|
عرار:
صبحي فحماوي في بداية الزمان، كان التقاط الصور يتم بالعين، وكان انعكاس الصورة على سطح الماء هو بداية المرآة العاكسة، وهو الذي خلق أسطورة «نرجس» التي أحبت نفسها وهي تحدق، إلى أن غرقت في الماء، وماتت متورطة بمحبتها لذاتها.. وهكذا فعل أسد «كليلة ودمنة»، الذي أحب نفسه أكثر من الدنيا كلها، لدرجة أنه غرق في البئر..تحت باب «ومن الحب ما قتل.» وفي إحدى أقصوصاتي كتبت: «كثيراً ما كانت تنظر في المرآة، وهي تجمل نفسها، ليس لإرضاء الحبيب، بقدر ما كانت تحب أن ترى عمق نفسها الذي تبحث عنه..» سطح الماء والمرآة كانا الوسيلة الفنية لتفكير الإنسان في جمالية شكله، وعمق مواصفاته. ثم كانت الصورة..التي كان يرسمها الإنسان على جدران المغارات.. والصورة التي أقصد هي ذات البعدين..وقد تكون الصورة المجسمة ثلاثية الأبعاد ومن أمثلتها التماثيل والتكوينات.. وضمن هذه الإبداعات الصورية ظهر الرسم الفني والنحت التكويني، فكانت اللوحات التي يرسمها الفنانون، صورة طبق الأصل عن الشخص المصوّر.. بعد ذلك اخترعت العدسة المصوِّرة، لتطبع الصور بالأبيض والأسود.. فبقيت لوحات الرسم الفني الملونة متفوقة عليها لكونها أقرب إلى الواقع.. أما وقد ظهرت العدسات التي تنتج الصور المطبوعة بالألوان طبق الأصل، فلقد تراجع تأثير الرسم الطبيعي، وباقي المذاهب الكلاسيكية، وقاوم الفنانون هذا التراجع وذلك برسم لوحات تعبيرية، مثل رسومات بيكاسو التكعيبية ولوحات سلفادور دالي السريالية، وما بعدها من فنون راحت تبحر في فلسفة النفس البشرية وهي ترسمها.. وللحفاظ على بقائها وتطورها فناً مستقلاً بذاته، راحت العدسة تصور بعمق فني، مدروس، بدل أن تطبع الصور الطبيعية كما هي.. وعمل في هذا المجال «فنانون» كثيرون، ولا أقول «مصورون»، كان أهم من عرفته هو الفنان الأجمل فؤاد حتر.. حيث الصورة بين يديه تُجمِّل الحياة، وتجعلها سعيدة.. وأكثر ما يلفت فؤاد حتر وهو يحرك عدسته هنا وهناك، هو عشقه لجماليات الغروب. قد يكون الغروب محزناً بطبيعته المفارقة، فكيف به وفؤاد يتحكم بعدسة الكاميرا.. بمدى الظل.. بمدى الرطوبة.. بمدى الضوء.. بمدى سرعة التقاط الصورة المتحركة..بمدى إبراز اللون وتكثيفه.. بمدى انخفاض طبوغرافية الصورة وارتفاعها..إنه فنان مزج الأشجار مع الصخور مع الجبال والوديان.. مزج الأعشاب مع الزهور البرية.. خاصة إنه فنان متوحش..فنان الطبيعة..فهو لا يفكر في تصوير الحدائق الغناء بقدر انثياله على حدقات الطبيعة وجُرون وديانها وحقول أزهارها التي يجدها تحاصر القرية من بعيد..تجده يخرج من بيته يفكر في محبوبته، يترقبها..ينتظرها حتى تأتي.. يتسلل من بعيد.. يقتحمها في اللحظة المناسبة.. يلتقط لها الصور الفاضحة الجمال، فتظهر بين يديه بأشكال ساحرة..تتجلى في مناظر مدهشة.. الغروب في مرتفعات السلط ومنخفضاتها. تجده يتلبد لها، فيقتحمها من مرتفعات الفحيص..إنه قائد محترف يهاجم الطبيعة.. هذه هي معشوقته الساحرة الجمال.. الغروب في مدينة مأدبا. يقتنص لك الشمس ..يمسكها بعدسته مثل برتقالة تقف فوق مآذن مأدبا وكنائسها..يطاردها، فيصطادها قبل أن تختفي بين جبال وادي ماعين.. يقتنص العتمة السماوية فوق النور المنعكس على صهوات الجبال.. يمسك الشمس برتقالة تقفز فوق الأفق البعيد.. يوقف الحركة عند الغروب.. تعطيك عدسته السماء صفراء عاقدة الجبين.. أنت لا تدري كيف تشتعل السماء بعدسته المجنونة، بنورها الأحمر الأصفر الأزرق، الأسود الناري..في صحراء وادي رم، يجعلك غير مدرك لما ترى..تزوغ بك الأبصار.. هل ما تشاهده هو ضباب مهيمن، أم غبار متحرك في الصحراء المتقعرة، أم غيوم بيضاء متكاثفة تسير مثل قافلة جمال غزيرة الهطول.. تجده يعكس لك بقايا الفضاء المسائي ملتهبة بنيران السماء.. بينما تعتم الجبال تحتها.. تجده بطلقة يصطاد لك الشمس ويُسقط صفرتها الليمونية بين نيران الغروب. وأما عن غروب البحر الميت الذي تتألق صوره بعدسة فؤاد فوق طبيعته الرومانسية الساحرة بطريقة لا يستطيع أي رسام تصوير هذا المدى. ماذا عن السوسنة الأردنية السوداء النارية الأطراف العليا بعدسة فؤاد.. أزهار الزعمطوط – عصا الراعي- الزهري والأبيض وهو يشرئب برؤوسه متمرداً بين الصخور.. الأقحوان البري النابت على شكل هجمة جماهيرية من اللون الأصفر المفروش على سجادة خضراء.. ماذا عن الأشجار القريبة الممتزجة بالجبال البعيدة، المعجونة بالغروب.. ماذا عن الحنون الأحمر المتدفق من بين الصخور والوهاد، والمتنافس مع حمرة شقائق النعمان المنسدل بساطاً أحمر لا نهائي المدى في تلعة مقابلة هناك.. أزهار الترمس البري الزرقاء المندلقة من سفوح الجبال على شكل سيل من الأزهار الزرقاء القصيرة المكتظة المتنافسة ترفع رؤوسها القصيرة.. اأزهار الزعمطوط البيضاء الزهرية الفم كأحمر الشفاه الجميل.. إن صور فؤاد حتر تعدو كونها جنات عا مد النظر ما بينشبع منها نظر على رأي وديع الصافي.. الحديث يطول عن صور فؤاد الذي أجمل ما فيه أنه يجيد لغة الضوء ، ويتدخل في أسرار الصخور، وكثيراً ما يقدم لنا بانوراما رائعة تهدي للعالم طبيعة الأردن الجمالية، بما فيها من تكوينات صخور مدهشة وربوع رمال صحراوية ساحرة الجمال، مع التركيز على زهور بلادنا ونباتاتها البرية..في معرضه الذي كان مخصصا لمدينة البتراء الساحرة، كانت الخطوط النبطية اللازوردية في الصورة بارزةً عروقها.. متمايزة ألوانُ خطوطها..وفي مكان آخر في عجلون، شاهدته يصور حجراً عادياً، فطلعت الصورة من بيت النار ساحرة بعروقها النافرة.. عندها تأكدت أنه مصور بارع يُنطق الحجر. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 04-03-2022 12:00 صباحا
الزوار: 553 التعليقات: 0
|