موسى إبراهيم أبو رياش لم تترك الرواية فرصة للقارئ للتوقف على عتبة الرواية الأولى؛ العنوان:«الصدع»، ولم تمهله للتأويل أو الاستنتاج أو البحث عن دلالة العنوان وعلاقته بالمتن الروائي، فكشفت السر، وفتحت أوراقها في العتبة الثانية؛ الإهداء: «لأهلي وأصدقائي الطيبين، لهم جميعًا أقول: المدينة صدع، يفصل بين الإنسان والحياة»، وهي ما خلصت إليه الرواية في أسطرها الأخيرة :«المدينة بسلطة حضارتها الموهومة لم تكن سوى نتوء صغير زائد عن حاجة الزمن، نتوء يخدش وجه الحياة ووجه الحب،...، لا معنى حقيقيا للجدران. تتصدع المشاهد والذكريات، تنهار الأشياء هي ووهمياتها التي تعطيها شكلًا ما في عقولنا، لا يظل سوى الإطار الذي يحيط بالأشياء، لا تبقى سوى الجدران عدوة للطبيعة العميقة، هذه الجدران، ليست سوى صدع يفصل بين الإنسان والحياة». ولم يأتِ هذا الكشف عبثًا، بل لتوضيح ميدان الصراع، ومقتل الإنسانية، وعدو الحياة، وتوجيه الأنظار نحوه دون مواربة أو إبطاء. والرواية في مجملها، تسلط الضوء على بشاعة المدينة، وتداعيها على الإنسانية، والشطط بها بعيدًا عن الفطرة وما جُبلت عليه، وكأنها تقول إن المدينة والحياة الإنسانية الحقيقية ضدان لا يجتمعان، فلا حياة في المدينة، وأي حياة وكل إنسان معزول عن الآخر بجدران تتزايد عددًا وطولًا، جدران باعدت بين الناس، وقطعت صلاتهم، وجعلت كلًا منهم يعيش في جزيرة معزولة، بل إن كلًا منهم ميت بشكل أو بآخر، يعيش في توابيت إسمنتية إلى أن يحين موته البيولوجي، وينتقل من موت إلى موت، ومن قبر إلى قبر؟! الرواية على الرغم من محدودية شخوصها وأحداثها، إلا أنها عميقة بدلالاتها، ورسائلها، وإشاراتها، وتحذيراتها. غاصت عميقًا في دواخل شخوصها، وكشفت أغوار نفوسهم، وما يعتمل فيها، من معاناة وآلام في جانب، وقسوة وجبروت وخبث وسوء طوية من جانب آخر. المدينة، طبقية بامتياز، على عكس القرية والبادية؛ فالفوارق فيهما محدودة، وتكاد تتلاشى بفعل صلات وروابط الدم والنسب والجوار، بينما في المدينة تزداد الفوارق، وتتكثف، لتصبح حاجزًا أو أودية سحيقة بين كل طبقة وأخرى، بل بين الأفراد أنفسهم، وفي الرواية، برزت ثلاث طبقات؛ الطبقة الحاكمة، والطبقة الوسطى، وطبقة المهمشين، وانحصر التأثير في الطبقة الحاكمة وعلى رأسها حيدر المالح وقائده، هذه الطبقة التي تتحكم بالشعب، وتتعقب همساته وخطراته، وفرضت رسومًا باهظة لدفن الموتى، في محاولة منها لإيهام الخارج أن لا موتى عندهم، وأن شعبهم يتمتع بالحياة الأبدية، مما اضطر الناس لدفن موتاهم سرًا بعيدًا عن عيون السلطة، كما أنهم تخففوا من مراجعة المستشفيات تجنبًا لما قد يحدث، ولكن السلطة، وقد لاحظت عدم طلب تصاريح للدفن، حاولت معرفة سر الموتى وأين يدفنون، ولكنها لم توفق في ذلك؛ فقد تحولت كل البيوت إلى مدافن. حيدر المالح، استغل سلطاته في تعقب فتاة التقطها ذات ليلة، بعد أن غابت عنه، ليس من أجل حمايتها أو لأنه يهمه أمرها، بل لأنها خرجت من دائرة أوامره وسلطاته، فهو قد تعود على الربح وعدم الخسارة، فجند كل مخبريه ومتعقبيه للبحث عنها في كل مكان؛ لئلا تُخدش صورته، وليثبت أنه الأقوى، فأرعب من حوله، وبث فيهم الخوف لتنفيذ أوامره، وهو مجرد خانع ذليل في حضرة القائد، يجلس في الظل، ينتظر فتاتًا يجود به عليه، أو أعطية أو وسامًا، لا يجرؤ أن يتكلم أو يسأل أو يعترض. مثلت ليلى الحلاج الطبقة الوسطى في الرواية، ولكنها أقرب إلى تصرفات وسلوكيات السلطة، من حيث الهيمنة والإقصاء والسيطرة والنظرة الدونية للآخرين واستغلالهم والقضاء على كل من يهدد مصالحها، فقد همشت زوجها، وأقصته من حياتها على الرغم من الحب الذي كان بينهما، وخصته بغرفة ضيقة معتمة، يعيش فيها كخفاش يقضي وقته في قراءة الكتب، واستغلت عبدالرحمن في التخلص من جثة «دنيا»، ولما تجرأ بطلب المزيد من المال ليترك المدينة، سلطت عليه كلبها فقضى عليه، واضطر زوجها أن يدفنه في الحديقة. الطبقة الأوسع في الرواية، كانت للمهمشين، الذين مثلهم عبدالرحمن ورائد اللذان يعملان في بيع الكتب، ومريم زوجة رائد، وهذه الطبقة لا تأثير حقيقي لها، فهي تعيش في القاع، لا يأبه بها أحد، فهي عبء على السلطة وأزلامها، زائدة عن المدينة، لا ضرورة لها، وإذا ارتبطت هذه الطبقة بالثقافة، فهذا أدعى للحط من شأنها واحتقارها والتنكيل بها. مريم، المصابة بمتلازمة كورساكوف، الذي تؤثر على الذاكرة وفقدانها وتذبذبها، كانت الأبرز في هذه الطبقة، والأكثر حيوية وتغيرًا على الرغم من مرضها، فقد كانت تعمل موظفة، ثم افتتحت مشروعًا تجاريًا حظي بالنجاح والشهرة، ثم باعته عندما داهمها المرض، وسطت الغربان على مستودعاتها، ولم تتردد في البحث عن زوجها عندما اختفى، حتى وجدته واستعادته، وغادرت وإياه إلى بيت آخر. وربما أن فقدان الذاكرة المتعمد، هو الملاذ الأخير للمهمشين ليتناسوا واقعهم، وما يتعرضون له من ظلم وإقصاء ولا مبالاة، ويتحدون ظروفهم وواقعهم، وإلا فإنهم سيبقون في الحضيض لن ينتشلهم منه أحد! الحدث الأبرز في الرواية، كان ظهور الغربان بأعداد كبيرة في المدينة، وأكلها وشربها كل ما يقع تحت مناقيرها، فلم توفر شيئًا، حتى ضج الناس، وارتفعت الأصوات في الصحف، فجند القائد حيدر المالح للقضاء على الغربان، فكان له ما أراد بعد خطة وتدبير، فتخلصت المدينة من الغربان الصغرى، ولكنها ما زالت تعاني، وستبقى تعاني من غربانها الكبرى! واللافت، أن الغربان المرتبطة بالشؤوم من المنظور الشعبي، وأنها التي علمت البشر دفن الموتى كما ذكر القرآن الكريم عندما قتل قابيل أخاه هابيل، هذه الغربان خرجت عن فطرتها وطبيعتها في المدينة؛ عندما عمدت إلى نبش قبور الموتى في حدائق البيوت، ربما، لتكشف السر، وتوضح الحقيقة أمام السلطة الباغية، وتصفع جبروتها؛ أن الموت لن يتوقف، وأن الناس لن يعدموا الوسيلة، وكل إجراءاتكم لن تغير قوانين الكون، وكان موت الغربان بأعدادها الكبيرة، تحديًا للسلطة وسخرية منها، فهي ملزمة بدفنها دون رسوم، وإلا فلتشوها وتأكلها!! ومن الملاحظ، أن السلطة استغلت الغربان، التي قامت بتنظيف المدينة من المخلفات والقاذورات، ولم تقم السلطة بالتخلص منها مباشرة، بل سمحت لها بالعيش والتزايد، ومنعت صيدها بحجة وجود خطة، ولما قامت الغربان بدورها، وأكلت الأخضر واليابس،ضجَّ الناس، وأصيبوا بالذعر، والخوف مما ينتظرهم، ولما تحققت غاية السلطة من تدجين الشعب، نفذت خطتها ضد الغربان، وأظهرت نفسها كمخلص ومنقذ؛ ليزداد الناس لها خضوعًا وعبودية. نجحت الرواية في رسالتها التحذيرية، من خطورة المدينة على العلاقات الإنسانية، بل على الإنسان ذاته ووجوده، لأن المدينة وقوانينها وقيمها الاستهلاكية وبروتوكلاتها الاجتماعية، مبنية على السلطة والطبقية والجدران المرتفعة والاستبداد والظلم، وكل ذلك يتعارض مع الحياة الكريمة للإنسان، وتحقيق ذاته، والتنعم بوجوده، وهي دعوة صريحة للعودة إلى القرية والريف والبادية، حيث الفضاء الرحب، والمساحات الواسعة، والهواء الطلق، فلا جدران حقيقية، ولا طبقية مقيتة، ولا سلطات مقدسة. الرواية، على الرغم من لغتها المتقنة، وسردها المحكم، وحوارها المحدود دلالة للتباعد والتقوقع في المدينة، وعمقها، وما تتضمنه من أفكار ورؤى، وتعدد مستويات القراءة، إلا أنها أحبطت القارئ من حيث عدد الفصول المحدود، وطولها الممل، بالإضافة إلى التنقل من شخصية إلى شخصية، ومن حدث إلى حدث، بما يشبه النطنطة والتقافز، دون تمهيد أو مبرر، ولا يمنح الرواية أي ميزة أو قيمة مضافة، وكان من السهل وضع فواصل، لعدم إرباك القارئ، وتلاطمه بين الشخوص والأحداث. وبعد؛؛ فإن رواية «الصدع، عاصف راجح، وزارة الثقافة، 2015، 156 صفحة»، نجحت في إثارة العديد من الأسئلة والقضايا، وبثت كثيرًا من الترميزات الصارخة، وعصفت بالقارئ كثيرًا في أثناء القراءة، وهذا يُسجل لها بالطبع، ومنحته وجبة دسمة من التفكير والتأمل، ووضعته بين خيارات مختلفة، فليس بالمدينة وحدها يعيش الإنسان!!