|
عرار:
عندما نتحدث عن الرؤيا في ديوان «عليه العشب» لمحمد العامري نقصد بها تلك التصورات والتهويمات والشطحات الخيالية والوجدانية كالتي تظهر في أحلامنا تمييزًا لها عن الرؤية التي تعني ما تبصره العين، أو وجهة النظر في موضوع ما. وقد انبثق القول بالمصطلح ونحن نعاين التشكيل الفني لديوان العامري» عليه العشب» الذي فاجأنا بما انطوى عليه من غموض وتعقيد. من الملاحظ أن الذات الشاعرة تنظر إلى العالم نظرة ذاتية، وإن استخدمت في أحيان قليلة ضمير الغائب، وهي في انفصال تام عن الآخرين وعن المكان والزمان والواقع المعايش. ويبدو انفصالها عن الآخر(الحبيبة) في القصيدة التي يبتدئ بها الديوان، وتحمل رقم(1): «أراك على بُعد نهدين ارتطما صدفة في يدي. تمرين كاملة في سراجي، وظلك مد ذراعيه نحوي، كأنك للتو خارجة من مياهي، فأنت أول سطر وآخر ما عرفتْه سمائي»(ص9) ففي هذه الأسطر لا يتغنى الشاعر بالاقتراب من الحبيبة بل بالانفصال عنها؛ فقد انتهت علاقته الشبقية بها، ولن يعود إليها. وهو يتباهى بهذه النهاية من خلال استخدام ياء المتكلم في نهايات الأسطر(يدي، سراجي، نحوي، مياهي، سمائي) وترداد الكلمات الدالة على التلاشي والغياب( بعد، تمرين، خارجة ..) فلم يكن في هذه العلاقة غير الملل والسأم والشبق في محاولة لنسيان وجوده العبثي. وفي مقطوعة أخرى تتجلى علاقته بالأنثى خالية من العواطف الإنسانية؛ فليس هذا الذوبان الجسدي بينهما غير تعبير عن رغبة شبقية تطغى عليها مشاعر جامدة، وكأن الاثنين في السرير تمثالان من الرخام: أنت رمّانة فرطتْ قلبها في السرير ونامت زخارفها في سفوح القميص فتحنا بروق الرُّخام وصرنا تماثيل لينة وهديل (ص174) نلاحظ في مقطوعة أخرى أن الانفصال عن الحبيبة يرافقه الهروب من تذكر المكان الذي التقيا فيه؛ فتبرز صورته في الذاكرة خاويًا، رغم أنه شهد ذلك اللقاء الساخن بينهما. «يتعقبني وجهها في كتاب النهار أحاول أن أقتفي صورة للشفاه بأحمرها لكأن المكان بلا شفة للكلام كأن الذي بيننا ارتطام شهابين في لحظة ساخنة» (ص79) إن الشاعر لا يطيق الحب، ولا يطيب له مكان، إنه دائم التقلب والتشظي، لا يرى غير وجه الرحيل والغياب. وإذا كان ابن عربي لا يعول على المكان الذي لا يؤنث فإن المكان هنا، إذا غابت الأنثى عنه، فإن الحشرات تؤنثه. وفي هذه النظرة تتبدى وحدة المخلوقات وتساويها في الحياة والموت: « أرى نجمة سقطت في الحوالم بعد رحيلك، صرت فراغًا تؤثثه الحشرات، وصرت سماء رمادية تشبه الخبز والذكريات « (ص120) ونشاهد وجهًا آخر من الانفصال المكاني يستند إلى ضمير الجماعة الغائب: كثيرون كانوا هنا ينحتون مناديلهم للبكاء هنا تركوا ظلهم في ثقوب الجدار مشوا باتجاه ضلالاتهم تركوا سجفًا، وحقائب محشوة بالأنين(ص65) هنا يتحقق الانفصال المكاني باستخدام الصور الغريبة (نحت المناديل، وترك الظل في ثقوب الجدار، الحقائب المحشوة بالأنين) واستخدام ضمير جماعة الغائبين ما هو إلا ضمير المتكلم الذي يعبر عن أحاسيس الذات الشاعرة وهمومها. ويبدو المشهد طافحًا بالحيوية من خلال حركة الإنسان، وكأننا أمام رسام يُظهر المكان ضمن توليفة من الصور المتحركة ليقدم الإنسان، وهو يعاني الألم بسبب انفصاله عن المكان. أما الانفصال عن الزمن فيتحقق لدى الذات الشاعرة من خلال الإحساس بوطأته وتأثيراته القاسية، لهذا فهو يريد للزمن أن يموت: أريد ثواني تموت بلا عودة أشتري ما أريد من الوقت أضربه بيدي وأحبسه في شعاب الجبال لكي لا يقوم(ص185) كما يرى العمر رغم أن أوله مثل آخره» رعشة للولادة/ سيف للرحيل» (ص97) يمر دون أن يتنبه إليه، وينتهي بلقاء الموت: يمر بنا العمر مثل هواء خفيف دونما سبب ينتهي الوقت ونمشي إلى حتفنا ضاحكين (ص133) إنه لا يرى في الحياة غير اليأس والملل فكل الأشياء هباء وخداع: كل شيء موارر: الدّرب والعمر والأمنيات ولا شيء غير غبار يلاحقنا لا هواء ولا صدفة تقطع الوقت إلا سياجٌ يدجن رتم الغناء(ص175) في مشهد آخر يحس الشاعر بالخواء وهو يرى العالم وقد غرق في الحروب وسفك الدماء، وكثر فيه اليتامى والأرامل، وغدت الأيام ملطخة بالأسى والحزن، وفيها العويل والخوف اللذين تبعثهما رؤية التوابيت: من سريري أطل على عالم وجل، حيث ارتكاب الدماء كأني أطل على حفرة فاض فيها العويل ذبائح مشنوقة ببكاء الأرامل(ص89) ويتفاقم هذا الإحساس بالخواء حين يرى الآخرين ينبذونه، مع أنه حمل بلده على ظهر قلبه، كما يقتضي الحب. أنا ذلك الخُلّبي يداي فراغ وقلبي تفاحة للغياب. دونما قمر سأسوي رغيفًا من الليل، أسحنه برحى الأهل حملت بلادًا على ظهر قلبي لتقتلني، وتهيل علي التراب.(ص15) هكذا جاء ديوان «علية العشب» للشاعر محمد العامري يخترق ما هو مألوف في الشعر المعاصر مسايرًا التغير في نمط الحياة، وتطور المجتمع، وتقلب البيئة؛ نتيجة التقدم الهائل الذي شهده العصر في التكنولوجيا الرقمية ووسائل الاتصال، وتمثل هذا الاختراق في تشكيل الديوان ورؤياه، ولاحظنا أن مقطوعاته، وإن كانت في أرقام متسلسلة، ما هي إلا قصيدة واحدة تعتمد على مشاهد انطباعية من الواقع، استخدمت فيها أساليب الاستفهام والمضاف والمضاف إليه والمفارقات للتعبير عن فقدان اليقين والتشتت، كما تداخلت فيها الأزمنة والأمكنة، وامتزجت الصور المرئية وغير المرئية، والألفاظ المتداولة والألفاظ المتعالية، واجتمعت فيها السخرية المرة والفكاهة، واعتمدت في بنائها على السرد الذي فيه تكاثرت الأفعال، ونضجت الخواطر، وتعددت الضمائر والأصوات تحت ضمير واحد وصوت واحد هو صوت الذات الشاعرة وضميرها، وبدت مقتربة من الواقع حينًا ومبتعدة عنه حينًا آخر. كما تبين لنا أن ديوان «عليه العشب» يفيض بالتناقض والفوضى، ويفتقد إلى المعنى، ولا يعبر عما يرمز إليه العشب من بهجة وازدهار، ولم يحمل رسائل حب، ولا أناشيد صوفية تغرق في الأمل؛ فلم يتقصد العامري أن يقدم معاني وأفكارًا متماسكة أو عميقة، ولم يكن يتغيا غير الاندهاش وإظهار الإنسان الذي لا يطمح إلى شيء، وتصوير حياته الخالية من الأمل، والقائمة على اليأس والملل. إن ديوان «عليه العشب» يضع صاحبه على عتبة مرحلة ما بعد الحداثة، المرحلة التي غادر فيها الإنسان الحياة الصلبة إلى الحياة السائلة التي يموت فيها كل شيء. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-06-2021 10:33 مساء
الزوار: 648 التعليقات: 0
|