الشعر المنثور في ديوان «رائحة الطين» لمحمد بني ياسين
عرار:
الشاعر والناقد عبد الرحيم جداية ما قيمة الجنس الأدبي؟ تتراوح الآداب بين الشعر والنثر، مما يشكل تجنيس الفضاء الأكبر لعالم الشعر أو عالم النثر، وللنثر تصنيفات وتجنيسان واضحة مثل الرواية والقصة والمقالة، وغيرها من فنون النثر، وكما يتضح تجنيس النثر فإن للشعر صنوف متعارف عليها، مثل الشعر العمودي الكلاسيكي، وشعر التفعيلة، لكن كلا الفنين من النثر والشعر يقعان في مساحة مشتركة، مثل قصيدة النثر التي لم يقبل بها كثير من النقاد، واقترحوا أسماء لها بديلة في التجنيس مثل الشعر المنثور أو النثر المشعور، وقد ولدت أجناس ليست صافية، مثل القصيدة البصرية أو النص. ورغم وضوح التجنيس في الشعر والنثر، إلا أن هناك فنونا غير مجنسة لحد الآن رغم تداولها، وكثير ما يكتب الكتّاب أشكالا غير مجنسة، أو يجمع بين فضائي الشعر والنثر، فكتبت الرواية ذات اللغة الشعرية، وكتبت المسرحيات الشعرية التي خرجت عن النثر، لكن هذا لم يصنع إشكالا كبيرا في عملية التجنيس، فالرواية تحتمل الشعر، والمسرحية تحتمل الشعر، فبقيت على حالها، لكن بعض الفنون الأدبية التي دخلت حديثا في الثقافة العربية الهايكو وهنا يعنى به النص النثري، أو قصيدة الهايكو، حيث يعنى بالنص الشعري، وهناك من يرفض الهايكو شعرا ونثرا لأنه ولد من أصول يابانية واعتبره بعض النقاد دخيلا على اللغة العرية والثقافة العربية. وما دفعني إلى هذه المقدمة، مصنف الأديب محمد بني ياسين الذي أخذ عنوان «رائحة الطين» فأشكل علينا بالعنوان كما أشكل في التجنيس، لهذا أسميته مصنف حتى نتحقق من طبيعة نصوصه ومدى ميلها للنثر أو للشعر: فعنوان المصنف رائحة الطين يحوي نصوصا تقترب كثيرا من قصيدة النثر، من حيث شكل القالب وسطور النص، فنجد في النص رائحة الشعر من حيث الشكل، كما نجد بعض الأسطر المقفاة والتي تعزز نظرية الشعر على حساب النثر، ومنها قوله في قصيدة رحلة المساء: «من قال لك أن تطرقي الباب كنت نائما لماذا سرقت النعاس من عيني وقلت تعالَ نكُ أحباب» فهذه القوافي في نص رحلة المساء (الباب، أحباب، خراب) هي ملمح للقصيدة العمودية وكذلك فإن القوافي من ملامح قصيدة التفعيلة، وبعض قصائد النثر تحمل قوافيها، وفي نص سنونوات نلمح الموسيقى الداخلية التي تتميز بها قصيدة النثر، ومن ذلك قوله: «كيف يتحول قلبك إلى بحر تخرج منه كحورية كل صباح بفستان أبيض وكتفين عاريين ضفيرتين تحمل بيدها اليمنى شمعة وباليسرى تحمل عشرات البتلات» هذا النص المقتطع يحقق عدة مزايا من قصيدة النثر، أولها الموسيقى الداخلية الذي تستسيغه الأذن في قراءة وسماع النص، ثم يستخدم الأديب محمد بني ياسين التوقيعة الداخلية حينما استغنى عن القوافي ليشير إلى الشعر بدلا من النثر، فالتوقيعة الداخلية في قوله: «بفستان أبيض وكتفين عاريين ضفيرتين» هذه التوقيعة فن شعري استخدمه شعراء قصيدة النثر، ومن قبلهم شعراء قصيدة التفعيلة، ومن أشهر من استخدم التوقيعة الداخلية في قصيدة التفعيلة الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، والملح الثالث في هذه المقطوعة توظيفه لتفعيلة المتدارك في قوله: «وباليسرى تحمل عشارات البتلات». لكن الأديب محمد بني ياسين في مصنفه (رائحة الطين) يوظف الحوار والأسلوب الحكائي في نصه نكبة، حيث يبدأ نصه : «هل تذكرين حين كنا ذات حلم نمشي نحو المغيب وبائع القصب طفل لم يبلغ العاشرة نبتاع قصبتين لنمارس التهام السكر هل تذكرين؟!» هذا المقتطع من نص نكبة، يحمل الحس الحكائي القصصي والنثري، لكنه يحمله إيقاعا موسيقيا يحار القارئ بين الشعر والنثر، فمؤشرات الشعر ظاهرة في مصنفه، وملامح النثر أيضا ظاهرة في مصنفه، لكن المشهدية التي تراوح بين النثر والشعر ظاهرة أيضا في نصه دعاء بقول الأديب محمد بني ياسين: «في تموز الليل موعدنا نقتسم النجمات واحدة لك والثانية لك» يتجدد في هذا النص المشهد الصيفي الملتهب في تموز، حيث الليل لا غيوم تحجب النجوم، هذا المشهد متكامل في فنيته بين الشعر والنثر، لكن التركيب الكتابي أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، ويتكرر المشهد في قصيدة غفران بقوله: «أنا منذ خمسين وجع أنتظر أن أمر ببابها هي تترك كل يوم نافذتها بلا أقفال» هذا المشهد المتكرر على الأديب أن يؤكده بصور فنية حتى يكون أكثر ميلا للشعر منه للنثر، مثل قوله: «ثم عطش في جوف الخوابي»، وتؤكد الصورة الفنية في نص لندن حيث يقول: «كل شيء كان يشبه الحلم حتى وجودي صدفة على التقاطع كان محض حلم» ويختم نص لندن بصورة فنية آخاذة: «لندن.. السيدة التي كانت تقطع الشارع تفاح أخضر» صورة فنية يزاوج فيها بالتشبيه ما بين لندن والسيدة العربية، ويزاوج بين لندن بخضرتها والتفاحة الخضراء، فلو أراد المرأة لقال تفاح أحمر. هذا البحث في تصنيف وتجنيس النص عملية مهمة، لأن الأديب محمد بني ياسين كتب تحت عنوان مصنفه (رائحة الطين) نثر مما يشير على أنه متعلق بالنثر، وهذا ما لا أظنه، فهو يريد دفع تهمة الشعر عن نصوصه، وعند تتبعنا ملامح الشعر والنثر غلبت ملامح الشعر على نصوصه، والآن هل أستطيع أن أقول إن مصنف رائحة الطين هو ديوان شعر وليس كتاب نثر، وإذا كنا نخشى أن نقول قصيدة نثر، فقد أوجد النقاد مصطلحات بديلة منها الشعر المنثور، ولا أظنه قد نثر الشعر، لأن النقاد قالوا أيضا النثر المشعور، ذلك النثر الذي يحمل طاقة شعرية عالية في ثناياه، ويبقى الأمر متروكا لأديبنا وشاعرنا محمد بني ياسين بأن يستبدل كلمة نثر بالشعر، خاصة أن هذا المصنف ديوانه الأول، والمتلقي لديوانه عندما يقرأ الشاعر نصوصه يتعرف القارئ ببساطة إلى قصائده، فرائحة الطين هي رائحة الشعر في النثر، ورائحة الماء في التراب، وهذه الرائحة لا تكذبها العقول السوية التي خبرت الشعر والنثر، فالشعر بين والنثر بيّن، وما كتب محمد بني ياسين ليس من المتشابهات انما هو النثر المشعور أو الشعر المنثور وأولى بنا أن نقول إن رائحة الطين هي قصية النثر التي أحب على لسان الشاعر محمد بني ياسين.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 08-10-2021 09:33 مساء
الزوار: 891 التعليقات: 0