يعتذر بعض الشعراء عن عدم المشاركة في الأسواق واللقاءات والندوات والمهرجانات الشعرية، كما حدث في بعض الأمسيات الشعرية في مهرجانات جرش. وتكون الحجة الرئيسة بأنهم لم يوضعوا بين الشعراء القديرين أمثالهم، فما عليهم في تلك الحالة غير الانتصار لقيمتهم برفض المشاركة؛ فهم من الشعراء الذين نالوا كثيرًا من الجوائز، وحققوا إنجازات مهمة في مجال الشعر، ودواوينهم الكثيرة تشهد بذلك، ولا يكتفون بعدم المشاركة، بل ويلومون اللجان المشرفة على اختيار الشعراء أنها تختار من هب ودب ومازال يحبو في مجال العروض والقوافي ليلقي قصائده على مثل تلك المنصات الشعرية العتيدة، ومع الشعراء المرموقين. أرى أن وجهة النظر التي يطرحها هؤلاء الشعراء، على ما تحمله من وجاهة، لا تنتبه إلى جوانب أخرى من القضية. فالقضية ثقافية في الدرجة الأولى، وليست عشائرية تُسلط فيها الأضواء على الشيخ، وليس على ما يقوله. إنها قضية لا تتعلق بالشعراء ومنزلتهم، بل تتعلق بالشعر ذاته، أي ما يلقى ويستمع الجمهور إليه. المهم ما يقوله الشاعر في المكان والساعة وليس ما يتمتع به من شهرة وجوائز وما كتب من دواوين. ثم يوجد جانب آخر أن هؤلاء الشعراء الذين يعتذرون عن عدم المشاركة مع غيرهم من الشعراء المغمورين لم يطلعوا على القصائد التي ستلقى في تلك اللقاءات؛ فربما يتفوق بعضها على قصائدهم، التي قد تكون ضعيفة تقترب من شعر صغار الشعراء، فليس كل ما يقوله الشاعر الجيد جيدًا، فلا يخلو حتى الشعراء المجيدون من التفاوت في شعرهم، فيكتبون أحيانًا قصائد في غاية الضعف. إن رفض هؤلاء الشعراء يُظهر وقوفهم في وجه المواهب الجديدة، ويكشف غرورهم الذي يضر بسمعتهم من ناحية، ويكشف تناقضهم مع ما يتغنون به وينشدونه في شعرهم من تسامح، وعدل، ومحبة. ويغيب عن بالهم أن الشاعر المعروف عندما يلقي قصيدة جيدة فإنه لا يبين قيمته وعظمة شعره حسب، بلضعف أولئك الشعراء الصغار، وضعف اللجان التي اختارتهم. وإذا كنا نقول بأن هذا النوع من الرفض موقف يجانبه الصواب، فيحضرنا ما حدث في مهرجان الموصل، الذي عقد بمناسبة مرور ألف سنة على وفاة الشاعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي عندما دعي الشاعر اليمني عبدالله البردوني للمشاركة في المهرجان، وتعجب الشعراء المشاركون، منهم: نزار قباني، وأحمد عبدالمعطي حجازي، والجواهري، والبياتي من هذا الشاعر الذي لم يسمعوا به. يروي البردوني الحكاية ويقول:»إن شعراء كُثر قرأوا قصائدهم، وجاء دوري، وأثناء سيري إلى المنصة لقراءة القصيدة سمعتُ الناس يتهامسون: ماذا سيقول هذا بعد كل أولئك؟! بدأت الكراسي تتحرك وبدأ البعض يخرجون، وأنا بدأت أقرأ قصيدتي، ولحسن الحظ كان هناك مايكروفونات وسماعات إلى الشارع، ولما سمعوا وهم في الشارع عادوا، وسمعتُ ضجيج الكراسي ثانيةً، ثم خيَّم على القاعة سكون المقابر. كنت أقرأ وهم يصفقون بحرارة، ويستمر التصفيق لدقيقة كاملة» ويتابع أنه بعد أن انتهى من قراءة قصيدته جاءه نزار قباني ليعتذر له بأنهم قرأوا قصائدهم بوجوده. ولما سأله عن السبب أجابه؛ لأنه قال كل ما أرادوا قوله ولم يقدروا. تفوقت قصيدة البردوني، التي يعارض فيها قصيدة أبي تمام: السيف أصدق إنباءً من الكتب في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب على غيرها من القصائد، ونالت جائزة المهرجان، وكانت بعنوان «أبو تمام وعروبة اليوم» التي يقول منها: ما أَصْدَقَ السَّيْفَ! إِنْ لَمْ يُنْضِهِ الكَـذِبُ وَأَكْذَبَ السَّيْفَ إِنْ لَمْ يَصْـدُقِ الغَضَـبُ بِيضُ الصَّفَائِـحِ أَهْـدَى حِيـنَ تَحْمِلُهَـا أَيْـدٍ إِذَا غَلَبَـتْ يَعْلُـو بِهَـا الغَـلَـبُ وَأَقْبَـحَ النَّصْر..نَصْـرُ الأَقْوِيَـاءِ بِـلاَفَهْمٍ سِوَى فَهْمِ كَمْ بَاعُوا وَكَمْ كَسَبُـوا في النهاية ما نريد قوله: إن الأسباب التي يقدمها بعض الشعراء المعروفين عن عدم المشاركة مع شعراء يعدونهم أقل قيمة منهم هي أسباب واهية، لا تعلي من شأنهم، ولا تظهر أهمية شعرهم، والأجدى بهم عدم الاعتذار، وعدم تفويت فرصة اللقاء بجمهورهم، وإظهار ما يتمتعون به من مقدرة وموهبة. فقيمة الشاعر أي شاعر في أي ملتقى تتجلى في قصيدة يلقيها من الشعر الجميل.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 08-10-2021 10:49 مساء
الزوار: 1039 التعليقات: 0