|
عرار:
إن كتابة تاريخ أي حضارة مرتبط ببواعث إما عقدية، منفعية، علمية أو حتى شخصية. مجمل هذه البواعث لها تأثير مباشر أو غير مباشر على السردية التاريخية. المؤرخون القدماء مثل هيرودت ويوسيفوس وبوركبيوس إلى ابن خلدون وابن كثير وأبي شامه وابن الأثير والذهبي وغيرهم حاولوا كتابة السردية التاريخية من خلال تتبع أخبار الأقوام والحضارات المختلفة من خلال نقل روايات صحيحة أو مختلقة وبغض النظر عن مصدرها ولكن على الأقل هم حاولوا تقديمها ونقلها ربما دقق البعض منهم أما الآخر فقد اكتفى بالنقل فقط وبغض النظر عن المصدر. أن ظهور مفهوم الهوية الوطنية ما بعد الثورة الفرنسية، وانتشار فكرة الاستقلال الذاتي للدول التي تم تفكيكها ما بعد الحربين العالميتين الأولى و الثانية حيث بدأ الكثيربالمطالبة باعادة كتابة سرديتهم التاريخية، مسقطين المصطلحات السياسية والجغرافية الحديثة على هذه السردية. حتى بعض الاكاديميين وقعوا في هذا الفخ ظانين أن من ضرورات الحفاظ على الهوية الوطنية الحالية هو ايجاد سردية تاريخية ترتبط بالهوية الوطنية للكيانات الحديثة فقط وبشكل منفصل عن المحيط التاريخي والجغرافي. ونبدأ بسؤال حول الامتداد الحضاري خارج الكيانات السياسية الحديثة وهل يمكن دراسة تاريخ الأنباط مثلا بعيدا عن ذكر مدائن صالح والحجر وبصرى الشام. وهل يمكن فهم تاريخ الآدوميين من دون دراسة الامتداد الجغرافي للادوميين في جنوب فلسطين، الجواب بالتأكيد لا ولكن هل هذا ينقص من الهوية الوطنية. إن أردنا بناء سردية تاريخية للاردن على سبيل المثال؛ فلا بد من الاتفاق على مجموعة من المبادئ تحمي الهوية الوطنية و لا تفصلها عن محيطها العربي المسيحي والاسلامي على حد سواء، ومن أُولها الحيادية في الطرح ، اضافة الى الربط التاريخي مع المحيط، واتباع المنهجية العلمية في كتابة الاطار التاريخي للهوية الوطنية. الناظر في تاريخ الأردن القديم يستطيع التعرف على مفاصل وأحداث تاريخية يمكن البناء عليها لانتاج السردية التاريخية الحقيقية والتي تحكي قصة الأردن، فمنذ نصف مليون عام أو أكثر بدأت ملامح الحضارة في الأردن خلال العصور الحجرية القديمة. اما التطور والتخطيط العمراني فظهر في قرية عين غزال الأثرية منذ 10.000 سنة وتُعد من أقدم نماذج التاريخ الحضري القديم. ومنذ ما يقارب خمسة ألاف سنة وفي خضم السيطرة العالمية على منطقة الشرق والصراع ما بين الحضارات المصرية»الفرعونية» والحثية والسومرية والأكادية على تملك الثروات واستخراجها في منطقة بلاد الشام قديما؛ برزت العديد من المدن المسورة والمحصنة في الأردن ومنها من تطور لينشئ أنظمة مائية متميزة مثل جاوة في البادية الشمالية الشرقية اضافة الى العديد منها في منطقة الأغوار وغيرها، حتى عادات الدفن والمقابر تميزت في باب الذراع والتي حوت عددا ضخما من القبور حتى أن بعض الباحثين اعتبروها من أكبر المقابر في بلاد الشام. وحتى ظهور الممالك المستقلة العمونية والادومية والمؤابية في الأردن منذ أكثر من ثلاثة الاف عام وعلاقتهم الدولية المتشابكة مع المحيط وخاصة ما عَلِمناه من مراسلات البلاط الملكي الاشوري والبابلي على سبيل المثال لا الحصر. حتى الاسكندر المقدوني وحروبه وتنازع القادة السلوقيين والبطالمة تركت لنا قصة مروية في عراق الأمير وغيرها. وبظهورالمملكة النبطية كقوة اقتصادية والتي سرعان ما فرضت وجودها في بلاد الشام وشمال الجزيرة العربية وتركت لنا قصصا وآثاراً هي الأجمل حتى الآن، وحين أيقن الرومان ضرورة تفكيك هذه المنطقة واعادة تشكيلها من جديد لتميزها الجغرافي وسيطرتها على عقدة المواصلات والتجارة الدولية في حينه زحف بومبي الى الشرق في القرن الأول قبل الميلاد. ولكن الوجود الروماني اثرى القصة الأردنية حيث ترك لنا مدن الديكابولس وفنون العمارة وغيرها وفوق كل هذا اقامت روما نظاما دفاعيا متميزا لحماية الحدود والتجارة لا زال قائما الى اليوم في قصور ابشير والدعجانية وغيرها. ومع ظهور الديانة المسيحية التي ساهمت في اضافة عنصر جديد لهذه القصة من حيث العمارة والفنون والآثار فهناك المغطس ومكاور ومادبا وغيرها والأهم من هذا كله لدينا نماذج كنسية يعتقد أنها من أقدم الكنائس في العالم سواء في العقبة أو رحاب. والفتح الاسلامي للمنطقة اوجد تمايزا حضاريا في المنطقة، وآثار المعارك الفاصلة في الشمال والجنوب والأضرحة التي لا زالت تغيم على الأغوار وغيرها من المناطق، ولكنّ العمارة الاسلامية ظهرت مبكرا حين تمثلت في بناء أقدم مدينة ساحلية خارج الجزيرة العربية في العهد الراشدي وهي أيلة. وحتى حدث التحكيم ما بين الخليفة علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان كان في جنوب الأردن.و فن العمارة الاسلامية وصل أوجه في الفترة الأموية حيث تتنشر القصور والفنون والزخارف الحجرية الجديدة (الارابسك) من شمال الأردن الى جنوبه وتعد افضل النماذج المعمارية الاسلامية. وحتى الصراع على السلطة ما بين الأمويين والعباسيين فهناك الحميمة لها نصيب من هذه القصة. وفي خضم الصراع على القدس ما بين قوات الفرنجة (الصليبية) والاسلامية كان للاردن نصيبه من هذه القصة فهناك قلاع انشأها الفرنجة مثل الكرك والشوبك وفي المقابل أنشأ المسلمون عجلون وغيرها وبعد انتهاء المعارك جاء المماليك ووضعوا نصب أعينهم الموقع الجغرافي للأردن الذي يقع في المنتصف ما بين دمشق والقاهرة، فاهتموا به اشد الاهتمام حتى انهم سموا الكرك باسم الكرك المحروس كمقاربة مع اسم القاهرة المحروسة و مصر المحروس. ولكن الحكاية لم تنته بعد؛ فعندما قامت الدولة العثمانية باعمار درب الحج الشامي والذي يبدأ من جنوب دمشق وينتهي بالمدينة المنورة، حيث أقيمت القلاع ورممت البرك والآبار حيث رحلة الحج تتبدئ من جنوب دمشق مرورا بالفدين /المفرق وتنتهي ما بعد معان في المدورة.....وما بين هذه وتلك.... قصص وروايات محكية منها ما هو موثق والآخر ما زال في الذاكرة...... ولكن البعض يضيف أبعادا أخرى لهذه السردية تتعلق بالدين والهوية العرقية، مثل الروايات التوراتية على سبيل المثال والمتعلقة بخروج بني اسرائيل من مصر عبر الأردن أو ذكر المعارك التي قامت ما بين الاسرائليين والمؤابيين كما ذكرالملك ميشع المؤابي في نقشه الشهير «مسلة ميشع»، وهنا تبدأ الخلافات لانعدام الضوابط والأطر الناظمة لكتابة السردية، والأمر ضاع ما بين آخذٍ للرواية بشدة والآخر يرفضها تماما، والمهم هو مصداقية الاطار التاريخي للسردية. ان فصل السردية التاريخية الأردنية عن محيطها التاريخي يفقدها الغنى والتفوق الحضاري، لذا كان لابد من الاتفاق على الخطوط العريضة لهذه السردية خاصة مع ضرورة ربطها مع القرنين التاسع عشر والعشرين حتى لا يكون هناك فجوات في القصة. اضف الى ذلك ان لكل موقع قصة خرافية كانت أم حقيقية ولكن لا نستطيع تجاهلها، ربما نختلف مع الرواية ولكن من المفيد دائما سردها..... الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 16-08-2020 10:15 مساء
الزوار: 740 التعليقات: 0
|