نبيل حداد يبدو واضحاً، من عنوان رواية «الحورانية» لمجدي دعيبس (2023)، أن ثمة توجهاً ما، أن يكون هذا العمل رواية مكان مقام في المقام الأول، ولعل هذا التصور متأثر ببعض أدبيات «الرواية العربية الحديثة» القائمة على أساليب المحاكاة التقليدية، بحيث درج بعض المنظرين على محاولة توزيعها على عدد من التصنيفات الإشكالية داخل النوع الواحد؛ كأن يقال رواية حدث، أو رواية شخصية، أو رواية بطلها المكان، أو رواية الأسرة الواحدة، وربما ذهب الافتراض ببعض المنظرين – في بعض الأعمال - إلى كون بطل العمل هو المجتمع بفئاته كافة ... إلخ. وذلك على خلاف الرواية الجديدة، التي قامت بداية على التجريب ثم انتهى الأمر إلى تيار سائد بأسس جديدة واضحة أو غائمة أهمها ألا أسس مشتركة بين هذا العمل أو ذاك، وغيره من الأعمال، فكل عمل مغامرة روائية قائمة بذاتها. (1) على الرغم من محاولات واضحة للتجريب، مارسها مجدي دعيبس في معظم أعماله الصادرة قبل ذلك؛ فإن «الحورانية»، تحديدا تبقى بصورة عامة ضمن مسار الرواية الحديثة، بالتقاليد التي سار عليها رواد هذا النوع الأدبي في الشرق والغرب، منذ ما يزيد على قرنين وحتى يومنا هذا، وما زال هذا الشكل الروائي، قادراً على حمل الرسالتين الفنية والفكرية التي يسعى كل روائي – بقصد أو دون قصد - أن يحملهما عمله. يشجعنا على الاعتقاد بالسعي لأن تكون رواية مكان، مكونات هذا العمل من جهة، والمسار الذي اختطته شخصياتها وأحداثها وتنوعات تشكيلاتها وخطابها من جهة أخرى، أما المكونات الموضوعية فإنها قد تتطلب وقفات طويلة، سنأتي إليها، وأما المسار الفني للروائي فتكفي الإشارة إلى روايتين أخريين له تصدران عن الرؤى نفسها وتتكئان على أدوات فنية درجت عليها الرواية الحديثة بنماذجها التي تسعى إلى التجريب المحسوب. أعني «الوزر المالح» و»قلعة الدروز». تدور أحداث «الحورانية» وهي أحداث متشعبة، في قرية تحمل هذا الاسم الذي يبدو أنه اسم فني مفترض. وربما كان الأمر على خلاف ذلك في حقيقتها الإنسانية والجغرافية. بل يبدو أن التخيل يتوقف عند الاسم، لكن المحتوى الموضوعي ومفردات الحياة في الرواية تشير جغرافيا وموضوعيا إلى مكان بعينه يقع في أطراف سهل حوران، والقول «أطراف» يعتمد على بعض القرائن أو الإشارات إلى موقع هذا المكان؛ من مثل القرب من إربد، المدينة التي يشار إليها باسمها الصريح، ثم إطلالة «الحورانية» على «وادي الغفر»، وهذا الوادي هو الحد الغربي الذي يفصل سهول حوران عن سهول الوسطية ومنخفضات الأغوار، وفي ركنه الشرقي الجنوبي تقع «الحصن»، وهي المكان الذي أغامر فأقول إنه المصدر الذي تستند إليه الرواية في استلهام مفرداتها البيئية بحقائقها الثلاث: المكانية والزمانية والاجتماعية، فإذا أضفنا - بقدر قليل من التعسف - مرجعية المؤلف الخاصة والبيئة التي نشأ فيها، جاز لنا أن نتصور ولو من قبيل التمثل الانطباعي أن «الحورانية» هي «الحصن» في طورها الانتقالي من القرية إلى البلدة. ويعزز هذا إشارت كثيرة إلى التل الشهير والمغائر التي تقع على أطرافه، وكانت كما يقول تاريخ عاصرته بنفسي مقصداً مفضلا للساعين وراء الدفائن، والباحثين عن المغانم التي خلفتها الأقوام البائدة، بالضبط كما تصوره الرواية. وفي كل الأحوال فلا بد من التأكيد أن مسألة المطابقة بين المكان الواقعي والمكان الذي أراده الروائي متخيلا قد يكون لها بعض الأهمية الموضوعية، ولكنها ليست من الأهمية الفنية في شيء. هذا العمل، كما ذكرنا آنفا يبقى في إطار الرواية الحديثة: شروطها الجوهرية وتقاليدها المتوارثة؛ لذا، فلا حرج في أن أسمح لنفسي في أن أخوض قليلا في العناصر الراسخة في الشكل الجوهري للرواية الحديثة، بداية بالحبكة الروائية؛ فهي في هذا العمل من النوع المتراخي، أي ليست حبكة صارمة، بحيث تنبثق عن أرضيتها الأحداث ثم تتصاعد لتلتقي عند نقطة ما لتحضر لحظة التنوير التي تتكشف عندها كل أسرار المسارات المتابعدة والملابسات، إن وجدت. والأحداث في «الحورانية» تسير على هذا النحو في خطوط متعددة وأخشى أن أقول إنها بدت، في بعض الأحيان، متباعدة لا يجمع بينها سوى رابطة المكان. وكل خط يقوم على شخصية أو أكثر، ومن الطبيعي أن الشخصية لا تكستب الأهلية الروائية إلا وهي تفعل وتعمل وتفكر وتتفاعل مع محيطها الاجتماعي وبيئتها بالحقائق الثلاث التي أشرنا إليها: الزمان والمكان والإنسان، على أن خطوط الرواية، بعد أن تنطلق من قاعدتها المكانية (الحورانية) يعتور بعض مساراتها ضرب من البعثرة، ولو أن معظم هذه الخطوط لا يلبث أن يتلاقى. والشخصيات التي تقوم عليها هذه المسارات المسارات رئيسة؛ إذ لا شخصية محورية في هذا العمل، اللهم إلا إذا لجأنا إلى قدر من التجريد فزعمنا أنها المكان. هناك مسار عائلة أبو سليم، وأبرز أفرادها الفتاة متوسطة الجمال سليمة، التي تهيم من طرف واحد، بالفتى الجميل يمين، وهي فتاة شجاعة، تتمكن ذات يوم من إنقاذ فتاها المتمنى، في فترة مبكرة من حياته، من حريق كاد يودي بحياته، وتخرج منه بإصابة دائمة في ذراعها. أما يمين نفسه فإنه - نسبيا - الشخصية التي تنال أكبر قدر من الاهتمام وتحتل المساحة الأوسع بين شخصيات الرواية كافة دون أن تحظى بمكانة البطل المحوري. ثم هناك المسار الذي يتتبع معلم اللغة العربية المثقف الملتزم أحمد البلزم، وهو صاحب رسالة تربوية لا يكتفي بتوجيهها إلى تلاميذه فقط بل يجمع حوله المريدين، مما يوسع من المساحة التي يحتلها في أحداث الروايه ويعزز الدور التربوي والسياسي الذي ينهض به بين شخصيات الرواية. ومن الجلي أن المؤلف يسعى إلى عملية مسح اجتماعي شاملة لمجتمع الحورانية؛ ولا سيما من حيث الشخوص: نماذج وأنماطا، بمستواها الفكري والثقافي والفني بل والإديولوجي، إضافة إلى اهتمامه بالدور المهني أو الوظيفي لشخوصه من رجال القرية. وهذه ناحية أساسية في إنجاز النموذج الاجتماعي المنتمي للطبقة البرجوازية الصغيرة أو طبقة الفلاحين رقيقي الحال، ويستكمل السارد هذه الناحية بدور جانبي يجعله عاملا مشتركا بين معظم رجال القرية: البحث عن الدفائن التي قد تعود لآلاف السنين، أو عن كنوز الغابرين ممن استوطنوا القرية في العهود الغابرة. وهذه ممارسة تكاد تكون تقليدا متوارثا في كل قرية من قرى حواران، بل في كل قرية أردنية تقوم فوق ما يدعوه الأهالي بالخِرب (جمع خِربة بمعنى خرابة) أو تجاور التلال التاريخية الصناعية كما الأمر بالنسبة لهذه الرواية. وناهيك عن مسارات الحياة اليومية داخل البيوت وخارجها، وفي التجمعات التي تشهدها أسواق القرية، والمجالس اليومية في دكاكينها ومايدور فيها من أحاديث عن الأحداث اليومية الصغيرة وشؤون الناس، أو الأحداث الكبيرة من مثل جرائم القتل التي تحدث لأسباب تافهة، والأعراس، والترحال طلبا للعلم، والعلاقة مع السلطة، والانشغال بالسياسة وبخاصة لدى شباب القرية ومثقفيها من المنتمين للأحزاب السياسية المسموح بها أو المحظورة، أو تلك التي يُغض الطرف عن نشاطها مادامت لا تمثل خطرا من وجهة النظر الأمنية. (2) والرواية حافلة بأحداث درامية ترتبط بشخوصها فترسم ملامحهم بأبعادها الجسمية والسيكلوجية والقيمية، وبعض هذه الأحداث ينخرط في سياق درامي مقنع وبعضها الآخرلا يخلو من افتعال؛ وبخاصة حين تبدو الشخصيات والأحداث وكأنها تُستدعى لأغراض تسجيلية تستكمل بها صورة الحياة بعاداتها وتقاليدها وأنماطها البشرية ونماذجها الاجتماعية. كل هذا ممزوج بنكهة رومانسية فاقعة أحيانا وخجلة في مواضع أخرى تمليها طبيعة العلاقات الإنسانية في البيئة الريفية، وفي الجو العام الذي يخيم على وقائعها، إضافة إلى أن المرحة كانت رومانسية بامتياز، ولكن «الحورانية» تظل في الرؤية المهيمنة ورسم الشخوص والأحداث أقرب إلى الخطاب الواقعي التسجيلي تحديدا. ولما كانت الرواية الحديثة التي تقوم على خطاب المحاكاة، قابلة لتصنيفات تقليدية من قبيل الوصف بأنها رواية شخصية، أو رواية حدث، أو رواية مكان، وربما رواية مجتمع، حيث يتقاطع الزمان والمكان مع الإنسان، فإن من السهل - مع بعض التجوز- أن نصف هذه الرواية بأنها رواية مكان، بمعنى أن المكان فيها ثيمةٌ أساسية، وليس مساحة تعيش فيها الشخصيات فحسب. على أن المكان لا يتمظهر بمكون جغرافي أو أفق فضائي فحسب، بل تتكون صورته أو لنقل يتم تأثيثه من أساليب حياة أناسها بعاداتهم وقيمهم وبممارساتهم وشواغلهم اليومية وهواجسهم وأسرارهم، ما ينكشف منها وما يظل خفيا لا يعلمه سوى الراوي ومن يخاطبهم من قرائه. لا تتسم الأحداث الأساسية التي تقوم عليها الرواية بخصوصية بيئية حصرًا. بل قد تشهدها أي بيئة ريفية عربية وهي على أعتاب مرحلة التحول إلى نمط أولي في الحياة المدينية. ومع هذا فإن الكثير من المواقف والعديد أتاح للشخوص أن تتحرك بدينامية وحيوية وضمن شكل ما من أشكال الخصوصية والتمايز. من ذلك مثلا حدث الحب الصامت، بين الفتاة متوسطة الجمال سليمة والفتى الجميل يمين، بما في ذلك حادثة الحريق الذي أظهر شجاعة سليمة في إنقاذها ليمين، ينضاف إلى هذا سعي العديد من شباب القرية وشيبها للبحث عن الدفائن بما يتخلله من وصف حيوي ينجح فيه السرد باستحضار جو من المغامرة والمشاعر المختلطة ما بين الترقب والتآمر والطمع وبناء القصور في الهواء وما إلى ذلك. وهو ما يمكن أن يقال عن الانشغال بالشأن العام، والنشاط الحزبي المعلن والخفي، الذي لم يكن يجلب على أصحابه من المثقفين في تلك الحقبة سوى المعاناة، وربما شكل ما من أشكال التنكيل. مما يحسب لحبكة الرواية أن الوقائع تُتوج بحدث كبير ينطلق من بؤرة يتجمع فيها معظم المسارات وشخوصها في الجانبين الخاص والعام لهذه الشخوص. كما نجحت الحبكة في استحضار المناخ السياسي لبلد أناسه مسيسون بالفطرة. ولم تقف مسيرة الأحداث عند مرحلة واحدة فقط؛ بل إن السياسة وظلالها ظلت مواكبة لسيرورة العمل منذ الخمسينيات. هذا العقد الذي شهد بعض الممارسات سلبية صدرت عن السلطة في وجهها الأمني تجاه المثقفين بخاصة، وأصبحت الآن في ذمة التاريخ. ومع أن واقعة جريمة قتل المحامي المثقف صلاح عثمان تتكشف عن دوافع فردية جرمية، وليست سياسية، فإنها استدعت- دون افتعال- الملابسات السياسية التي كانت تخيم على البلد آنذاك، لاسيما أن الجانب السياسي يحتل مساحة مهمة في الأرضية الفكرية والاجتماعية لمجتمع البلدة؛ إذ تنجح الرواية في تصوير الرواية الحياة السياسية وتأثيرها على أفراد بعينهم من المجتمع، كما تنجح في إبراز الجانب الحزبي بوصفه جزءا من حياة مجتمعها وأناسها برؤية متوازنة ظلت بمنأى عن أي موقف إديولوجي مسبق للمؤلف. ذلك أن سرد الوقائع يقوم على حقائق تاريخية يصعب الجدل حولها، فهي جزء من التاريخ السياسي الموثق للمنطقة العربية خلال
الخمسينيات والستينيات. ومن هنا ، فإن هذا الجانب ليس تطرقا فائضا أو استطرادا ترفياً؛ فقد واكبت الأحداثُ فترات كانت تمور بالصراعات بين الأنظمة القائمة في المنطقة آنذاك والاتجاهات السياسية والإديولوجية المتناحرة. بل إن حركة السرد امتدت لتواكب والتدخل السوفييتي في أفغانستان، وحربي الخليج الأولى والثانية. وانعكست تفاعلات هذه الحروب والأحداث الكونية على نمط الحياة اليومي للناس. وتكفي الإشارة هنا إلى ما أبرزته الرواية من انتشار لظاهرة الأفغنة بين أوساط بعض الشباب، والتبعات الاقتصادية والسياسية لحروب الخليج في مجتمع مسيس طيلة ستة عقود على الأقل. وقد لا نغامر إذا قلنا إن أحداثا تاريخية بهذا الحجم كانت أحوج ما تكون لإطار ملحمي؛ على ألا يذهب بنا الأمر لحد القول إنها رواية ملحمية؛ لكن «الحورانية» لم تخل من بعض الأنفاس الملحمية التي تنبعث في لغتها من مثل النزوع الشعري في خطابها، بل إن النص الروائي نفسه يتضمن بعض المقاطع الشعرية، كما أن فضاءها يستند، بصورة أو بأخرى، إلى استبعاد مكاني؛ فالحورانية اسم لا وجود على أرض الواقع. وكذلك شخوصها؛ فهم يلهثون وراء شكل ما من أشكال الانتصار حتى لو انتهى الأمر سرابا. بل إن انطواء بعض الشخصيات على سرها الخاص يقربها من العطاء النموذجي الذي لابد أن يحضر في الأعمال الملحمية. على أن هذه الشخوص وإن انتسبت لأكثر من جيل فإن فكرة صراع الأجيال، وهي شرط ملازم للعمل الروائي الملحمي، لم تحضر بشكل جلي. أضف إلى ذلك أن الرواية لا تسير في خط كرونولوجي متصاعد، بل تقوم على الجمع بين خطاب المحاكاة التقليدي في الرواية الحديثة، والتجريب المتمثل بهذا التناوب بين الأسلوب البوليفوني متعدد الأصوات والقص المباشر الذي يتولاه الراوي الغائب المحايد كلي العلم بالأحداث ماضيها وحاضرها، وفضاءات الشخصيات لنطلع على باطنها وظاهرها، وقد ساعد هذا التناواب في تعدد وجهات النظر حول الحدث الواحد وفي رسم معالم بعض الشخصيات بأصوات شخصيات أخرى تختلف معها في وجهات النظر، على رسم صور متكاملة وناضجة للعديد من النماذج البشرية. (3) لا تقوم الرواية على بطولة فردية أحادية، أو ما يعرف بالشخصية المحورية. بل على مجموعة من الشخصيات الرئيسية. أي إن البناء لا يتخذ الشكل العرضي بل أقرب إلى الشكل الرأسي الذي تمثله واحدة من أبرز نماذج الروية العربية التي تقوم على هذا الأسلوب الرأسي: «زقاق المدق» لنجيب محفوظ (1948)؛ ففي هذا العمل يتجلى المكان بوصفه العنصر الأبرز في المكون الروائي. إن الزقاق ومحيطه القريب هو الفضاء الرئيسي الذي تجري فيه أحداث الرواية، وتتشكل في إطاره الأبعاد النفسية والاجتماعية وحتى الجسدية للشخصيات. على أن أهمية هذا العمل تعلو إذ نأخذ في الاعتبار أن وراء هذه التفاعلات بين الإنسان والمكان رؤية إنسانية بل كونية؛ فمهما صغر المكان فليس من سبيل أن يُحجب عن أناسه التأثر بما يشهده العالم من أحداث مصيرية كالحرب العالمية الثانية مثلا. فهذا الحدث الكوني تغلغل في نسيج العمل عنصرا اجتماعا وإنسانيا فاعلا في تحديد مصائر بعض أبطاله، وفي مظاهر الحياة القيمية والمعيشية في الزقاق، أما في «الحورانية»، فوراء العمل رؤية اجتماعية تدور في فلكها الأحداث بشكل نموذجي قد يتكرر- في جوهره- في كل قرية أو بلدة في هذه البيئة ولكن بأفق إنساني محدود، وربما يقتصر على المحيط الجغرافي والبشري لهذا المكان، وهو محيط مرتهن في أية حال، بالحالة الوطنية المحلية فحسب. وهكذا يمكن تشبيه شكل الأحداث في «زقاق المدق» ببناء يقوم على نظام الأعمدة المتجاورة التي تلتقي عند القاعدة (المكان هنا) وليس شرطاً أن تتلامس الأعمدة عند الرأس، وهو الأسلوب الذي ارتضاه مجدي دعيبس في «الحورانية» في تسلسل الأحداث ودفعها باتجاه نقطة معينة، ثم تتجه حركة السرد بخيوطها كافة نحو نهاية العمل التي تتوج بحدث درامي كبير كما الأمر في رواية المحاكاة الحديثة. على أن هناك، من الوشائج من جهة أخرى، ما يجمع بين الشخوص غير رابطة المكان؛ فمسارات الشخوص، تلتقي عند أكثر النهايات شيوعاً في رواية المحاكاة الحديثة، وأعنى بهذا ما تحدث عنه «فورستر» في عشرينيات القرن الماضي، من كون نهاية معظم الروايات تتوج إما بالموت أو بأمر يتعلق بالزواج (تلاقيا أو فراقا). والحقيقة أن هاتين النهايتين المفترضتين حاضرتان في «الحورانية»: إخفاق مشروع الزواج بين سليمة ويمين، وجريمة القتل التي راح ضحيتها المحامي اليساري المثقف صلاح عثمان، الذي يتضح أن حادثة قتله كانت مدبرة من أحد المتبطلين لغرض سرقة حلية أثرية ثمينة؛ فيقتل المحامي وينكشف أمره وتنتهى المماطلة السردية المشوقة بالقبص على الجاني وهو ما يربط النهاية بمسار أساسي: البحث عن الدفائن. هذه الحادثة بالذات كانت بؤرة تعزز من لحمة الرواية، وتضفي على أحداثها تماسكا ينأى ببعض مساراتها عن التشتت، وتلتقي عندها العديد من حركات السرد؛ إذ يحوم الشك حول يمين بأنه كان وراء الجريمة، كما يحضر نموذج البروليتاري الملتزم (أبو يمنى الذي يبر الرفيق المغدور صلاح عثمان بالحلية). ليتخذ مسار الدفائن دوره العضوي في حبكة الرواية، فيخفف من تراخيها وينقذها من تفكك غير محسوب كان سيعتورها لولا حضور هذا المكون في لحمة نسيجها، كما أن هذه الواقعة تنأى بخط الدفائن عن شبهة التوثيق لذاته، إضافة إلى أن الجريمة نجحت في لململة الخطوط الرئيسية في ضفيرة واحدة؛ خط صلاح اليساري واشتباكه مع الشيخ القادم من بلاد الأفغان (خالد الباطي) الذي، تتجه نحوه الشكوك نظرا للخلاف العقائدي المعلن بينه وبين صلاح. ومع هذا فإن هذه النهاية الدرامية لا تتيح للعنصر العاطفي، وهو مكون رئيسي شكلا ما من أشكال الحضور، إلا بملامسة عابرة وغير مباشرة من خلال الشبهة التي حامت حول يمين محط أنظار صبايا القرية، ليبقى الخط العاطفي على هامش شبكة العلاقات التي قادت إلى النهاية. وإذا انتقلنا إلى النسيج اللغوي؛ فسنواجَه بأكثر من إشكال، في الحوار، ولغة السرد وتعدد مستوياته، وموقع الراوي، وغير ذلك من عناصر أخرى؛ وهو مالا يتسع له المقام في هذه المقاربة بل إن الأمر يتطلب وقفة أخرى.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 31-05-2024 09:59 مساء
الزوار: 250 التعليقات: 0