«جنى العمر» ترجمان لرحلة الشاعر سعيد يعقوب الطويلة مع الشعر
عرار:
محمد سمحان صدر مؤخرا في عمان عن دار الخليج للطباعة والنشر ديوان جديد للشاعر الأردني سعيد يعقوب بعنوان «جنى العمر»، وهو الديوان السادس والعشرون للشاعر سعيد يعقوب، بعد رحلة طويلة مع الشعر امتدت لما يقارب خمسة وثلاثين عاما، منذ إصداره ديوانه الأول العلائيات عام خمسة وثمانين، ورحلة ممتدة في عمق الزمن، رصد خلالها الشاعر انطباعته حول الكون والحياة والإنسان، سجل فيها أبرز ذكرياته، ودوّن فيها خواطره وانفعلاته شعرا، وعبَّر من خلالها عن علاقته المتشعبة بعدد كبير من الشعراء في الأردن، والوطن العربي، ورصد خلالها الكثير من المناسبات، وردات الفعل حول كثير من القضايا والأحداث التي عايشها، والشاعر سعيد يعقوب في هذا الديوان يؤرخ للمرحلة التي عاشها ويتحدث عن الكثير من القضايا والمواقف التي مر بها، وتركت أثرا في نفسه، وترجمها بكل صدق وموضوعية، كما يتجلى ذلك في أشعاره عموما في كل دواوينه، وفي هذا الديوان على وجه الخصوص، وكما هو معروف عن الشاعر يعقوب بأنه مكثر فيه الشعر، ولكن هذا الإكثار لم يكن على حساب الجودة، فهو من الشعراء القلائل في تاريخنا الأدبي، الذين حققوا في الشعر العربي المعادلة الصعبة بين الكثرة والجودة، والديوان الذي يقع في ثلاثمئة واثنتين وسبعين صفحة من القطع الكبير، وقدَّم له أستاذ اللسانيات في جامعة صنعاء، الدكتور الشاعر والناقد اليمني إبراهيم طلحة، الذي أسهب في الحديث عن الشاعر وشعره، وأنصفه بما يليق بشاعر أردني متميز، والديوان مقسَّم إلى قسمين، القسم الأوَّل يتضمن القصائد التي قالها الشاعر في أصدقائه، من الشعراء في الأردن، والوطن العربي، وقد امتدح بها عددا كبيرا من هؤلاء الشعراء، أومن هم بمنزلتهم من أهل الفضل، من أمثال صلاح جرار وسليمان المشيني ومحمود عبده فريحات ومحمد سمحان وهشام الدباغ ونضال برقان، وغيرهم كثير وقد صدَّر الشاعر هذا القسم ببيت من الشعر يلخص فكرة القسم الأول حيث قال: وأعرف أقدار الرجال وإنني لأعلم من أهدي إليه مديحي وهو بهذا البيت يفصح عن أنه مدرك تماما لاختياره الموفق، في إهدائه لقصائده الشعرية، وأن هؤلاء الشعراء هم شعراء كبار، ورجال أفذاذ، يستحقون المديح من وجهة نظر الشاعر، لما يمتلكونه من إرث شعري يعتد به، ولا يستطيع أحد أن ينكر على الشاعر امتداحه لهم، فهم شعراء أعلام لهم مسيرتهم الأدبية الحافلة، ومنجزهم الشعري الذي لا يخفى على أحد، وهو من خلال ذلك يؤكد على وفائه لأصدقائه، الذين ربطتهم به علاقات وثيقة، وارتبط بهم بصلات عميقة، فهو يرد إلى الكثير منهم الجميل، حين امتدحوه وأهدوه كثيرا من قصائدهم التي نقرأها في الديوان، لصلاح جرار وسليمان المشيني ومحمود عبده فريحات وخالد فوزي عبده ومحمد سمحان، إن المطل على قصائد هذا القسم من الديوان يلحظ بوضوح تام مدى وفاء الشاعر لأصدقائه، ومدى محبته لهم وإكباره لقدرهم، فنراه منوّها بإبداعهم، حريصا على إظهاره لمكانتهم، وأهميتهم الأدبية، وإسهاماتهم في الحياة الثقافية، ولا أدل على ذلك من قصيدته التي يهديها إلى صديقه حيدر محمود التي يقول فيها: أَيَا عَلَمًا فِيْ الشِّعْرِ عَزَّ نَظِيرُهُ لَأَنْتَ عَلَى عَرْشِ القَصِيدِ أَمِيرُهُ إِذَا حَضَرَتْ أَبْيَاتُهُ أَزْهَرَ المَدَى فَكَيْفَ إِذَا غَشَّى الحُضُورَ حُضُورُهُ أَيَا عَبْقَرِيَّ الشِّعْرِ فِيْ زَمَنٍ بِهِ غَدَا الشِّعْرُ مَفْقُودَاً وَأَظْلَمَ نُورُهُ فَأَحْيَيَتْ مَا قَدْ جَفَّ مِنْ زَهْرِ رُوحِهِ وَكَانَ عَلَى نَجْوَى يَدَيْكَ نُشُورُهُ تَغَنَّيْتَ بِالأُرْدُنِّ أَهْلَاً وَمَوْطِنَاً فَتَاهَت بَوَادِيهِ وَعَزَّتْ قُصُورُهُ وأمّا القسم الثاني من ديوان جنى العمر، الذي يضم القصائد التي أهديت للشاعر من شعراء كبار من مختلف أقطار الوطن العربي، من مسقط شرقا إلى طنجة غربا فيصدِّره الشاعر بمنتهى الذكاء والألمعية ببيت من الشعر يختصر ما جاء فيه فيقول : ولو قارونُ أبصَرَ بعْضَ كَنْزي لأدْرَكَهُ مِنَ الخَجَلِ الحَيَاءُ وفي هذا القسم نجد قصائد أهديت للشاعر، تنوِّه بمنزلته الأدبية العالية، ومكانته الشعرية الرفيعة، لشعراء من مختلف أقطار العروبة من مثل الشاعر العماني سليمان العبري وانتهاء بالشاعر المغربي الصادق رمبوق وبينهما نجد شعراء الأردن وفلسطين وسوريا والعراق ومصر وغيرها من أمثال صلاح جرار ومحمد سمحان وعطاء الله أبو زياد وسليمان المشيني ومحمود عبده فريحات وخالد فوزي عبده وعبد الرحمن المبيضين وعدنان السعودي وعزمي الصالحي ومحمد نصيف ومحمد فايد عثمان وفوزية شاهين ووسام الشاقي وشفيق العطاونة وأحمد آل احمد وغيرهم كثيرون، ولعل من اللافت أن نجد أربعا وعشرين قصدة للشاعر خالد فوزي عبده، قد قالها في سعيد يعقوب وهناك قصائد لشعراء عرب بارزين، تمتدح الشاعر سعيد يعقوب، وتؤكد حضوره اللافت في شعرنا الأردني المعاصر، وتشيد بجهوده في الحفاظ على اللغة العربية، والدفاع عن الشعر العربي الأصيل وتنوِّه بمكانته الأدبية الرفيعة، التي يحتلها في نفوس الشعراء العرب، مثل الشاعر العراقي عزمي الصالحي ومحمد نصيف ومحمد البياسي وحيان هبرة وغيرهم يقولون الشعر في سعيد يعقوب، وما كان لهذا الإجماع العربي، من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه، أن يكون لولا أن وجد هؤلاء الشعراء في شعر يعقوب ما يستحق المديح والثناء والتنويه، والحقيقة أن سعيد يستحق ذلك وأكثر من ذلك لأنه رفد الساحة الثقافية والشعرية بستة وعشرين ديوانا من الشعر وكان شعره موضع حفاوة من كبار النقاد الأكاديميين الذين كتبوا عن شعره أبحاثا محكمة في مجلات جامعية عالمية، وحصوله على جوائز شعرية عربية ومحلية، كجائزة سعيد فياض اللبنانية، وإصداره لأول ديوان شعري عمودي في محافظة مادبا، وهو طالب على مقاعد الدرس، لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وكتابته للشعر العمودي المسرحي، الذي يقل من يستطيع كتابته اليوم، من الشعراء في الوطن العربي كله، وليس في الأردن فقط، إضافة إلى أنه أول شاعر يصدر ديوان البيت المفرد في الوطن العربي، الأمر الذي حدا بالأستاذ الدكتور غسان عبد الخالق، أن يقول في مقدمة الديوان، سعيد يعقوب هو رائد ديوان البيت المفرد، وما وضع من مؤلفات عن سعيد يعقوب ككتاب قسمات عربية في الميزان للدكتور مصطفى خضر الخطيب، وكتاب فوزي الخطبا سعيد يعقوب شاعرا وإنسانا، وكتاب البناء الفني في شعر سعيد يعقوب للباحثة آية البنا، وهذا وغيره، دون أن نخوض في قدرة يعقوب الشعرية والطبقة العالية من الكلام التي يستخدمها والتجديد والابتكار والصورة الشعرية ومجازاته وانزياحاته وإضافاته الكثيرة في تطوير القصيدة العمودية المعاصرة، يؤكد أهمية يعقوب الشعرية، زد على ذلك ما كان له من حضور واسع في المشهد الشعري العربي، وأن شعره كان مترجما لآمال وآلام العرب، في سعيهم الدؤوب لحياة أفضل، ومستقبل أجمل، كرَّس له يعقوب كل شعره، وأوقف عليه كل حياته، ولا أريد أن أنهي هذا المقال دون ذكر أبيات للشاعر والناقد العراقي عزمي الصالحي، وهو يشيد بسعيد يعقوب، حيث يقول في احتفال اتحاد الكتاب الأردنيين بسعيد يعقوب في حفل حافل وحشد حاشد: أَقْسَمْتُ بِالشِّعْرِ تُغْرِينِيْ مَعَانِيهِ وَنَغْمَةِ السِّحْرِ تَسْرِيْ فِيْ قَوَافِيهِ إِنَّ الذِيْ نَحْتَفِيْ وَالبِشْرُ يَغْمُرُنَا بِشِعْرِهِ، وَنُغَنِّيْ مِنْ أَغَانِيهِ لَشَاعِرٌ تُبْهِرُ الفُصْحَى فَصَاحَتُهُ وَمَحْفَلُ الشِّعْرِ يَزْهُو إِنْ شَدَا فِيهِ يَرْتَادُ مِنْ عَبْقَرٍ أَحْلَى خَمَائِلِهِ كَالجِنِّ يَخْتَالُ فِيْ دِلٍّ وَفِيْ تِيهِ يُغْرِيْ عَذَارَاهُ يُلْقِيْ مِنْ حَبَائِلِهِ يَصْطَادُهُنَّ بِتَدْبِيرٍ وَتَمْوِيهِ أَهْدَتْ لَهُ رَبَّةُ الأَشْعَارِ مِعْزَفَهَا وَدَاعَبَتْهُ وَصَارَتْ مِنْ جَوَارِيهِ وَسَامَرَتْهُ وَغَنّتْ فِيْ عَرِيشَتِهِ وَأَوْدَعَتْ لَحْنَهَا المَسْحُورَ فِيْ فِيهِ تَسْقِيهِ مِنْ فَنِّهَا سِحْرَاً فَتُسْكِرُهُ تُعِلُّهُ ثُمَّ يَصْحُو ثُمَّ تَسْقِيهِ يَا شِعْرُ قُلْ مِنْ رُقَى يَعْقُوبَ قَافِيَةً كَنَغْمَةِ البُلْبُلِ الشَّادِيْ بِوَادِيهِ طُفْ نَغْتَرِفْ نَشْوَةً مِنْ صَفْوِ كَوْثَرِهِ سُلَافَةً عُتِّقَتْ فِيْ دِنِّ سَاقِيهِ هَيِّئْ لَنَا زَوْرَةَ نَسْمَعْ عَلَى طَرَبٍ نَشْوَى قَصَائِدِهِ تَشْدُو بِنَادِيهِ وبعد، فهذا تطواف في ديوان جنى العمر للشاعر سعيد يعقوب، حاول أن يبرز بعض الجوانب المهمة، التي انطوى عليها الديوان، بشكل سريع لم يقصد إلى البحث والاستقصاء والتعمق، بمقدار ما قصد إلى العرض والتعريف بديوان يختصر مرحلة مهمة من حياتنا الأدبية والثقافية ويختزل حياة شاعر قدير زاخرة بالشعر وقد كان الشاعر موفقا كل التوفيق في اسم الديوان، فهو جنى عمر كامل، وحصاد الأيام والسنين لحياة حافلة، وكان هدفنا في هذه العجالة عرضه في إطاره العام تاركين الخوض في عبابه وسبر أغواره والإلمام بأسراره وخفاياه لدراسة مفصلة قريبا إن أذن الله لنا بذلك.