مجموعة «طقوس التّذكّر المحرّم».. الأنسنة وأدب المكان
عرار:
موسى إبراهيم أبو رياش
تكشف مجموعة «طقوس التّذكّر المحرّم» عن انشغالات ومواقف كاتبها الدكتور أسامة أمين المجالي؛ حيث يتناول من خلال ثلاثين نصًا مجموعة كبيرة من الموضوعات، تتراوح بين الهم الشخصي، مرورًا بالمشكلات المحلية ومعاناة الناس، وانتهاءً بالقضايا العربية الشائكة ومنها قضية فلسطين وهزائم العرب واحتلال العراق، وما أحدثه من شرخ وصراع طائفي كبير. كتب المجالي هذه النصوص على امتداد عشرين عامًا معتمدًا على الذاكرة، وقاصدًا الذاكرة أن تبقى نشطة متفاعلة، وخاصة مع القضايا التي يقتلها النسيان أو يقتلنا. تنوعت نصوص المجموعة بين قصة قصيرة وأدب مكان وخاطرة ونص قصصي ورسالة ومقالة، ومزج أحيانًا وداخل بين عدة أجناس إبداعية. وتتناول هذه المقالة جانبًا من هذه المجموعة من خلال ثلاثة عناوين. أنسنة الأشياء: برع الكاتب في هذه المجموعة بأنسنة العديد من الأشياء، وأسبغ عليها صفات وقدرات إنسانية، ووهبها مشاعر؛ فتحس وتتألم وتتذكر وتحزن وتغضب. ففي قصة «قطعة نقد»، يأخذنا «الشلن» في جولة زمنية ما بين 1947-1997، ليكون شاهدًا أمينًا بالدلائل على التبدلات والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية، هذا الشلن الذي كان في أول عهده بقيمة شوال برتقال يافاوي، وتهاوت قيمته عام 1997، حتى إنّ المتسول يستخف بمن يمده إليه، ولا أظنه هذه الأيام شيئًا مذكورًا، لا يقبل به أحد، ولا يشتري شيئًا. والمرعب في قصة «طقوس التّذكّر المحرّم» أنَّ تاريخ يوم محدد يتحول إلى فاعل مؤثر، يستدعي الذكريات والأحزان، ورائحة الموت والهزيمة والخذلان، وطعم الخسارة والفقد والهروب والخوف. فعندما يتعمد الطبيب أن يرفع صوته بالتاريخ الذي يكتبه على الوصفة الطبية «الخامس من حزيران» مشددًا عليه، كأنما يجره كحد سكين، يسمعه الجندي المتقاعد فيتوجع، ويشعر بطعم المرارة والهزيمة، ويسمعه الكهل فتنهال عليه آلام الهروب على غير هدى نجاة بالنفس والأولاد، وتسمعه امرأة ثكلى، فتعود إليها آلام عنيفة وذكرى فجيعة يوم جاءها المخاض وهي تعبر النهر فرارًا بجلدها، فيسقط وليدها في النهر دون أن تدري، تجره المياه بعيدًا عنها دون رجعة. والمؤسف، أنَّ بعض الشباب الصغار، لا يذكرهم هذا التاريخ بشيء، فقد عُميت عليهم الأنباء بتجاهل المناهج، ومعاهدات سلام فارغة، وإعلام يبيع الوهم. في هذه القصة يتحول التاريخ إلى مطرقة ثقيلة، ويجب أن يبقى كذلك كي لا ننسى. في نص «الزرقاء/الشارع الأول»، يتحول شارع السعادة؛ العمود الفقري للمدينة، إلى شاهد ومراقب وكائن حي، فهو يستعرض ناس المدينة الذين يذرعون الأرصفة دون هدى، ويراقب بحزن ما يطاله ويطالهم من ضغوطات وتغيرات عبثية، ويراقب بصمت أفواج العابرين والمهاجرين إليه من كل مكان من داخل المملكة وخارجها، يتذكر ماضيه يوم كان «ممرًا عريضًا مليئًا بالأتربة والحجارة المغبرة، تثور منه زوبعات صغيرة عند عودة الجنود الفقراء من المعسكرات الرابضة شرق السكّة، وهم يرتدون بساطيرهم السوداء الطويلة متوجهين إلى بيوتهم التي بنوها بسرعة لاحتضان عائلاتهم التي أحضروها على عجل من قراهم وبواديهم المتناثرة في كل أنحاء الوطن». يتحول المصباح إلى شاهد عيان في قصة «المنفى»، يرصد ويراقب ما تعانيه مدينة معان من أخطار وملمات مثل هجمات البدو والسيول والعواصف الرملية، وضعف الخدمات، ونأيها عن العاصمة، ولكن أهلها يتشبثون بها مع شح المقومات والإمكانات «بقي المصباح ينظر إليهم من مكانه النائي عنهم المتابع لكل سكناتهم وحركاتهم يرثي لهم حينًا ويغضب ثائرًا حينًا آخر، يُدميه منهم إصرارهم المتواصل على الدفن أحياء والتمسمر في المكان والإنكار بشدة على كل من يطلب لهم فرصة الانعتاق». أدب المكان: حظي أدب المكان بقسط وافر من نصوص المجموعة، وبرز ذلك جليًا في العنوان الفرعي «أدب المكان... قصص وحكايا»، وشملت نصوص أدب المكان أماكن كثيرة منها: معان، المفرق، إسطنبول، القرية، وغيرها، وكان لمدينة الزرقاء النصيب الأكبر من نصوص المكان؛ لإقامة الكاتب فيها مدة طويلة. وتنوعت نصوصه المكانية بين وجدانيات ومشاعر متدفقة وبين إطلالة سريعة ونظرة خارجية للمكان. الزرقاء مدينة بسيطة لا تُغري أحدًا بسكناها، لا تُحب، ولكنها تُؤلف مع طول العشرة، لم تتغير ويبدو أنها لن تتغير: «غابةٌ من الطوب والإسمنت، قاحلة، بلا أي أمل بحياة مدينيّة لائقة إلا إذا اعتبرنا أنّ البؤس يولّد مع المعاناة والحرمان بذرات التمدن والارتقاء» وفي كل صباح يخرج شقيقان في الزرقاء، يمران بسكة الحديد: «يتأملان السكّة، ذلك الشريان المقطوع الراعف على وجه الصحراء الباردة، يحاصرهما الحزن ونظرات الشقاء للعمال الخارجين كل صباح من بيوتهم الزينكو وشوارع المخيم الضيقة المضمّخة بالماء الآسن، ثمّ يقطعون السكّة صباح مساء من مخيمهم القسري جنوب المدينة نحو المدينة القاحلة والمزدحمة بالآلاف مثلهم». يتذكر قريته الجنوبية الوادعة الهادئة بعيدًا عن صخب العاصمة وزحامها، وتشبث الأب والجد بها «القرية يا ولدي، هي أصلنا وإليها ينبغي أن نعود من جديد جميعًا». ويرسم لبيتهم في القرية صورة جميلة أخاذة: «يسرّح نظره في ممر بيتهم القروي المبني وسط بستان صغير على مدخل القرية الصغيرة، تمتد خلفه حقول القمح بتموجها الذهبي الحي، تليها بساتين اللوز وأشجار الزيتون المغروسة منذ أول الخليقة، المعمّرة الراسخة حيث تمتد جذورها بهدوء عميقًا في التربة». المسجد: تتبع النصوص عن المسجد أدب المكان، ولكن لها خصوصيتها، كما أنه يسجل للكاتب أن طرق هذا الباب الذي يتجنبه معظم الكتاب الأردنيين؛ أنفة وترفعًا وتهميشًا، مع أنّ المساجد تنتشر في كل مكان، ومن معالم الهوية الأردنية. في نص «الزرقاء/الواحة» يستذكر المسجد أيام طفولته ويفاعته، حيث كان يلعب «الغماية» بين أعمدة المسجد وهو بالشورت القصير وسط استنكار المسنين ومؤذن المسجد، كما يتذكر دروس المسجد بعد المغرب، وتلاوة الشيخ إدريس والصوت الجهوري للشيخ البرقاوي، والجلسات الروحانية الندية، ولعب الكرة كل جمعة بعد صلاة الضحى في المسجد، والإفطارات الجماعية، وإفطار رمضان في المسجد على حبات من التمر والشراب الأصفر. يقول عن المسجد/الواحة: «قدَّمت الواحة له الكثير، الكثير من الامتيازات في ظل أجواء الجدب القاهرة المحيطة به من كل جانب، أعطته امتداد التاريخ وامتداد الهوية، ابتعدت به عن الصحراء ومنحته هناءً لا يوصف». ذات طواف حول الكعبة، يستشعر في نص «بياض غزير» لذة اللحظة، وروعة المكان وجلاله، وقوة الترابط مع الجموع المتراصة تطوف بانسيابية وخشوع وتضرع، يصف المشهد: «تصاعدت ريح طيّبة ملأته أنسًا وبهجةً، تلفت حوله يلتمس مصدر الطّيب، عبثًا دارت عيناه فالأريج العبق ينبعث من كل مكان ولا مكان، ترك نفسه ينساب مع الجموع الملبّية، يمضي ويمضي والجلال المهيب ينتصب أمام عينيه لا يفارقه، في تلك النقطة، في ذلك المركز جلال غير معقول يجاوز حدود البناء والطين، ويسبغ على الأشياء كلها حياة لا مرئية باسطًا سلطته الآسرة بلذةٍ منقطعة النظير». في نص «عيد» وسط تكبيرات المصلين قبيل صلاة العيد، وارتفاع صوتهم بابتهال وحالة صوفية ندية، يشعر بالفراغ والهم الكثيف وثقل الروح والألم اللامتناهي، فخرج إلى الشوارع الفارغة «لم كل هذا الحزن الشديد، تداعت الخيالات والأفكار؛ سورة الأحزاب.. الرياح العاتية.. القدور المنكفئة.. النصر.. المسلمون.. فلسطين.. الانتفاضة.. الحجارة.. العامرية.. كركوك.. حماة»؛ فقد ذكره العيد بماضٍ عظيم مشرف، زاهر بالعزة والنصر والقوة، وحاضر مؤلم جارح مشبع بدماء المسلمين وآلامهم وأحزانهم ومآسيهم. وبعد... فإنَّ «طقوس التّذكّر المحرّم» للدكتور أسامة المجالي، الصادرة عن دار أزمنة، 2018، في 136 صفحة، مجموعة تراوح بين الواقعية والرمزية، كتبت بلغة جميلة، تنوعت موضوعاتها، وتعددت مستويات القراءة فيها. يقول الدكتور حكمت النوايسة في تقديمه لها: «لا تنتمي لمنظومة الحكاية المبثوثة للتسلية، وإنما إلى ذلك النوع من الكتابة الذي يدعو إلى التفكير والتأمل، فضلًا عن ميزة أساسية في هذه القصص هي الجرأة في بعض الموضوعات، من حيث الحامل الموضوعي، أو القصّة الحاملة، مع احترام البناء القصصي الجميل».
جريدة الدستورالاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 19-04-2024 09:56 مساء
الزوار: 230 التعليقات: 0