جماليات المكان في ديوان «أحزان الفصول الأربعة» لنضال القاسم
عرار:
أ.د. نايف خالد العجلوني
يهيمن المكان، بأبعاده المختلفة، على ديوان «أحزان الفصول الأربعة» لنضال القاسم. ويلفت انتباهنا، منذ عتبات الديوان الممّهدة للقصائد، احتفال الشاعر بموضوعة «البيت»، أو بصورة أدق، «البيت القديم». ومن البيّن، بين ثنايا الديوان كله، أنّ هذا البيت يرتبط دائماً بالوطن السليب: فلسطين، أو أماكن محدّدة فيها. تقول العتبة الأولى: «مَنْ ضاعت قِبلته، فليسر ولا يطلب شرقاً ولا غرباً»، في إشارة واضحة إلى البيت/ القبلة/ فلسطين/ القدس/ أولى القبلتين. وتقول العتبة الثالثة المقتبسة من رواية «البيت الأندلسي» لواسيني الأعرج: «إنّ البيوت الخالية تموت يتيمة». وأما العتبة الوسطى/ الثانية المقتبسة من كلام نيتشه، فتقول: «الألم العميق يجعلنا أرستقراطيين، نعتزل الناس!» ولعلّ هذه العزلة وذلك الألم ناجمان عن فقدان «البيت القديم». والإشارة إلى «البيت الأندلسي» تُلْمِع إلى «الفردوس القديم»، وتوحّد الهمّ العربي بين الأندلس وفلسطين. في «أحزان الفصول الأربعة»، ترد الإشارة صراحة إلى «البيت» أو «البيت القديم» في قصائد كثيرة. ففي إحداها، يحدّد الشاعر، في متن القصيدة وفي الهامش، «دير الغصون»، بوصفها قرية الشاعر في فلسطين المحتلّة: يا «دير الغصون» يا بيتي القديم، بيت الريح والأسرار موعدنا الصباحُ إني عائدُ فلسطينُ يا، فلسطينُ يا، فلسطينُ وبالإضافة إلى أن معنى «البيت» يتماهى هنا، وفي الأمثلة الأخرى التالية، مع معنى «الوطن»، فإنه يشير دائماً إلى جماليات البيت الأول الخاصة، البيت الأليف بكل تفاصيله التي لا تبارح الذاكرة. «البيت هو ركننا في العالم»، كما يقول غاستون باشلار، «إنه كما قيل مراراً، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى». وإذا اتفق أن غادرنا البيت القديم، فإنّ «ماضينا كاملاً يأتي ليسكن البيت الجديد (.....) وعندما نسكن بيتاَ جديداً، وتتوارد إلينا ذكريات البيوت التي عشنا فيها من قبل، فإننا ننتقل إلى أرض الطفولة غير المتحركة (......) نحن نعيش تثبيتات السعادة. إننا نربح أنفسنا من خلال أن نعايش مرة أخرى ذكريات الحماية». وإذا عدنا إلى المثال السابق عن البيت القديم في «دير الغصون»، فقد وصفه الشاعر بأنه «بيت الريح والأسرار»، إذ ما تزال الرياح تهبّ وتحمل معها روائح المكان وأسراره الأليفة. وإذا كان المحتلّ قد اغتصب البيت، فإنه لن يستطيع أن يمحو أسراره ودفأه وضحكات الصغار تملأ جنباته: لن يسرقوا دفء البيوت بهجة الصغار، كركراتهم تنفّس الصباح والشفق لن يمنعوا تلاقح الأزهار لن يمنعوا الغيث المهاجر ... ... ... ... ... وفي قصيدة «مرحباً يا أبي»، يعيدنا القاسم إلى أجواء «البيت القديم»، وإلى شيء من النزعة الرعوية الريفية التي أشرنا إليها في المحور الأول. يتذكر الشاعر أباه، «صديق البراري»، و»صديق البنفسج والزنجبيل»، كما يتذكر ليلة صيف مزدانة بضوء النجوم، ومعالم المكان الفلسطيني: الوقتُ صيفٌ وأبي وحيدٌ في المساء وبيتنا تضيئه النجومُ وشمعدانٌ نائمٌ على إطار النافذة وأبي يحبُّ رؤية الأشجار في الحديقة يجيدُ الحديث عن الحرب والأصدقاء يجيدُ التحدّث عن كل شيءٍ عن الموجِ والبحرِ ورائحة الأرضِ والأنبياء الوقتُ صيفٌ وبيتنا القديم يا أبي مضرّجٌ بالنار والدّماء وصوتك الرنّان يا أبي ما زال يهتف بي نحن أبناء الغبار نموتُ لتحيا فلسطين وتظل صورة «البيت القديم» بدلالاتها الذاتية والقومية، تلحّ على الشاعر في قصيدة «الخيل والليل» التي تتداعى فيها صور الأب، بما هو رمز للجذر التراثي وخيل المتنبّي وليله، كما تتداعى فيها صور القمح والبرتقال والبحر والرعاة والعطور والظلال والألوان وألحان الميجنا والعتابا، وأغاني الأم الفلكلورية القديمة. هكذا تحضر صور البيت القديم بكل أطيافها وظلالها، وتحضر معها كل عناصر التراث الراسخة في أرجاء المكان، في أرضه وترابه وأصحابه. وتبرز في القصيدة، إلى جانب ذلك كله، كثير من تفاصيل بيت الطفولة، بيت الحبّ والألفة والحماية، في لغة بسيطة تقترب من لغة الكلام اليومي: أسرارنا العائلية، أوراقُ أختي ومريولها المدرسيُّ الملاءاتُ فوق الأسرَّةِ، رائحةُ البخّورِ، بردُ الشتاء، السجائرُ والشايُ، مدفأةُ الكاز والكستناء، حميميّة الأهل والأصدقاء، صوتُ الإذاعة والصورْ الغائبة، ساعةُ الحائط المستديرة، دفءُ المكانِ، ثرثرةُ الكلام، كذلك يحضر التاريخ والتراث مرتبطين أشدّ الارتباط بالمكان، ولا سيما في بعض رموزه العريقة. فثمة أولاً مدينة القدس، أولى القبلتين (التي ألمح إليها في العتبة الأولى)، مشيراً إليها أحياناً باسم «يبوس» التي ارتبط تاريخها بأصلها الكنعاني: لشتاء خيل الذاهبين إلى السماء لشوارعٍ في القدس أعرفها بلا أسماء لكنعان القصائدُ حيثُ تجري في العروق وفي الدماء وكما ترتبط صور البيت القديم بالأب كثيراً، كذلك ترتبط بالأم، حتى ليمكننا الحديث عن «البيت الأمومي» وارتباطاته العاطفية العميقة. فإذا أحسّ الشاعر بلوعة الغياب، في الغربة والمنفى، عن «البيت القديم»، حنّ إلى بيت الأم، بيت الطفولة والوطن، الوطن الخرافي الجميل، كما يسمّيه: تضيءُ الحكاياتُ قلبي فأصحو وأرتدّ طفلاً كنته ذات يومٍ أشتهي... وطناً خرافياً جميلاً أشتهي... شجراً وفاكهة وماء قد أنهكتني الحرب والمدنُ الغريبة ويشتعل حنينٌ جارف إلى «البيت الأمومي» بكل تفاصيله المحفورة في الوجدان والذاكرة: في الذاكرة صوتٌ بعيدٌ موحشٌ ضوءٌ يملأُ البيتَ نوافذُ ناعمة عينان حانيتان لامرأةٍ مضت إلى السماء لو أنها... لكنّها.... وعندما تتصل مسألة المكان مع الحب والمرأة، يسهب الشاعر في رسم الأبعاد الجغرافية والعاطفية للمكان وسائر التفاصيل المتعلقة بالمشهد. ففي قصيدة «كل شيءٍ يذكرني بليلى»، يتحدّث النصّ عن العلاقة مع امرأة صينية، كما يبدو من القرائن اللغوية التي تشير إلى أسماء أماكن صينية محدّدة، ومن تذييل القصيدة بعبارة: «جمهورية الصين الشعبية، بكين-هانزو، تموز 2015». فهل كان الشاعر يتحدث عن علاقة غرامية مباشرة مع امرأة صينية؟ ربما. ولكن النص يفتح المجال لقراءات أخرى محتملة. فلماذا اختار الشاعر اسم المرأة الأكثر شهرة في تاريخ شعر الغزل العربي: ليلى؟ إن العلاقة مع المرأة هنا ليست غير ذات صلة بالرؤية والموقف اللذين تنطوي عليهما البنية الكبرى للنص. فلعل الشاعر أراد أن يُسِقِط أبعاد وإيحاءات المشهد المكاني على رمز ليلى وتعالقاته بالتراث والوطن الأم: كلّ شيءٍ يذّكر بليلى: «شعرها الفحمي»: سمة غالبة في تراث الشعر العربي؛ «الأغاني التي أثقلتها التباريح»: سمة أخرى ذات صلة وثيقة بالغناء العربي الشَّجِن. وما دام أنّ كلّ شيء يذّكر بليلى، فمعنى ذلك أن الشاعر ينتظر ويتلهّف بشوق إلى الوطن والبيت والمحبوبة: فيا للعجب! كل شيٍ يُذكّرني بها... والقلبُ يهتفُ: ما أصعب الانتظار وعودة إلى بعض تفاصيل المكان في قصيدة الحب والمرأة في القصيدة نفسها، نجد أن النص يحتفي برسم الأبعاد المكانية وتصوير معالم المشهد تصويراً فوتوغرافياً دقيقاً: كل شيٍ يُذكّرني بليلى... الطريق المؤدي إلى بيتها المنزوي في السفوح جدرانُه البيض خلف الظلِّ والزقزقات شرفته الصغيرة والأصص أثاثه المُهلهَلُ أبوابه الموصدة مقاعد الإسفنج والخيزران ملاءةُ السرير والوسائدُ الزرقاءُ والستائر شُبّاكُ غرفتها المضيء قطّتُها الأثيرةُ أزهارها الذابلة وقفت ماجدة صلاح عند هذه القصيدة وغيرها في «أحزان الفصول الأربعة» لترصد التقنيات السينمائية التي وظّفها الشاعر، كاللقطات الخارجية والداخلية التي مثّل المكان فيها عنصراً مهماً، وكأننا «أمام مشهد سينمائي متكامل». والحق أن نضال القاسم يبرع في توظيف مثل هذه التقنيات وسواها في وصف المكان، وإعداد المشهد لتصوير قصة حب متكاملة العناصر، كما نجد في قصيدة «ميدوري». وقد صنّفت ماجدة صلاح هذه القصيدة «المشهديّة» ضمن ما وصفته بالمشهد المبني على الحوار بين شخصيّتين، كما في فيلم سينمائي متكامل. تبدأ قصة الحب هذه على متن طائرة في رحلة إلى اليابان مع مضيفة الطائرة اليابانية: في الطائرة في اندلاع الظهيرة والأستارُ مسدلةٌ والضوء ينسلُّ بين النوافذِ يلوحُ ويأفلُ والدروبُ تغيبُ تبعثرتُ لما رأيتك مشغولةً حائرة كنتُ وحدي وأينعت في خاطري حكايةٌ جديدةٌ ومغامرة تمهيد وإعداد بارعان لإطار القصة مكاناً وزماناً (setting) يهيئ المتلقي لمتابعة الأحداث وتفاصيلها على نحو مشوّق؛ إطار يصوّر عناصر المكان والزمان وما يكتنف المشهد كلّه من أضواء وظلال وأشواق لمعايشة مغامرة فاتنة. يتكفّل النص بخلق تجربة شعورية للواقع المعيش كما يحسّه ويحياه المبدع أو المتلقّي على نحو مباشر. فالنصّ هنا ينطوي على تجربة إنسانية مركّبة ومرهفة تغوص في أعماق الذات الجوّانية (the inner self) بكل هواجسها وأشواقها وأحلامها: متقابلين كُنّا نحدق في الفراغ وعلى الشفاه سرابُ ماء لعينيك صفو الينابيع وما بين جفنيك بردٌ ونار ويرتعش الحلمُ بين الجفونِ وتخفقُ بين الضلوعِ القلوبْ، فلا نعي همس الحياة لا تغيب معالم المكان وصوره الراسخة في أشعار القاسم كلها، وغالباً ما تمتزج الأشواق إلى المحبوبة بالأشواق إلى «البيت القديم» في فلسطين. فإذا تمّ اللقاء بعد ربع قرن مع المحبوبة «في دهاليز المنافي»، ودار الحوار الملتاع بين العاشق والمعشوقة، جاء الكلام على لسان العاشقة: مشتاقةٌ جداً إليك أحبُّك والقلبُ يهتف ما أطول الانتظار لك المدى والريح والنايات، أنفاسُ الورود لون البحر والأقمار سرّ الندى للتراب سرّ الشذى والأغنيات ألوان الفصول والأطياف لك ولك السنابلُ والخمائلُ والعشب والزقزقات ولك الأيائل والجداولُ تعزفُ لحنها ولك المآذنُ والقباب لك الحضور لك الغياب هكذا تتماهى كل معالم المكان الفلسطيني مع أشواق العاشق والعاشقة المتحاورين في النص. ولعل هذه القصيدة تذكرّ –من بعض الوجوه– ببعض أشعار محمود درويش. ففي قصيدة الأخير «شتاء ريتا الطويل»، يرد الكلام على لسان ريتا مخاطبة محبوبها: ولَكَ الأيائلُ، إنْ أردتَ، لكَ الأيائلُ والسهولُ ولَكَ الأغاني، إن أردتَ، لكَ الأغاني والذُّهولُ وتنتهي القصيدتان كلتاهما بطلب المحبوبة الابتعاد –ربما مؤقتا- عن المكان، لعلّ ذلك يوفّر لهما سبيلاً للخلاص من مأزق اللحظة الراهنة، ومن ثَمَّ لتجديد اللقاء. تقول المحبوبة في ختام قصيدة القاسم: خذني وابتعد، قالت لتورق بيننا الأيام خذني وابتعد، قالت ليخضرَّ وجهُ النهار وأما في قصيدة درويش، فتقول ريتا في ختام القصيدة: خذني إلى أرضٍ بعيدة خذني إلى الأرض البعيدةِ، أَجهَشَتْ ريتا: طويلُ هذا الشتاءُ.