يشكل عنوان العمل الأدبي فضاء لغويًّا ينبغي أن يتسع للإشراقات الدلالية التي تضيء حنايا النصوص كلها، فالعنوان وفق المنظور النقدي هو العتبة التي يستشرف منها القارئ آفاق النص، وهو النافذة التي تتيح للقارئ أن يرى المدى الدلالي الذي يتشكل وفق تأملات القارئ وثقافته. ويأتي عنوان «جنين مريمنا البتول»؛ ليجيب عن تساؤلات عتبة العنوان التي تعد في النقد السيميائي باكورة الإبداع الكتابي. المبتدأ المكاني في الجملة الاسمية يؤنسن بالإخبار عنه بمريمنا المقدسة، وليس (مريم)، ف(نا) تستدعي تفاعل الوعي الجمعي، وإضافة صفة القدسية والطهر لهذا التآلف (البتول)، فالقارئ المتأمل يجد أن لفظ (الطاهرة) معادلًا موضوعيًّا لكلمة «البتول» وفق المفاصل الدلالية للنصوص. ولكن المبدع يختار العنوان وفق رؤية شمولية، وإحساس مكثف في وقت تتداعى فيه عصارة الفكرة وعبق العاطفة، فيولد العنوان من هذا المزيج؛ ليشكل لوحة متمايزة تتعدد فيها تأويلات القراء، وفي التعدد والاختلاف جماليات التأويل، ومن المفيد التأكيد إن لفظة «مريمنا» في العنوان الرئيس تتجاوز دلالة (سيدتنا مريم) المألوفة إلى دلالات رحبة تشمل الوفاء والإيمان والإخلاص للخطاب الثقافي، الذي يشكل تحديًا للكاتب. وتغادر لفظة «مريمنا في العنوان المستوى المعجمي إلى مستوى تأويلي، يمتد إلى العصب النابض في جسد النصوص، وتختزل طهرها في رؤية ثقافية تتجلى في البنية العميقة لها. واستئناسًا بدلالة العنوان فإن عصري فياض يبتكر أسلوبًا لافتًا في صياغة العنوان الرئيس، بعيدًا عن مضامين العناوين المجردة المألوفة، وكأنه ينقل الأفق الدلالي المتوقع من العنوان إلى مضامين النصوص، وفي هذا التحول الأسلوبي يكمن التجديد والابتكار والتفرد. أما العتبة الثانية فهي الإهداء الذي اختزل الخلايا الدلالية للنصوص بوساطة ست علامات سيميائية موزعة على «روح، الشهيد، زياد، جنين، المخيم، ثرى». وتجسد العلامات الستة العصب الدلالي والتوهج الوجداني في الكتاب كله، فالنصوص لا تغادر دلالات العلامات الستة. وأما العتبة الثالثة فهي العناوين الفرعية للنصوص التي جاءت في مسارات متعددة، منها ما هو قريب للقصة، ومنها ما هو خاطرة، ومنها ما هو قريب للشعر، وهي من حيث الدلالة جاءت في مسارين، منها ما هو مباشر تتجلى فيه العلاقة بين العنوان الفرعي ودلالة النص، ومسار إيحائي رمزي يقتضي تأملًا في العلاقة بين المعلن والمضمر، ويتعالق كلا المسارين مع الفضاء الدلالي للعنوان الرئيس، والآفاق الدلالية المبثوثة في خلايا النصوص. ويغلب على عناوين النصوص التشكيل الاستعاري الظاهر في نسق العنوان، والذي يتوزع على التشخيص/الأنسنة/التجسيد/التجسيم، وفي غير موضع تتضاعف يقظة القارئ للمعنى حينما يتأمل الصورة الاستعارية التي تنقل المعنى من المألوف إلى الدهشة (طعم الصباح ص5، جنين مريمنا ص7، يا حيفا ماذا فعلت؟ ص12، لا تئدوا الزلزال ص23، هلّ الخريف ص71، طهر أحذيتكم ص91، رفيقي الرخ ص136، المخيم يحبس أنفاسه ص145، شمسنا محمد ص150)، ولا يخفى أن القدرة على التصوير تكشف عن قدرة المبدع في التحليق بخياله؛ لتشكيل دلالة غير مألوفة في الغالب، ورغبته في إعادة صياغة مفردات الحياة وفق رغباته غير المعلنة، ورؤيته التي تضمرها البنية الاستعارية، كما يحدد التصوير مدى تفاعل المتلقي مع مكونات الصورة، وإذا استطاع القارئ تفكيك مكنونات الصور الاستعارية يستطيع أن يرى جماليات المضمر، أو قبحه، وأسراره الذي حرص الكاتب على إخفائه من خلال ذلك البناء الاستعاري. هناك عناوين فرعية أخرى ترتبط بالصور الاستعارية من خلال متنها (يزوره الضحى في فراشه ص10، يزرعون الحياة ويقتلعون الموت ص115، طوّق جيد نابلس سبحة حباتها من قرنفل وشقائق وإكليل الغار ص13، من يستطيع أن يقود القمر إلى كبد السماء؟ ص36، يقتلع الثلج الخيام ص42، كل طقوس الفرح مبتورة ص44، عناق الحلم ص56، من أغرق العيون ببحر الاحزان؟ ص60، المخيمات لسان الحق الصارخ في وجه البشرية ص16، أحاول كسر ليلي الثقيل ص26، القبلات مفاتيح النفاق والسلامات الحارة سموم الأفاعي ص29، ولدت ثورتنا من رح النكبة ص116). نلحظ أن الصور السابقة مؤسسة على الأفعال الحركية المتلاحقة والمتتابعة التي ترسم أطيافا نفسية ذات إيقاع صاعد أيحانا ثم ينحدر أحيانا أخرى، تكشف تلك الصور عن الأفق النفسي للنص، وتوجه المتلقي نحو المعنى المضمر الذي يحرص الكاتب على تجسيده وتكثيفه، نحو نص (يزرعون الحياة ويقتلعون الموت) الذي تتسارع فيه الدفقات الدلالية والإيقاع الصاخب بوساطة أفعال حركية ذات كثافة دلالية ونفسية، فالحياة والموت التي حصرها في العنوان وفي كافة متون النصوص تحصر الممارسات التي تحاول سلب الحياة من فلسطين، وما يحدث في جنين ونابلس وغيرها من المدن، التي تناولها الكاتب، لشاهد على ذلك، ولذلك سعى الكاتب إلى مخالفة هذه الأفعال الإحلالية بزرع الحياة واقتلاع الموت. كما تصل بعض الصور الحركية إلى (التحريض) على التغيير الذي يعد رسالة سامية يتكفل بها الأدب عامة «تولد الثورة من رحم النكبة» التي ترسم فيها الأفعال المتتابعة فضاء دلاليًّا تحريضيًّا مقترنا بإيقاع وجداني صاخب يتجلى في فعل الولادة، المعادل الموضوعي لزراعة الحياة، واقتلاع الموت، ومن هنا تنهض هذه الأفعال بوظيفتها الدلالية الوجدانية. يبدو واضحًا، إن المشارب الثقافية التي أفاد منها الكاتب في نصوصه، هي مشارب ثقافية تمنح الفضاء الدلالي للنصوص خاصية التناسل والتكاثر الدلالي التي اصطلح النقاد على تسميتها بـ»التناص»، الذي تشكل بفعل التلاقح الفكري والثقافي للأديب، فالتناص دلالة واضحة على مساحة اتساع الأفق لديه، وحجم ثقافته. يتناص فياض أدبيًّا في قوله: «جنين، يا مريمنا البتول، قد جاوزت قدري بتوصيفك يا طهر الزمان والمكان ص9»، مع الشاعر أحمد شوقي، في مدحه رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- في قصيدة «سلوا قلبي»: أبا الزهراء قد جاوزت قدري ... بمدحك بيد أن لي انتسابا. ونجده يتناص في عنوان النص «تلك المرأة الحمراء» ص128، من عنوان قصة قصيرة «تلك المرأة الوردة» للروائي يحيى يخلف. كما قد يستعير الأديب بعض أدوات مادية أو غيرية، وينسبها إلى أبطاله، تقديرًا لهم، واعتزازًا بهم، يقول: «نحن سيف علي، وصفحات في كتاب الله الجليّ، وروايات في سنة المصطفى، وهديه القويّ، نحن عصا موسى، وسفينة نوح، وصبر إسماعيل، ولسان عيسى، وطهر مريم، وبشرى زكريا، نحن قدر الله». وقد ظهر التناص الديني؛ ليعمّق الدلالات التي تضمنتها رسالة الكاتب، فتعلق العنوان الرئيس (الذي تكرر في عنوان فرعي «جنين مريمنا البتول») بمعنى بالطهر والقدسية والنقاء، وظهر كذلك في اقتباسات من ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام، وحالة أمه مريم النفسية عند الولادة: «تلكم المدينة التي انتبذت لنفسها مكانًا شرقيًا»، « كذلك قال ربك هو علي هيّن هزّي إليك بجذع المجد، يتساقط عليك أنوارًا بهيّة» ص8، وفي قوله: «قالت بانبهار: أو حاصل هذا سيدي؟ قلت: أو لم تؤمني بما سمعت؟ قالت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي» ص62. وأما الغلاف يعدّ العتبة الأهم التي تقابل بصر المتلقي، ويمكن من خلاله أن نفهم متن العمل قبل الولوج فيه، ومن شروط الغلاف القوي الفعال أن يكون قادرًا على جذب انتباه القارئ وإثارة اهتمامه، فهو يساعد القارئ على المضي في قراءة العمل، هو بمثابة بوابة عبور للجمهور، وهذا ما كان عليه غلاف «جنين مريمنا البتول»، حيث عرض صورة لبوابة مدخل مخيم جنين، تعبره سيدة وجهها ضبابي، لكن جسدها مغطى بلباس نساء الدين المسيحي، في إشارة إلى سيدتنا مريم، وعبور كل من هو طاهر، مخلص لقضية وطنه التي تمثلها أكبر شريحة هجّرت من أرضها وبيوتها وسكنت المخيم، فضلًا عن اللون الأحمر الذي سيطر على الغلاف، إشارة إلى حجم التضحيات التي قدمها المخيم من دماء وأرواح شهدائه. والملاحظ حجم العنوان الذي يكتسح ثلث لوحة الغلاف وبخط أبيض عريض، في حين ينزوي اسم المؤلف في الزاوية السفلية يسار الغلاف، وفي ذلك إشارة إلى تصغير الأشخاص إذا ما قورنوا بحجم الوطن، القضية الكبرى التي يفتديها كل إنسان فلسطيني بروحه ودمه، رخيصًا في سبيل نيل حريته. في الخاتمة أجد الكاتب عصري فياض قد وُفّق في هذا العمل الذي يعدّ شاهدًا إبداعيًّا وموضوعيًّا، يوازي قضية كبرى بحجم وطن، كان وما زال يواجه صلف الاحتلال الإحلالي. الكتاب صادر عن دار الجنان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1 سنة 2023م.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 19-04-2024 09:45 مساء
الزوار: 150 التعليقات: 0