أ.د. نايف خالد العجلوني يشغل المكان ركنا مهما في ديوان «امرأة حجرية» لمهدي نصير، إذ يتم التركيز على تحويل كثير من معالم المكان وشواهده المحدّدة إلى رموز تنطوي على موقف الشاعر ورؤيته للمكان العربي والزمن العربي المعاصر، كما أنّ هذه الرموز المكانية تصبح في كثير من الأحيان شديدة الغموض والغرابة، مقتربةً في ذلك من سمات المدرستين الرمزية والسوريالية. لا نجد في هذه المجموعة عتبات تسبق النصوص الشعرية، ولكن عنوان القصيدة الأولى، «امرأة حجرية»، الذي حمل عنوان المجموعة كلها، جاء بمثابة العتبة الأساسية الدالّة. فلعل الوقوف عند بعض معالم المكان وإيحاءاته في هذه القصيدة المفتاحية أن يشكّل مدخلا مناسبا لقراءة نصوص المجموعة ووضعها في إطار الرؤية الكلّية العامة تجاه المكان في المرحلة الزمنية الراهنة. وهي قصيدة طويلة مركّبة تتكوّن من ستة وعشرين مقطعا. شخصية المرأة في هذه القصيدة المحورية، كما في المجموعة كلها، يمكن عدّها رمزا محوريا يكشف عن رؤية الشاعر الكلّية للمكان والزمان. المكان الذي تثوي فيه هذه المرأة الحجرية «صحراء شاسعة» مترامية الأطراف في أرجاء العالم العربي. وهي صحراء قاحلة لا حياة فيها، «تنوح الريح في أرجائها». كلّ فيها مضادّ للخصب والحياة: براعم من حجر، مقعد حجري، كوب حجري، مشط حجري، موقد حجري، رُقُم حجرية، دمية حجرية. حتى الكائنات الحيّة الأخرى تستحيل إلى كائنات حجرية: ماعز حجري، أرانب حجرية. وفي المقطع السادس والعشرين الأخير في القصيدة، تجلس بوصفها دُمية «في الشرفة الحجرية الأمطار». فالريح لم تعد تحمل معها المطر، والشرفة الحجرية التي تجلس فيها الدمية الحجرية لا تُشرِف على أيّ أمل واعد أو مستقبل مشرق. وتقابل شخصيةَ المرأة الحجرية في القصيدة شخصيةُ الرجل الذي يرتبط بها. ويبدو أن المكان يضيق به أو بهما، إذ تجلس المرأة في مقعده، وتنام على مقعده. وإذا كان ثمة مجال يسير لِأن تغازل المرأة محبوبها، فإن هذا الغزل –للمفارقة- يصحبه غضب عنيف، وتكسير للصور في المرآة ذات الإطار الذي كان ذات يوم مصنوعا من عاج الفيل: تُغسّلُ شَعري/ وتبحث عن مشطها الحجريِّ/ وترفضُ غاضبة أن تُمشِّطني بأصابعها كالصِّغار/ تكسرُ المرآةَ في الإطار الذي كان من عاج فيلٍ/ قضى بحجارتها في الهزيع الأخيرِ من الطّين وحين تمضي المرأة إلى مكان آخر في البيت (المطبخ مثلا)، فلا بدّ أن تَعْبُر خلال «ممرّ» ضيّق، ضعيف الإضاءة. وقد «تجلس واهنة في الممر»؛ لأنها تعاني من صداع مزمن. ويبدو أنها لا تستطيع أن تغادر هذا المكان «المغلق» –إذا صحّ التعبير- إلى «الساحة»، حيث الفضاء الخارجي الواسع: إنها مقيّدة الإرادة، عاجزة، لا تتمتّع بأيّ قدر من الحرية، حرية الحركة والتغيير. «الساحة»: رمز للفضاء الخارجي العام غير المتاح لها ولمحبوبها على السواء: تجلسُ واهنة في الممرِّ/ وتشرحُ لي أنّها ستُعاني صُداعا طويلا/ ولن تستطيعَ الخروجَ إلى السّاحةِ/ حيثُ كان يُدرِّبُ أعضاءَهُ أرنبٌ حجريّ وإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تنطلق نحو الفضاء الخارجي الواسع (الساحة)، بل تقبع في «الممر» الضيّق المعتم، فإن الرجل يجد نفسه هو الأخر يهبط لـِ «القبو»، بعيدا عن رحابة العالم الخارجي وأضوائه، وبعيدا عن أجواء الحرية المفقودة. هكذا تنزوي كلتا الشخصيتين في المكان الضيق المغلق، وتموت لديهما كلّ أسباب الرغبة والنشوة والحيوية. تتسلّل المرأة نحو «الجدار»، و»تستلقي مهشّمة على قاع الجدار». باختصار، كلّ ما يكتنف المكان واللحظة الزمنية القائمة يفضي إلى هذه النهاية المأساوية. كلّ الرموز المكانية المشار إليها في هذه القصيدة، والمتواترة في المجموعة كلها، تشير إلى قسوة الصحراء وتحجّر أسباب الحياة والعيش فيها. فإذا انتقلنا إلى القصيدة الثانية في المجموعة، «رصاص في الحديقة»، تأكّدت لدينا ملامح هذه الرؤية القاتمة للمكان والواقع العربي الراهن. والمفارقة الصارخة في هذه القصيدة استعمال رمز «الحديقة» بدلا من رمز «الصحراء» في القصيدة الأولى. ولكنّ الجوّ العام السائد في هذه الحديقة أشدّ عنفا وتعسّفا، إذ يخترق الرصاص، في أرجاء المدينة، كلّ أسباب الحياة، والجمال، والسلام: سماءٌ معلّقةٌ من جدائلها/ قمرٌ يتجوّل كالعَسَس/ حجرٌ ينزفُ/ يترعَّفُ/ وردٌ مُثقَّب ينزفُ/ سَرْوٌ مُثقَّب/ ثَمِلا كان الطريق وينزف تجدر الإشارة في هذا الاقتباس إلى غرابة الرمز وسورياليّته في شعر مهدي نصير. فقد استحال الرمز المكاني «السماء» إلى امرأة «معلّقة من جدائلها»! واستحال الرمز المكاني الأخر «القمر» إلى شرطيّ يطارد الناس الآمنين، بدلا من أن يكون رمزا رومانسيّا للعشاق والمحبين. ولكن فاعليّة هذين الرمزين في الدلالة على قسوة المكان والزمان لا تخفى في سياق القصيدة. غير أنّ لعلعة الرصاص في الحديقة ليست قَدَرا دائما في أرجاء المكان. ففي بعض حالات الإشراق العاطفي في ظلال الحب والمرأة، تزهو قصائد قليلة نسبيا في المجموعة بصور مطرّزة بالنقوش، وتمتلئ الحديقة بالفراشات الصغيرة. نجد ذلك مثلا في قصيدة يشير عنوانها إلى أنها تظلّ –رغم غلبة صورها الزاهية- «قصيدة حب ناقصة»، يعتريها الشحوب والبكاء فوق الدرجات: فرحة لم تكتمل: حبيبتي/ هل أنتِ من ملأ السِّلالَ/ وأثّثَ السماءَ بالمطرِ المزخرفِ بالنقوشِ/ والمساءَ الفارغَ بأصابعَ دافئةٍ/ واصطحبَ الشتاءَ للمطبخ كي يجلسَ قُربَ النارِ يشربَ الحليبَ مع قليلٍ ساخنٍ من الخبزِ الهشِّ معالم المكان إذن تتبدّى من خلال الرموز المكانية التي أشرنا إلى بعضها: الصحراء، الحديقة، الشرفة، الممر، الساحة، الجدار، القبو، السماء، القمر. وهي رموز تتواتر بشكل واسع في الديوان. ويمكن أن نضيف إليها رموزا مكانية أخرى متكررة بشكل لافت: نجوم، فوانيس، شباك/نافذة، أبواب، درج، مدينة، شارع، أزقّة، طريق، تلّة... الخ. وعلى الرغم من أنّ كلا من هذه الرموز يحتاج إلى وقفة متأنّية لاستجلاء ملامحه ودلالاته الخاصة، إلا أنّ إيحاءات هذه الرموز الغالبة تنسجم مع رؤية الشاعر الكليّة للمكان، ونظرته إلى الواقع العربي المعيش. فالنجوم أو الفوانيس كثيرا ما تكون مطفأة. وكثيرا ما تظهر الشبابيك/النوافذ غير منفتحة على الفضاء الخارجي الرحب. وكذلك الأبواب، فهي منغلقة. والمدينة محاطة بالأسوار والطرق الخلفية التي تمتدّ وتلقي ظلّها فوق المدينة كلّها. كذلك تكثر في المدينة الأزقّة المعتمة. تجتمع في قصيدة «مطر» القصيرة –على سبيل المثال- طائفة من هذه الرموز المكانية الدالّة على انغلاق الآفاق في السماء كما في الأرض: السماء، النوافذ، الستائر، الأبواب. كلها مغلقة: كانَ الشتاءُ غاضبا/ وكانتِ السماءُ كالنوافذِ الشّتويّةِ مغلقةً/ وكنتُ أرقبُ كنتَ تشربُ النبيذَ خلفَ عتمة الستائرِ السّوداء/ كنتَ تقرعُ النّوافذ الليليّة في غضبٍ/ تُكسّرُ الزجاجَ/ ... ... .../ تقرعُ الأبوابَ: نائمةٌ يا أبتي هي السماءُ/ مُغلقةٌ هي الأبواب انغلاق الأبواب والأفاق المكانية في الزمن الحاضر ربما يقتضي إحداث «قطيعة» مع الماضي ومع المكان المجدب، متمثلا في رمز «الصحراء» خاصة. في قصيدة تحمل عنوان «قطيعة»، تركض الشخصية الرئيسية في اتجاه، «والقطيع كان يركض في اتجاه مختلف». وربما تعكس هذه الاتجاهات المتضادة انغلاق الأفق أمام محاولات التغيير والتحوّل. فعندما توغل هذه الشخصية المتمردة في المسير إلى الأمام سعيا للتحوّل والتجاوز، تصطدم بطول المسافات واتساع مساحة الصحراء «والكثبان والرمل». لا بدّ إذن من قطيعة مع الماضي ومع الصحراء. هكذا تهيمن النار، في المقطع الختامي للقصيدة، على أرجاء المكان، وتأكل «القطيع والرضيع». فهل تَغْرُبُ مرحلة، وتُشْرِق مرحلة جديدة «منقطعة» تماما عن مرحلة الصحراء؟ كُتلةٌ هائلةٌ من الغُبارِ والضّجر/ نارٌ تملأ الصحراءَ/ نارٌ تأكلُ القطيع والرّضيعَ/ نارٌ يا أبي تلتهمُ الآنَ منازلَ القمر تذكّر هذه النار التطهيريّة التي تسعى إلى إحداث قطيعة شاملة مع الماضي وصحرائه بما نجده كثيرا في شعر خليل حاوي وغيره من شعراء الحداثة العرب. يقول حاوي في قصيدة «الجسر» التي تعبّر عن رؤية تقطع تماما مع جيل الماضي والتاريخ المحنّط من أجل إقامة جسر يعبر فوقه جيل جديد مختلف تماما عن آبائه وأسلافه: مالَهُ يَنْشَقُّ فينا البيتُ بَيْتَينِ/ ويجري البحر ما بينَ جديدٍ وعتيقْ/ صرخةٌ، تقطيعُ أرحامٍ/ وتمزيقُ عُروقْ/ كيف نبقى تحتَ سَقفٍ واحدٍ/ وبحارٌ بيننا... سورٌ../ وصَحراءُ رمادٍ باردٍ/ وجليدْ/ ومتى نطفرُ من قبوٍ وسجْنِم ومتى، ربّاهُ، نشتدُّ ونبني/ بيدينا بيتنا الحُرَّ الجديدْ ومن الطبيعي أنّ إحداث مثل هذه القطيعة مع لغة الماضي والصحراء تحتاج إلى محاولة جادة للبحث عن لغة جديدة وخطاب شعري جديد. والحقّ أن الشاعر يلحّ في السعي وراء هذه اللغة الجديدة، بالرغم من أنه يُعرب، في قصيدة «محاولة للخروج على بحور الخليل»، عن أنه ما يزال ملتزماً بعروض الخليل. ومع ذلك فإنني لا أجد في ذلك تناقضاً، فالمسألة لا تتعلّق جوهرياً بقضية الوزن أو اللاوزن، وإنما بما ينطوي عليه الشعر الجديد من إمكانات لا حصر لها لتحرير المعنى والرؤيا والخطاب الشعري: صديقي/ هل أستطيعُ الهروبَ وها أنا ذا أكتبُ في تفاعيل بحر الخليل الأثيرِ/ ولا أستطيعُ الخروجَ عليه/ ولا أستطيعُ إليك العبور ليس المطلوب من الشاعر أن يخرج على تراث أسلافه في اللغة والموسيقى الشعرية بقدر خروجه على ما تحجّر في فضاء اللغة من أساليب وتقنيات مكرورة تفضي بالضرورة إلى الوقوع في دائرة «الإرهاق الجمالي»، وفي دائرة الرؤى التقليدية البائدة. في أحلام اليقظة، كما في حالة الوعي وسراديب اللاوعي، ثمة محاولة جادّة لدى الشاعر للابتعاد عن لغة الصحراء التي تثوي في أرجاء المكان العربي. ففي قصيدة «لغة تحلم» مثلاً تنام لغة الشاعر على حلم جميل، كي تخلع عن جسمها البدوي ثوبها القديم، وكي
«تستعير من العصافير الصغيرة صوتها الخافت/ كي تُقصي قليلاً ثرثرات النوق/ عن حلم الظهيرة». ولكن مثل هذه المحاولات تصطدم –فيما يبدو– بطول الطريق وما ترسّب فيها من الأغاني الحزينة، «والمقامات التي ضمّت تواريخ الأزقّةِ والبكاء». يستمر الشاعر في البحث عن أصوات وإيقاعات جديدة مختلفة، ولكن الناي الذي يقف «في ركن قصيّ في الساحة» ناي حجريّ كذلك. ثمة بحث دائم عن جماليات جديدة في اللغة والمكان دون طائل كبير، فالحواجز تملأ الفضاء كلّه: أقولُ للعازف النائمِ ملتحفاً جلدَ شاةٍ:/ كنتُ أبحثُ عن صوتِ خيولٍ نائمةٍ/ عن نهرٍم عن غابة لوزٍ/ عن وردٍ أبيضَ/ عن وجهٍ يبزغُ من بين ثقوبِ الليل ويبدو لي من خلال معاينة كليّة لقصائد هذه المجموعة أن لحظات التفاؤل والإشراق التي تتكشّف عنها بعض القصائد قليلة، إذ يبدو أن الفضاء المكاني والزماني الراهن ملبّد بالغيوم غير الماطرة. وربما تلخّص القصيدة الأخيرة في الديوان هذه الرؤية القاتمة للمكان والواقع المحاصر خير تلخيص. فالقمر يتجوّل في المدينة حاملاً بندقيته العسكرية، والتماثيل الطاعنة تتجوّل عارية في السوق. وقد يكون ذا دلالة أساسية على هذه الرؤية أن تنتهي القصيدة الأخيرة بهذه الأبيات: أبي أين أنتَ الآنَ؟/ كيفَ تركتني وحيداً/ وحولي كلُّ هذا الخراب؟ فالمكان يضجّ بكل هذا الخراب!