|
عرار:
نايف النوايسة الحديث عن التراث بعمومه يستوجب من الباحثين التقاط عناصره المؤثرة من مظانه لتقييدها ثم تحليلها مضامينها وتأثيراتها في مسارها الاجتماعي وما توحيه لمن له في الثقافة نصيب. ويدخل الأمر كله في باب ثقافة المجتمع، وحتى لا نثير فزع المتشددين في موضوعة( العصرنة) والتقزز من التاريخ ونبش ما في الماضي من حيوات، ونحن إذ نجد في هذه اللافتات التراثية من فائدة وايحاءات للباحثين والمبدعين على حد سواء في في النص الأدبي والعمل الدرامي والتاريخ الاجتماعي والجوانب اللهجية في حديث الناس وعلاقتها باللغة، بمعنى أن قراءة لافتة تراثية قديمة لا يضيع الجهد فيها سدى. منذ زمن والحديث بين الباحثين في التراث والمؤرخين يذهب إلى ضرورة رصد عناصر وأحداث التاريخ الاجتماعي في الأردن الذي سجل منه شذرات متناثرات في هذا الكتاب أو ذاك بدون اتباع خطة بحث مدروسة، وقد تبين لنا من خلال عملنا في مكنز التراث الأردني الذي تم اشهاره قبل شهور بأن هناك الكثير من عناصر تراثنا تحتاج إلى بحث، والمعلوم أن التاريخ السياسي وجد من يهتم به من هؤلاء الذين يستهويهم هذا اللون من التأريخ، وقلما تجد منهم من غاص في أعماق الحياة الاجتماعية وكتب عن البسطاء وفق مفهوم: كتابة التاريخ من الأسفل(The history from the dawn) أو تاريخ الجذور، مثلا: كتبنا عن رموز شهيرة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن( جليبيب) رضي الله عنه لم يفتقده إلا الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى ساحات المعارك وكان مُضرّجاً بدمائه، ثم كُتب عن الشعراء الكبار كامرئ القيس وزهير والنابغة وعنترة ولم يُلتفت للشعراء الصعاليك إلاّ بعد زمن، وما أذكره هنا هو تأسيس بالغ الأهمية للالتفات إلى آخرين قدموا فعلاً متميزاً في أي مجتمع في جانب من الممارسات الثقافية المادية وغير المادية. من هنا أنظر إلى الأثر الذي تركه لنا خليل الترك في المزار/ الذي عاش فيها حياته إلى أن توفاه الله عام 1965، نظرة فاحصة مستيقنة، ولفتت حكاية هذا الرجل نظري، ووجدت فيها الأنموذج الأمثل في كتابة التأريخ الاجتماعي عموماً. خليل الترك حياته على رصيف الغربة فوجد من شظف العيش ما وجد، وعلى الرغم مما لاقى كان وأفراد أسرته على قرب من الناس في حياته اليومية ومهنتهه التي تميز بها وهي( الحدادة) التقليدية، وتعارف عليه الناس بلقبه المحبب( البيطار). وُلد الحاج خليل مصطفى الترك عام 1896 في مدينة براجيك التابعة لمحافظة أورفا التركية وينتمي لعائلة كوجلتكن( güçlütekin) التي هي أحد أفرع العائلات الشهيرة التركية وهي عائلة أوغلو، وقدم للأردن عام 1916 وهو ابن العشرين عاماً عندما كان مع الجيش التركي، وكان ذلك أبان الحرب العالمية الأولى، وفضّل عدم العودة لتركيا والبقاء في الأردن وأعتبر المزار الجنوبي موطنه، وعمل بالجيش العربي الأردني، فكان أحد مرافقي الملك المؤسس عبدالله بن الحسين. وبعد الجيش مارس مهنته المفضلة( الحدادة والبيطرة)، وتميز بها بفضل بنيته الجسدية القوية التي ساعدته في عمله الشاق بيسر ونجاح. ما زالت صورة هذا الرجل شاخصة أمامي حتى الآن رغم مرور أكثر من نصف قرن على وفاته، لأن( الكار/المهنة) التي استوعبت حياته اليومية لا يقدر على اقتحامها سواه إلاّ إذا سمح هو لأحدٍ بالاقتراب منه وتعليمه؛ فهو حداد يجيد أسرار هذه المهنة بدقة بالغة. امتهن الترك مهنتين كان لهما قيمة كبيرة في حياة الناس وهما مرتبطتان بوجود الفلاحة ومواسم الزراعة وأدواتهما كالسكة والمنساس والفأس والمجرفة وأدوات الدراس، وبوجود الخيول والبغال والحمير والبقر كان بيطاراً ذا قدرات عالية. في الحدادة يحتاج إلى ادوات كالكور وبيت النار/الفرن والفحم والسندان والمطرقة والمهدة والملاقط.. ولمّا كان بيتنا مجاوراً لمحددة المرحوم الترك، كنت من الصبية الذين يستهويهم عمله الذي يحتاج لبنية قوية مع نباهة عالية، وفي كثير من الأحيان كان يناديني لأساعده في إحماء النار من الكور أي تحريك الكور ليأتي بالهواء وتوجيهه بقوة للنار لإدامة الاشتعال ثم يدس في الجمر المتوهج ما لديه من أدوات تحتاج إلى سن أو تطريق أو تطعيج أو ثقب وتشبيك، وكنت أحياناً أساعده بالطرق على السندان بالمهدة، في الحين ذاته كان يضع إبريق الشاي بجوار الجمر ليتناول كأس شاي مع الموجودين بعد الانتهاء من كل قطعة قام باشتغالها.. أما البيطرة أو خذو الخيل والبغال والحمير فهي مهنة خطرة وتحتاج إلى شجاعة وقوة ودراية لأن التعامل مع حيوان( غليظ) هو أمر صعب، فكان مثلاً يمسح على رأس الحصان أو الفرس، ويلاطفهما كي يرفع القدم التي سيحذيها بعد ربطها بأربطة خاصة، أما البغل والحمار فلا يلقى من البيطار خليل إلاّ الخشونة.. وأدوات حذو الخيل هي الحذوة وتكون على شكل(U) وفيها عدة ثقوب لإدخال المسامير ودقّها في طرف الحافر بالمطرقة، ومن الأدوات أيضاً السكاكين الخاصة والمقصلة والمبرد والشاكوش والملقط. وتبدو مهارة البيطار هنا بتهدئة الدابة المنوي حذوها وتتلوها خطوات الحذو بدون ارتباك وعدم الاقتراب من لحم القدم حتى لا تتأذى الدابة.. وحين يفرغ من عمله يفك آخر قدم من الرباط ثم يضربها على قفاها ضربة على نجاح المهمة.. وفي نهاية النهار كنا نساعد البيطار مع أولاده في تكنيس المحددة وإلقاء القمامة في مكان بعيد، وبعد حين نعود إليها وننبشها على أمل أن نجد مسماراً أو حذوة، ومن غريب الصدف أنني وجدت ذات مرة في سنة 1960عدداً من أعداد مجلة العربي ويحمل الرقم 25، وشكل هذا العدد النواة الأولى لمكتبتي. هاتان المهنتان بأسلوبهما القديم هما الآن خارج الممارسة، وغاب باختفائهما الكثير من فنون الأداء والمأثورات الشعبية المتداولة، ومع التطورات الحديثة التي حصلت لمجتمعاتنا غدا من الضروري رصد كل معلومة عن مهنة الحدادة والبيطرة القديمة حتى لا يغيب من قائمة تراثنا جانباً حياتياً كان له حضوره وأهميته.. وأسجل للمرحوم خليل الترك قيداً محترماً في سجل أصحاب المهنة والكار إذ أنه كان ذات زمن سيداً في عمله، وكم تمنيت لو أن أولاده توارثوا من بعده مهنة والدهم ولو بصورة رمزية. هذه إضاءات سريعة حول إحدى المهن التقليدية التقطتها من المظان لتقييدها في تاريخنا الاجتماعي الذي يستوجب منا أن نسجله كي لا يضيع. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 05-10-2021 09:07 مساء
الزوار: 1644 التعليقات: 0
|