|
عرار:
إبراهيم خليل العلاقة بين الشاعر الحديث، أو المعاصر، والتراث الشعري، والثقافي، من الإشكاليات التي تناولها المحدثون، وتعاوروا ما يطّرد حولها من آراء متباينة، ووُجُهات نظر متنافرة حدّ التناقض. ومن ينظر في القوائم الببليوغرافية، والمراجع، يكتشف أن الكتب التي تتصدَّر عناوينَها كلماتٌ مثل: توظيف التراث في .. واستدعاء الشخصيات التراثية في.. وما شابه ذلك، وشاكله، كثيرةٌ كثرةً لا يحيط بها عدد، ولا يستوفيها حصر. وثمة ولعٌ بيّنٌ، وشغَفٌ ظاهر، لدى مُعدّي الأطاريح الجامعية، والرسائل الأكاديمية، من دكتوراه، ومن ماجستير، وما دونهما أو فويقهما من أطاريح، بتناول هذه المسألة بالبحث؛ فإما أن يتصدى الباحث منهم لاستدعاء النماذج التراثية في شعر شاعر معين، كصلاح عبد الصبور مثلا، وإما أنْ يتناول الموضوع بالعنوان ذاته في شعر بلد عربيٍ، كالذي كتب عن استدعاء الشخصية الإسلامية في الشعرالسعودي، ومن هذا القبيل الكتاب الذي صدر حديثا للباحث الطموح ركان حسن الكايد، الموسوم بالعنوان «استدعاءُ الشخصيات التراثية في الشعر الأردني الحديث»، وأظنه رسالةً نال المؤلف بها درجة الماجستير من الجامعة الأردنية. وكعادة هذا النفَر من الباحثين لا بد من أن يمهّدوا لدراساتهم بمقدماتٍ يشرحون فيها للقارئ ما هم مقدمون عليه من بحث. فكلمة «استدعاء» تحتاج إلى توضيح. وكلمة «تراث» تستحق هي الأخرى توضيحا أسْوةً بكلمة أستدعاء. وعبارة « الشعر الأردني الحديث «عبارةٌ تستحقّ هي الأخرى أسوة بالسابقتين توضيحًا وتفصيلا، وإلا تُرك القارئ ليوضح هذا بنفسه. ومما يثير الصعوبات أمام الباحث في هذا الموضوع- تحديدًا - اضطرارهُ لتكرار ما تقدم ذكره في رسائل، وكتب، ودراسات أخرى سبق نشرُها، وهذا يحول بينه وبين أن يضيف جديدًا. فما الذي عسى أن يضيفه في تحديده لمعنى «التراث» لما ذكره مفصّلا باحثون جهابذة كمحمد عابد الجابري، وفهمي جدعان، وحسن حنفي، وزكي نجيب محمود، وحسين مروة، وآخرون.. لا عدد لهم ولا حصر. مع أن الباحث كان بمقدوره أن يفلت من هذا المأزق، وأن يذكر في مقدمته أنّ التراث شيءٌ معروفٌ، ولا يحتاج لمزيد من الأقاويل التي لا هدف لها غير الحشو، والاستطراد، والإطناب، وترديد الشيء الواحد بألفاظٍ مختلفة. وعلى هذا النحو نجده حائرًا في توضيح مفهوم «الاستدعاء»، فهل هو اقتباس أم تضمين أم تناص أم استحضار أم استلهام أم استيحاء؟ وفي فرضياته هذه زاد الأمر تعقيدًا. مع أن المسألة يمكن تلخيصها ببساطة: فهو أن يتضمن النص الشعري المبتكر ذكر أحد الشخوص الذين عرفوا قديما بوصفهم من الشخصيات التي لها حضورها في تراثنا الثقافي، الديني منه وغير الديني، والشعبي منه وغير الشعبي، والأدبي وغير الأدبي، لمعنىً ما. فكلّ ما يتجاوز هذا من مقولات عن الشخصية التراثية فضولٌ، وتزيّد، لا ضرورة له. وأن لا يُذكر في التمهيد خيرٌ من ذكره، لأنَّ الإطالة فيه، والاستزادةَ منْهُ، لا تعدو كـوْنها حشوًا. وعلى الرغم من اليقظة التي يبديها ركان في تمهيده هذا، فقد زايله الحرصُ، والتحرُّز، فوقع ضحيَّة الحديث البعيد عن الواقع. فهو، أي- ركان – ظنَّ في توظيف الشخوص الذين سبق ذكرهم في الشعر شيئا لا يختلف عن اختلاس الشاعر معنىً من المعاني من شاعر آخر سابق. كاختلاس سلم الخاسر(186هـ) قوْله «من راقبَ الناسَ ماتَ همًا» من بيت لأستاذه بشار بن برد(168هـ)»من راقب الناس لم يظفرْ بحاجَتهِ» إلخ.. وهذا شيءٌ مختلفٌ عما يعنيه المعاصرون باستدعاء الشخصيّات التاريخية، أو التراثية، في الشعر الحديث. ولا يمكن أن يُقبلَ إدراجه في إطار السرقات بصرف النظر عما إذا كانت سطوًا أو أخذًا. يقول المؤلف، ولا ندري ما علاقته بمبحث السرقات: « لم تكن ظاهرة الاستدعاء في الشعر وليدة الحاضر، فإنها ظهرت في الشعر القديم تحت مُسمّى السرقات الشعرية، أو توارد الخواطر، فكانت من القضايا النقدية المهمَّة عند النقاد العرب في القديم (ص15)» وهذا القول، الذي أحالنا فيه لكتاب بدوي طبانة « السرقاتُ الأدبية «(1956) ينطوي على مغالطتين، أولاهما؛ أنَّ السرق في الشعر مذموم، فيما يُعدّ استدعاء الشخصيات التراثية مظهرًا من مظاهر التجديد، والابتكار، وهو على أيِّ حال ليس مذْمومًا، وتبعًا لذلك، فإن الزعم بأنه امتداد للسرقات الأدبية زعمٌ غير مقبول، ويأباه المنطق الذي يؤمن به المؤلف نفْسُه. وثانيهما؛ أنّ بدوي طبانه يبحث في السرقات الأدبية، والسرقة قد تكون في المعنى، أو اللفظ، أو فيهما معًا، أما استدعاء الشخصية التراثية، فحتى لو تكرر ذكرها لدى شاعرين، فلا يعد المتأخر منهما مختلسًا من المتقدم لفظا ولا معنىً، لكون هذه الشخصية، أو تلك، من الرموز التي يُتاح توظيفها لمن يشاء. يقول كعب بن زهير(26هـ) مثلا « كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلا « فلو كـرّر شاعرٌ من شعراء أيامنا هذه ذكر عرقوب، وهو شخصية أسطورية ترمز للمماطلة في المواعيد، في قصيدة من قصائده، لما عُدَّ سارقًا، والمؤلف نفسه يذكر في كتابه في الفصول اللاحقة كيف يكرر شعراء معاصرون محدثون توظيف شخصيَّة النبي « أيوب « وصبرَهُ(1)، دون أن يُعد ذلك في السرقات. فقد ذكر أبياتا تجلى فيها استدعاءُ حيدر محمود لأيوب وصبره، على سبيل الرمز الذي يوحي بنفاد صبر المتكلم في القصيدة: كان أيوبُ يا ما كان أغنيةً على شفاهِ الحيارى والمساكينِ (ص87) ثم ذكَر أبياتا أخرى جرى فيها مثلُ الذي جرى في أبيات حيدر محمود لعزّ الدين المناصرة (ص95) دون أن يَعُدَّ ذلك من السرقات: أحاول رغم الأسى أن أطوقها بسمائي وأهرب منها إليها أسيل على جانبيها مدادا وما جفت المحبرة ونلت الشهادة منها برتبةِ أيوب(*) وتردّد ذكـرُ مريم العذراء، وجذع النخلة، لدى شاعرين على الأقل في الفصل الثاني، دون أن يومئ المؤلف لما فيهما من السَرَق، والأخذِ، لو كان(ص 113). كذلك حكاية يوسف الصديق مع إخوته والذئب، تردد ذكرها، واستدعاءُ ما فيها من دلالاتٍ، لدى أكثر من شاعر دون أن يرتاب أحدٌ من نَقَدَة الشعر، ودارسيه، في أنّ هذا سرقةٌ، أو سَطْو.. وتبعًا لهذا يعد جلّ ما جاء في الفصل التمهيدي الأول عن السرقات، وعلاقتها باستدعاء الشخوص، من فلتات القلم التي يترتَّب عليها خللٌ، واضْطرابٌ في المفاهيم. وظاهرة الخلط في المفاهيم من الظواهر التي لا تحتاج إلى دليل، ها هنا، فقد ذكَـر المؤلف، فيما ذكر، مصطلح « التناصّ « فيما هو يعدد المعاني المحتملة لمصطلح الاستدعاء، قائلا في (ص 17) التناصُّ هو « تلاقي دلالات عدد من النصوص اللاحقة، وتداخلها، وتفاعلها، في فضاء نصّ معيَّن سابق «وهذا التعريف المقتبس من أحمد عدنان حمدي (2012) يتناقض مع التعريف الذي يورده (ص 18) نقلا عن أحمد الزعبي (2000) فالتناصّ « هو أنْ يتضمن نصٌ أدبيٌ ما نصوصًا، أو أفكارًا، أخرى سابقة عن طريق الاقتباس أو التضمين أو التلميح أو الإشارة « وهذا التعريفُ، علاوة على أنه غير دقيق، يتعارضُ مع السابق؛ إذ يجعل التناصّ من النص الحديث في حين أنّ التعريف السابق يجعل التناص من مبتكرات النص القديم، تظهر بصفة ما في النص الحديث. هذا مع أنّ المؤلفَ لا يحتاجُ لهذه التعريفات، لأن دراسته هذه عن « استدعاء « الشخوص، وليس عن التناصّ. وقد خانه الاحْتراسُ، والتحرُّزُ، في الاقتباس من حسَن حنفي، فجاءَ على عكْس ما يريده حنفي من تعريفه للتراث، وعلاقته بالحداثة. يقول المؤلف (ص22) مقتبسًا (2002) « التراث القديم لا قيمة في ذاته، كغاية أوْ وسيلة، ولا يحتوي على أيّ عنصر من عناصر التقدم، وبأنه جزءٌ من تاريخ التخلف، أو أحد مظاهره، وأن الارتباط به نوع من الاغتراب «. فالمؤلف نقضَ مقولات حسن حنفي، وجعلها تأبى أنْ يكون للتراث قيمة، أو أنْ تكون فيه عناصرُ تَقدّم، مؤكدًا أنه مظهرٌ من مظاهر التخلّف التي تورثُ الشعور بالاغتراب؟!. والصحيح أنّ حسن حنفي ينفي هذا، مؤكدًا أنّ التراث ليس غايةً في ذاته، يل هو وَسيلةٌ لغاية، هي توظيفُ ما فيه من عناصر دافعة للتقدُّم. ولهذا يأتي ما يقوله الجابري(ص23) مما اقتبسه المؤلف من كتابه « التراثُ والحداثة « (1991) مؤكدًا مقولات حسن حنفي. ودليلٌ آخر يفصح عن الخلط في المفاهيم. فالمؤلف- أرادَ أمْ لم يُردْ - يساوي بين التراث والماضي (ص23) يقول : « إن التراث (الماضي) هو الذي سبق المعاصَرَة « وهذا قد يبدو من النظر الأوّل صحيحًا، غير أنّ المؤلف فتح الله عليه، فأدرك أنّ ما يقوله عن التراث، وأنه مكافئ للماضي، غيْرُ صحيح، بدليل أن الماضي شَهد من الحداثة ما لم يشهده الحاضر الآني. فبعد أن عرض لآراء محمد العبد، وعز الدين إسماعيل، وعلي جعفر العلاق، في معنى الحداثة، وما يتجلى من مظاهرها في شعر الشعراء الروّاد، أمثال: السياب، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، والبياتي، وغيرهم، يقول: إنّ تمرد أبي نواس(199هـ) على المقدمة الطللية في القصيدة، وخروج أبي تمام(231هـ) على عمود الشعر، يقابل ما تطرحه الحداثة، مؤكدًا أنّ « الحداثة في العصر الحديث جاءَت من صُلب التراث «. وتبعًا لهذا الاستنتاج يمكن القول: إن الحداثة ليست وليدة التراث الذي هو الماضي، بل هي وليدة التراث ماضيًا وحاضرًا، قديما وفي الحديث. والربط بين التراث، والماضي، عند كثير من الدارسين خطأٌ شائع، فنحنُ حين نقرأ شعرًا قيل في الماضي يغدو جزءًا من حاضرنا، لأننا نتفاعل به، ونستجيب لما فيه من الدلالات، مع أننا نحيا الآن، ولا نعيش في العصور الخوالي. لذلك نظنّ- كلَّ الظنّ - أنّ التراث، وإن كانت له علاقة بالماضي من حيث إنتاجه، راهنٌ، وحاضرٌ، في مَنْ يقرؤونه، حضورَ الفنِّ المعاصر، والحديث. ولذلك نقول: إن جلّ ما يُشاع عن توظيف التراث، أو استدعاء التراث، فيما هو حديث، خطأ يدفعنا إليه أننا نفصل بين الخطاب الموروث الموضوع على رفوف الكتُب، وبين الخطاب المقروء الذي هو حيٌ في نفوسِنا. ونأتي الآن لمسألة على جانب كبير من الأهمية، وهي: ما الذي يعنيه المؤلف بالشعر الأردني الحديث؟ لقد تتبَّعَ المؤلفُ تتبعًا يقظا، ودقيقًا، لعلاقة الشاعر العربي الحديث بالتراث، وموقف بعض الشعراء منه كالسياب(1964) ونازك الملائكة (2007)، مدعّما اقتباساتِهِ من شعرهما ببعض الآراء التي تناولها لدى علي جعفر العلاق، وعلي عشري زايد، وعز الدين إسماعيل(2007) ومدحتْ الجيّار، وعدَدٍ من كتبة رسائل الماجستير. وقد غاب عن هذه الفِصْلة التمهيديّة أمران، أولهما؛ أنه لم يذكر، فيما ذكر، نموذجا، أو بيتا، أو مجموعة أبيات، لشاعر أردني، فكأنّ الدراسة لا علاقة لها بالشعر الأردني. الأمر الثاني: أنه بادر للحديث عن الموضوع (استدعاء الشخصيات في الشعر الأردني) دون تمهيدٍ، أو ربطٍ، بين مستهل الفصل الثاني، وما تناهي به، وتوصل إليه، في الفصل الأول. فبدتِ الدراسة وكانها مجموعة فصول ألصق الثاني منها بالأول بلا مُسوِّغ. وثمة أسئلة يتوقَّع القارئ أن يجد عنها إجابات: فما المدة الزمنية التي يتناول فيها الباحثُ هذا الشعر؟ ما بدايتها وما نهايتها الافتراضية؟ إذْ من أساسيّات البحث أن يتضمن العنوان من كذا إلى كذا. وهذا ما لم نجدْهُ لا في العنوان، ولا في الفصل التمهيدي. وسؤالٌ آخر، هو: ما الحديثُ من الشعر الأردني، وما القديم التقليدي منه؟ لم نجد ما يتطلبه هذا الأمر من تحديدٍ، وتصنيفٍ، للشعراء، فمنهم ما هو حديثٌ، على وفق رأي المؤلف، ومنهم ما هو غير حديث. فهلْ يحتَسِبُ حسني فريز، مثلا، أو الناعوري، أو مصطفى وهبي التل، (عِرار) أو عبد المنعم الرفاعي، في المحدثين من الشعراء، أم لا؟ وإذا كان يَعُدّ الرفاعي، وعِرارا، شاعرين حديثين، فلم لا يعد الناعوري من المحدثين؟ كنّا نتوقع أن يرسم حدودًا تبين لنا ذلك، وإلا يتركنا في طريق يخشى فيه الضياع، والضلال. ثم منْ هو الشاعر الأردني؟ هل هو الشاعر الذي يشهد جواز سفره، ومَسْقِطُ رأسه، بأنه أردني، أم تتسع الحدود لاحتساب شعراء عاشوا في الأردن، وتمتَّعوا بالجنسية، في عداد الشعراء الأردنيين؟ ترك المؤلف هذه الأسئلة غفلا من غير إجابات. وهي أسْئلة لا جرَمَ أنها تستحقُّ الوقوف عندها، لا سيما وأن الكتاب رسالة أكاديمية قد تصبح مرجعًا للباحثين، والدراسين، وطلبة الدراسات الأدبية، واللغوية. ففي الوقت الذي يُدرج فيه الكايد شاعرًا كمحمد إبراهيم لافي في الشعراء الأردنيين، وكذلك عزّ الدين المناصرة، لا يُدرج محمد القيسي، أو مُريد البرغوثي، أو عبد الرحيم عمر، مع أنّهم جميعًا عاشوا في الأردن، وتمتعوا بالجنسيّة، والأخير منهم شغلَ وظائف سامية في الحكومة الأردنية لزَمنٍ غير قصير. صفوةُ القول هي إنّ هذه الدراسة قامتْ على بعض المقدّمات التي تحتاجُ لاستئنافِ النَظَر، لذا لا يُتَوقَّعُ منها إلا ما هو في أمسّ الحاجةِ لإعادة النظر. *** * من الشعراء الذين استدعوا في شعرهم، وذكروا صبر أيوب: خالد أبو خالد، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، وشاذل طاقه، وعبد الرزاق عبد الواحد، وعبد الرحيم عمر، وسميح القاسم، ومحمد حسيب القاضي، صاحب ديوان « أربعاء أيوب « وعبد العزيز المقالح، وعزالدين ميهوبي، وسعد الحميدين،وللمزيد انظر= أفنان أبو حمدان: استدعاء شخصية أيوب في الشعر العربي المعاصر، ر.ج، غير منشورة، الجامعة الهاشمية، 2019. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 10-06-2022 09:54 مساء
الزوار: 872 التعليقات: 0
|