما بدأت به الشاعرة، من شهقة السيمياء وإبتكار المجازات وما بعد اللغة، عبر بنائها اللغوي والتعبيري والشكلي، فنحن نحوم حول المعنى كأننا في حيرة بين صوفية آلة العود وتأملات الكمان وتأويل الناي الذي يعزف الريح والذكريات ،فهي تترك للمتلقي إكمال ما بدأت به، ليكتمل المعنى على الفهم، فهو مجازا موجود في القصيدة أيضا، فيقترح الكثير عن تجربتها، فهو ليس اقتراحاً متخيلاً لكنه تجربة حياتية/ يومية مستمرة منذ البدء: أَهَذا نَصِيبـِيَ بَعْدَ شُرْبِ
البَحْرِ؟ أَبعْدَ تِيهيَ فِي المدائنِ ها حَصِيدي؟ هَلْ نِلْتَ حُسْنَ الظَّنِّ مِنِّي يا ابْنَ جِلْدِتي يا طَريْدِي!؟ تدوين القصيدة بأبجدية الموج (وهل يرقد الموج) نموذجاً: وهل يرقد الموج؟ هذا السؤال الذي يتقمص مضارع الحضور في حركة الموج الأبدية بين المد والجزر، فعمر الموجه ثواني معدود لتنتهي وتنهض موجة أخرى من الماء ذاته وبنفس الهيئة، وهذه هي جمالية الموج وفتنته، وجمالية النص التي تنبع من داخله، من تدفقه وتناغمه وفكرته، التي تبدأ من الرسم الإنطباعي الى تشكيل حركة الفعل السينمائي لتجسد فكرة القصيدة الأولى (الرقص)، الى سحر الشعر هذا يجعلك تنتشي ويؤكد إن الحياة مستمرة في مطلق القصيدة فالقصيدة التي اتخذتها عنوانا لديوانها، اعتمدت على التفاصيل لإحداث التأثير الذي تسعى إلى تحقيقه في المتلقي ووعيه: وهل يرقد الموج؟ تعريتُ مِنْ كُلِّ شَوائِبِ الرَّمْلِ ولَبِسْتُ زَبَدَ المَوْجِ ثَوْباً أَبْيَضَ... أَيَا بَحْر! لكَ وَحْدَكَ اليَوْمُ أُراقِصُ خَصْرَ المَوْجِ هاهنا...
توزيع موسيقي للموج: في امتداده على مقام الرست كأنه قرار على هدوء البحر ولمعانه في البياض كأنه جواب على نغمة القرار في الأفق، فهي تستشعر وتستعير وتقترح وتدون نوتتها الموسيقية التي تسري بالشعر على مقاماتها المتعددة، بالإضافة الى مجازتها وصورها الشعرية في الحضور، وهذا يجعلنا نتساءل ما هو الشعر وماهي ماهيته هل هو هذه الأشياء التي تنتقل من عالما الواقعي وتتشكل بالكلمات مع الأفكار التي تتسق مع سياقاتها وخطابها الشعري، فالشاعرة تتحول الى موجة وتتقمص حركة المد والجز وتسري في الموج وهجاً في هذا المشهد الواسع سعة البحر في المدى، حيث تدعوه منشبة الى مراقصتها وهي على الصخر الهجين وامامها البحر بكامل أناقته مع الضوء، وأي موسيقى سترافق هذا التصوير السينمائي البديع والدقيق بذاته سوى صوت الموج، فمنهم من رسم الموج و البحر تشكيلاً رائع ومنهم من رسمه وكتبه شعرا: أَتَقَمَّصُ صِفَاتِ المَدِّ والجَزْر أَمْتَدُّ أَرْجُوحَةً عَلَى صَدْرِكَ الرَّحِب أَسْرِي فِيكَ وَهَجاً أُداعِبُ الهَدْبَ المُرْتَجل أَدْعُوكَ مُنتَشِيَةً عَلَى حَوافِ الصَّخْرِ الهَجِينْ... راقِصُنِي اليَوْمَ يَا بَحْرُ بلا خجل! لا جفنُ المَوجِ يَغْفُو ولا الدُّفُّ يَخمِدُ إيقَاعَهُ فيْني... ويَغْدُو! كل ما يمكن ظهوره من الموسيقى، و كل ذلك الإبهار الذي تحتويه فهو الموج وأن حضر في الكلمات على الورق، كما لو كان هو في الحياة، فكل موجة تروي ما حدث لها، وهذا ما تخبرنا به، فالموج هو دهشة البحر ومفاجئته البصرية وفي اللغة هو كالموسيقى ،يختلق إيقاع يتشكل من تكوين هارموني ثلاثي الأبعاد بين جاذبية الشعر والفكرة وما تفصح عنه من مضمون والأسلوب الذي ينتمي إلى الخيال القادر على الإدهاش، وكإن الموج يسلمنا الى الشعر، والشعر يعيدنا الى الموج وما بين ذلك الموسيقى فنكون مع الموج والشعر والموسيقى معاً، وهذه هي طاقة الشعر وقوته وحضوره في الكتابة، وها نحن نلتقي في آخر الموج، لما يشبه استكمال لرحلة تم نسج تفاصيلها على الماء، وكأن النبض موج موصول بموج الكلمات.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 15-11-2024 06:33 مساء
الزوار: 41 التعليقات: 0