علاقةَ الشعر والشعرية " بالطبيب ــ الشاعر والروائي التّونسيّ المولدي فرّوج ــ
عرار:
علاقةَ الشعر والشعرية " بالطبيب
ــ الشاعر والروائي التّونسيّ المولدي فرّوج ــ
بقلم : حسن بنعبدالله / تونس
كان دائما في البال ، وله مكانة خاصّة في قلبي وفي ذاكرتي .. عرفته بابتسامته الناصعة إنسانا متوافقا مع ذاته ، منحدرا من سلالة الطّيب ومن أوراق البهاء .. وجدته مع تظاهرة " الشعر العربي الحديث بالجريد" التي كانت تنظمها سنويا " مجلّة الأخلاّء " التي يديرها الأخ الشاعر الصادق شرف ــــ أبو وجدان ــــ الشاعر المولدي فرّوج ــــ كما رأيته بالأمس البعيد أراه اليوم بنفس الملامح ، ونفس الرّوعة ، ونفس الغبطة والحضور، منسجما مع أفكاره ومع نواياه ومع شخصيته الواثقة .. اعتبرته صديقي وكان معي في بداياتي وقد لمست في جواره معاني الألفة والصدق والإخلاص كلّما التقينا إلاّ وكان رمزا ثابتا للتأكيد .. دمج بين الإنساني والأدبي فآنس واستأنس واكتسب ودّ واحترام الجميع ...
المولدي فروج واحد من الأفذاذ في تونس ، رسم خطّته الوجودية " كيف يكون مع ذاته ، وكيف يكون مع المحيط ومع الآخر.. حدّد أفقه فكان الاعتبار وكان الصوت والصدى .. عندما يتكلّم يقنع وعندما يصمت يبدع وبالتالي أنا وجدتُ بالتجربة والمعاشرة في هذا الرجل النموذج الذي يّشرّف تونس والساحة الأدبية والفكرية ...
وهو الطبيب ومن أهمّ تأثير هذه المهنة وجود الكلمات المأخوذة من الممارسة اليومية ومن العلم الاستشفائي وكأنه يبثُّ الشفاء مع الجمل والقصائد .. وهو كذلك كان الطبيب المولدي فروج رفيق الشعراء أينما حلّ واستقرّ واستقام بينهم ، فكان محلّ استشارات .. ومحلّ تدخلات فورية واستعجالية .. بل وكان مانحا لبعض الأدوية التي يخزّنها للغرض في حافظته :
و فحصْتُ المفاصلَ
حتّى الزّوايَا تتبّعتُها
ثم أصغيْتُ للقلبِ
فاحمرَّ نبضُ الحياءِ على خدِّها
جسمُها يوقدُ النَّار من غيْر حمَّى
وسماعتي الباردةْ
غربلتْ عشْقها في الصُّدورِ
وفي الأعيُن الشاردةْ
وانتهتْ .. مثل نهْد تجعَّد في صدْر أرملةٍ
طفحتْ حيْرتي
ما الذي قادَها كلّ يومٍ إلى مكتبِي
كل يومٍ .. وما ملَّتِ الازْدحامَ
ولا يئستْ من علاجٍ تكرَّر حتّى
غَدا عادةً لا عيادةْ
وتمْتمتُ...هل تشْعرينَ بشيءٍ؟
كما ألمٌ، وجعٌ،
أو كما تعبُ الجوعِ
هل تحسَدين النِّساء
وهل تحفظينَ بصدركِ عشْق الحبيبِ
وقوْل الطبيبِ
وهلْ...؟ ثم ...هلْ ؟ تعشقينَ؟
فقالتْ:أجل .. كنتُ عاشقةً
كنتُ أبصرُ وقْعَ النَّدى فوق نافِذتي
كنتُ مثل الخُطافِ
أطلُّ على بلدٍ نامَ في راحَتي
كنتُ أرضَعتُه الودَّ حتّى ارتَوى
ثم سويّتُ قدّهُ حتى اسْتوَى
كنتُ أمّا لهذا البلدْ
فإذا جفَّ نبْعُ الحنانِ
و حاصرنِي العمرُ
ما عادَ يحملنِي في البلادِ أحدْ
فاعْطني وصفةً
كي أعودَ إلى زمنِ العشْق
ــــــ وكان أنيقا على مستوى الشكل والمضمون وفي مسيرته رصيد مهمّ وعظيم من الفعل والانجاز تلخصها هذه السيرة :
المولدي بن علي عامر فرّوج من مواليد : سنة 1955 بالبرادعة /المهدية الجمهورية التونسية ـــــ عاشر وروائي ...
ــــ الشهادات العلمية : ــ باكالوريا علوم ــ دكتوراه الدولة في الطب . المهنة: طبيب ـــ أحيل على شرف المهنة ...
ــــ الكتب المنشورة 1: ـــــــ بالجرح على الجبين العربي: ( شعر) الأخلاّء تونس 1981 ــــــ 2 ــــــ وطن في قلبه... وامرأة ( شعر ) دار الرأي تونس 1982 3 ــــــ مرارة السكر( شعر ) الأخلاء تونس 1990 4-- زلة لسان: ( شعر) الأخلاء تونس 1995 ــــــــ 5 ــــــ دعي الكلام...لي :( شعر) دار المعارف سوسة تونس 2000. ـــــــــ 6 ـــــ مدونة المبدعين في ولاية المهدية خلال القرن العشرين(تراجم) امبريميديا 2002 . 7--امتداد ( شعر صوتي)المؤلف تونس 2003 . ــــــ 8 ـــــ مدونة المبدعين في ولاية المهدية ( ج2) دار المعارف سوسة تونس 2004 . ـــــــــ 9 ــــــ توقيعات (شعر صوتي)المؤلف تونس 2005 10 ــــــ الصدى أعلى من الصوت ( مسرحية شعرية) مطبعة التسفير الفني صفاقس 2006 ـــــــ 11 ــــــ le jardin à mille roses مختارات من الأدب الإماراتي المترجم ( ترجمة/ شعر ) نشر وزارة الثقافة و تنمية المجتمع بالإمارات العربية المتحدة سنة 2008. ــــــــ 12 ــــــ le poète et l’adhérence à la médina ترجمة /شعر لديوان ريم العيساوي ..
ــــــــ13 le ciel à mille étoileـــــــ مختارات من قصص الإماراتيات ( ترجمة قصص نشر وزارة الثقافة و تنمية المجتمع بالإمارات العربية المتحدة 2009.
14 ــــــ قفا اللعبة / مسرحية / الشركة التونسية للف 2008
ـ15ــــــ كأنّ العالم أعرج/ الشركة التونسية للف 2009 .
16 ـــــ عيناك من ضوء العنب ( شعر صوتي) المؤلف 2009 .
17 ـــــ كاميرا رواية / دار انانا للنشر 2011
18 ـــــ في انتظار عاصفة أخرى/ شعر الدار التونسية للكتاب 2012
19 ــــــ أعراس الكلمات (شعر صوتي) المؤلف 2012
20 ــ أول الغيث ندى (شعر) الشركة التونسية للّف 2012
ــــ أعمال منجزة في إطار موسوعة الشعر التونسي الصوتية
23 – من حدائق تمبكتو(شعر صوتي للمنصف الوهايبي) البدوي للنشر و التوزيع 2013 . في الدراما ألف 12 عملا دراميا ( مسرح/ اوبيراتت/ سيناريو)وقع إنتاجها من طرف جمعيات و شركات مختلفة في النشاط الثقافي و الأدبي و الفكري . ــــــ انتخب لدورتين عضوا في الهيئة المديرة لاتحاد الكتاب التونسيين ــ رئيس مؤسس لفرع الاتحاد في المهدية. -- أنجز موقع اتحاد الكتاب التونسيين. ــــ أسس نادي الشعر الطاهر الحداد بتونس العاصمة سنة 1979. ـــــــ عمل في الحقل الصحافي إلى سنة 1986 ــــــ من مؤسسي المهرجان العربي للشعر بالجريد سنة 1981 ــــــ رئيس جمعية مسرح المغرب العربي بقصور الساف. ـــــــــ أسس صحبة الدكتور محمد البدوي المكتبة الصوتية التونسية منذ سنة 2003 في الاهتمام بأدبه ــــــ برمج شعره للتدريس في الجامعة التونسية ( كلية الآداب و العلوم الإنسانية سوسة ) بدايةمن 2006 عن ديوانيه : زلة لسان و دعي الكلام لي .ـــــ كان شعره موضوعا لشهادات جامعية بإشراف الدكتور محمد البدوي/ كلية الآداب بسوسة . ــــــ الرفض في شعر المولدي فروج سنة 2007/2008 ــــــ الوطن في شعر المولدي فروج سنة 2008/2009
ـــــــ يدرس شعره في كلية الاداب و العلوم الانسانية صفاقس / الاستاذ خالد الغريبي...
الجوائز : جائزة أفضل إنتاج شعري لسنة 1982 في استفتاء الصحافة عن ديوان: وطن في قلبه و امرأة ـــــ جائزة الدولة للإبداع الشعري لسنة 1990 عن ديوان : مرارة السكر. ـــــ جائزة الدولة للإبداع الشعري لسنة 1995 عن ديوان:زلة لسان. ـــــ جائزة احمد عبد السلام للدراسة لسنة 2003 عن كتاب : مدونة المبدعين في ولاية المهدية ج1 ـــــــ حائز على الشارة الجهوية للإبداع سنة 2003.....
" ألاوهو القائل : " الآن أعرف أن الشعر حلمي في وضح النهار وغيبوبتي في قمة وعيي ، وأن الكتابة صعبة جدا " ...
هي صعبةٌ جدًّا ولكنه اقتحمها وخاض غمارها وخرج بتجربة فيها من التراكمات وفيها من الشحن والامتلاء ..
ويقول في ردّ عن سؤال " عن الشعر :
يؤسس الملك مملكته ويبني الشاعر قصيدته.و القصيدة أفضل من المملكة لأنها لا تخون أبدا ... من حقك أن تسال الشعراء عن الحداثة وعن الشعر ولمن او كيف يكتبونه .. إن أكثر الأعمال إرهاقا للجسد والفكر هو الإصرار على فتح باب مفتوح فلماذا تسألني : لماذا تكتب الشعر؟
ـ أنا لم أخلق لأكون ناقدا فأجيبك .أنا شاعر فهل يكفي؟ وأنا لا احتاج لناقد أو ناقل حديث،ولا احتاج إلى ناقر ينقر بأصابع مستوردة على شبابيك قصيدة تمانع في الانفتاح و تجاهر بدلالها.ولا احتاج كذلك إلى ناقم على قصيدة رفضت أن ترتدي جبة على غير قياسها.أنا لا ابحث إلا عن قارئ يجتهد لفهم الشعر فنتفق معا على شكل ما من الوعي الإنساني فهل يكفي؟
ـ لي مملكة الجنون وحكمة العقلاء ....
ـ يعجبني الطفل الذي يحول الصلصال إلى لعبة. تعجبني لعبة الشعر ويعجبني أكثر ولع الناس بها ...
ـ قضيت أكثر من ثلاثين سنة في كتابة الشعر وعاشرته بصدق ومتعة وكنت كعاشق الحلم احبه ولا أستطيع تعريفه تعريفا يقنعني:اكتبه ثم اقرؤه فيترك في نفسي إحساسا مبهما ولذة غريبة وكأنها تنبعث من كائن خفي يتجسد في القصيد
ـ الآن اعرف ان الشعر حلمي في وضح النهار وغيبوبتي في قمة الوعي.وإن كتابته صعبة جدا لأنها تختزل الزمن فكأنها الزفة والحمل والولادة في نفس الوقت.وكأنها السجن تدفعك اليه قسوة العبارة الأولى وتخرجك منه الكلمة الأخيرة
ـ أحببت الشعر حبا مبهما وأعجبت بالشعراء ثم كتبته وقرأته. اصبح الجسر مرآة تنعكس عليها ذاتي.صارت العلاقة التي كانت تربطني بالشعر تربطني بالآخر وامتدّ القصيد جسرا نلتقي عنده في لحظة إعجاب .. الباب لا يغلق على مصراع واحد.الشعر فعل خطيرو ممارسة صعبة فيه من الصدق والجرأة ما يزعج السائد و النقد اخطر عليه من السّياسيّين ....
ـ كنت أعرف أن قصائدي تمضي إلى مسالك وعرة ، صخرية ورملية وكان يكفي ذلك لان أتركها ترسم على الأرض هموم من عليها...وكنت أدرك الوجهة فاسميها وأفهم لغتها:هي لغة لم ينطق إنسان بأجمل منها. جمعت من البحار ستة عشر بحرا.فهل يكفي لأكون قطرة من كل هذه البحار؟ وما الذي يزعج البحار إذا أتيتها وحيدا؟ لم أقل أحتاج إلى رفيق أو ناقد بل ربما يحتاج الناقد إلى شعري ليعرف لماذا لم أتوقف عن كتابة الشعر ...
ـ وهي آراء تفسّر قيمة المخزون الذي يدفع الأديب المولدي فرّوج لكي يكون مع زمنه ومع لحظاته منتبها وراصد ، فلا يترك الواردة تتجاوزه قبل أن ينفّذ فيها حجّته ويمنحها من علامات نبوغه باللغة والصورة والدلالة والإيحاء ، فتنطلق منه مزدانة وعاشقة باتجاه مناطق الصحو الواسعة التي يراها متماثلة في امتداد النظر ومنتشرة بالطيور ذات الألوان وبالفراشات وبالغيم والمطر.. هو المشرق مع الألوان ومع الأيام في قصائده الكثيرة بالفصحى كما بالدارجة ومن أمتع النصوص التي فتحت لي باطن صديقي المولدي فرّوج تلك التي يقولها باللغة الدارجة التونسية وبأسوبه المتميّز في التبليغ والإلقاء .. تلك التي تشدّ بالمعاني وبالموروث .. اتّسمت قصائده الفُصحى أيضا بالسلاسة والوضوع بعيدا عن الغموض والتفلسف وقريبا من الفهم ومن الوعي ومنتصرا للجمل المنفلتة والواضحة :
خذْني إلى جبلِ الدُّعَاء
سيأتِي التَّائهون إلى الجَبل
و انْصبْ قبَابَ العِشْق
في عمقِ السَّماء
دعْني إلى وجَعي قليلا
ثم خذْ حبْر الفجيعةِ وارْتحل
قلْ للصِّغار تسلَّقوا حبْل الكلامِ
و لا تدعْ
رحِمَ الحبيبةِ للظَّلامِ
خذْني إلى زمنِ الفداءِ
سيَأتي التَّائهُون إلى الهُدى
و افرِشْ لهمْ جَسدَ القَصيد
و قلْ لهم : مُرُّوا كما شِئتُم إليْ
خذني إلى زمنِ اللِّقاء
و قل للوافِدين تصوَّفوا
في حضرةِ الشِّعر المُسيَّج بالوَفاء
تسلَّحوا بالحَرفِ
إنّ الأرضَ ثابتةُ الخُطى
فان ربَّ النَّاس كالبلدِ الجميلِ
على المنابرِ يقْتفي أثَر القصيدِ بكمْ ولاءِ
و الأرضُ تَنتظِر القوافِي
مثلما الأنْثى إذا... طافتْ بها حمَّى النِّساءِ
ـ وانطلاقا من هذا الإيمان العميق بالكلمة ، جعل الشعر في مرتبة الإيمان فيقول " فمن لم يعاشر الشعر لأقسم أنّ الصلاة عليه خسارة "
والشعر عند المولدي فروج ليس ترفا فكريا ولا هو استجابة لنرجسية رومانسية تعيش في برج عاجي بل رسالة في الحياة مسكونة بحب البلاد فالوطنيات قصائد تأخذ من الإدراك التام بقيمة الوطن وقيمة العيش المشترك بعيدا عن الأزمات والتأزيم الذي نتخبّط فيه ونترك وعينا بقيمة الوطن والشاعر كما أراده الله " واجبُ الوجود " .. ولا وجود لقيمة الإنسان خارج الوطن .. فالغربة جحيمٌ .. واللجوء مصيبة .. والهروب جريمة نكراء ...
هذي البلاد أحبها / وتحبها مثلي البحار
يحبها الله الذي سوى/ بإتقان القداسة شكلها ....
أحبها وأكون متهما بها
لتكون موقد القصيدة
كتبنا لنرفع بعض الرؤوس التي انتكست
و نؤسس فيها البساتين
نزرعها من سليل القوافي...
كتبنا لتمثال حي الحديد...
كتبنا القصائد في شكل إعلان حرب على الظالمين
ملانا الشوارع بالشعراء
سنؤمن بالشعر بوّابة الشعب
تنتصر الكلمات التي قد كتبنا...
كتبنا لهذي البلاد الجميلة..
قال عنه الأستاذ الصادق شرف هذا المفيد التالي الذي اخترته لكي يكون خاتمة لهذه القراءة ...
ـ من الأصالة إلى الحداثة:لست ادري لماذا أريد ان أطلق على هذه المجموعة للدكتور المولدي فروج وما فيها من قصائد( فراشة الشعر الجميل) ؟
لعل ذلك يرجع إلى ما لمسته جليا من تطور في امتلاك الشاعر القدرة على الجمع بين المواضيع الجادة والشعر الذي يثير الإعجاب إلى حد المفاجأة السارة بالقياس لما عرفته عليه من اهتمام بالموضوع دون الالتفات إلى الشكل المعماري للقصيدة العربية في مجموعتيه السابقتين .. و لربما يفهم من كلامي إن " الشغف بالشكل يتضمن رفضا للدعوة:أن يكون الأدب ذا محتوى جاد" كما نجد عند بعض الشعراء هزءا مكشوفا - بما تتوقعه التقاليد – في تناول الموضوعات (الخطرة) أو في التعبير عن عواطف لا تقرّها الأعراف.ومن بين ردود الفعل المعاصرة ضد هذا الاتجاه دراسة ( روبرت بوكانن) المدرسة اللحمية في الشعر ..
إن التطور الذي لمسته في استعمال أدوات القصيدة العربية يدل على أن هذا الشاعر،من حيث لا يدري،امتلك ناصية الإيقاع بحكم ما له من إصرار أكيد على أن يكون شاعرا في مستوى الحداثة التي هي البرعم المنبثق من غصن الأصالة كأساس لكل بناء حضاري في جميع المجالات وخاصة في حلبة الفن والإبداع.
فالفنان مهما كان ضئيلا حجمه ، خفيفا وزنه لا بد أن تبقى له بصمة خاصة في الصراع العام لتجذير الإبداع ذلك أني عملت جاهدا لأتلاحم مع الشعراء الشبان من اجل الانطلاق بالشعر من الأصالة إلى الحداثة كفكرة آمنت بها لسلامة التطور.إن الأفكار ذاتها مسائل يسجلها التاريخ:تتطور و تتغير: تتصل بالحياة وبممارسة الفن والآداب ، ولا يمكن ان تفيد معالجتها في شكل المعادلات الرياضية : فنحن نجد عند النظر في معنى فكرة،إننا نهتم لا بمحض التحليل المنطقي بل بصورة أوسع بما كانت تعنيه تلك الفكرة إلى أناس بعينهم، كتاب، فنانين، نقاد، منظرين جماليين، في أوقات معينة من التاريخ...
ولعل أهم ما يلفت الانتباه في " مرارة السكر" عنوانها الذي يوجه سبابة الاتهام إلى مهنة الشاعر كطبيب في انتقاء هذا الوسام لها في كبرياء الإنسان الذي يشارك في بناء وطنه على أنغام معاناة الفعل المؤسس لا كما كان عليه الكثير من الشعراء قديما وحديثا من مشاركة في النهوض بالوطن عن طريق الكلام،فحسب،والكلام الذي يتناقض مع الممارسة اليومية أيضا لبعض هؤلاء القوّالين الذين يكتبون عن معاناة الشرائح الاجتماعية وهم قابعون وراء زجاج إحدى مقاهي تونس المريحة ظانين ان بالكلام وحده أو بالكتابة وحدها يصنع التغيير.
التغيير يا سادة ينضج بالنزول إلى ميدان الفعل الواعي و العمل المنتج .وهذا كان ولا يزال ( الدعائية ).ولن يزال شعارنا في الحياة:نحن جيل لا ..و لن نؤمن إلا بالعمل ليس منا من يقلْ...قلت! و منا من فعل والدكتور المولدي فروج،أحد الأخلاء العاملين في الجنوب التونسي دون كثرة كلام ، فإذا تكلم قال: فلي عملي/ يعلمني الكبرياء : تعالوا اذا يملح الجرح فيكم ..
و يرتفع الضغط في دمكم هكذا يخاطب أبناء وطنه معتزا بعمله،عاشق أضناه حبه لشعبه وترابه وتراثه والراية الحمراء ترفرف على تونس الجميلة .
فتونس إذ عمرت في دمي
عجوز أطلّقها ألف تطليقة...و أعود..
فراشا تعوّد حتى تعمّد لفح الفتيل
و كم يكتوي و يزيد
ــ على ضوء هذا الشعر الجميل لا يمكن النظر إلى :" مرارة السكر" بمعزل عن سابقتيها وإلا كنا كمن رفع جدران العالم الشعري عند المولدي فروج على فراغ ينهار ذلك العالم لمجرد هبة ريح.فلا يجوز للناقد ـ إذن ـ أن يصدر حكمه على هذه المجموعة ما لم يعايش الشاعر في تجربته الأولى انطلاقا من سنة 1981 .....
ـ وأنا في تمام الاعتزاز بصديقي الأديب الكبير المولدي فرّوج وفي تمام اليقظة لتمرير وصايا ضرورة الانتباه والاهتمام بهذه التجربة الغزيرة ، ومن الغبن أن لا يجد الباحث " عبر الأنترنت ما يفيد هذا الاهتمام من قبل النقل والباحثين وللأسف طرقت عديد البوابات فلم أعثر إلاّ على القليل سواء في مجال الدراسات أو حتّى القصائد وأعتبرُ هذا تقصيرا فادحا منا جميعا تجاه أديبنا الكبير المولدي فروج