عرار:

عمان  :  تحتل الصورة مكانة مهمة في النص الشعري، وقد التفت النقاد العرب إلى أهمية الصورة في جمال النص، وإبراز جوانبه الإبداعية، فكثرت المؤلفات في الصورة حتى اختلطت المفهومات، وتشعبّت المناهج، فنجد عز الدين إسماعيل يؤصل تشكيلين للصورة الفنية في الشعر المعاصر، الأول: زماني، وهو الصورة التي يبعثها النغم، والثاني: مكاني، وهو الصورة الحسّية (1). 
ويرى الدكتور عبد القادر القط أن الصورة هي « الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني؛ ليعبّر عن جانب من التجربة الشعريّة في النص، مستخدماً طاقات اللغة في الدلالة، والتركيب، والإيقاع، والحقيقة، والمجاز، والترادف، والتضاد، والمقابلة، والتجانس، وغيرها من وسائل التعبير الفني» (2).
ويرى الدكتور عبدالاله الصائغ أن حدود الصورة هي « نسخة جمالية تستحضر فيها لغة الإبداع الهيئتين الحسيّة والشعوريّة للأجسام أو المعاني بصياغة جديدة تمليها موهبة المبدع، وتجربته، وفق معادلة فنية بين طرفين هما المجاز والحقيقة» (3). 
 وتعتبر الشعريّة روح النص التي لا يفرّط بها المبدع؛ لأنها تعني الحذق في جعل الرسالة عملاً فنياً بما يعلّق كثيراً من الجمالي على الخيال (4). 
 لذلك أصبحت الصورة الفنية وسيلة من وسائل متعددة للغة الشعريّة، بمعنى أنها فقدت معناها القديم القائم على الاستقلالية في النص، بل إنها دخلت في النقد، وأصبحت نسيجاً مهماً يتداخل مع النسيج الكلي للنص، وهي بهذا المعنى أداة من أدوات اللغة « يستطيع المؤلف باستخدامها أن يحقق ملامح التضاد والتناسب في النص مستثيراً عالماً خيالياً جديداً « (5). 
وجاء النقد الحداثي ليوسّع من مفهوم الصورة « بحيث لا تقتصر على الإشارة للجانب التخييلي المجسّد للمجردات بطرائق حسّية تمثيلية، بل تشمل شبكة من الإجراءات التي تمتد من توظيف العناصر السرديّة الحركيّة إلى تنمية أنماط من الصور النحوية، وهي صور تعكس كفاءتنا في بناء الواقع حسب نماذج صورية متنوعة إلى جانب الصور الإيقاعية « (6). 
إنّ تمييز النص الشعري وخصوصيته تنطلق من قدرة الشاعر على التلاعب بالألفاظ، وتشكيل بنية خاصة به، وهذا لا يتم بلغة عادية، ولا بصورة تقليدية مألوفة، لذلك جاء تشكيل الصورة جزءاً هاماً في تشكيل النص الشعري، وإضفاء سمات إنسانية عليه، تمنحه نضجاً فكرياً وفنياً واضحاً، وتجعله أكثر التصاقاً بالشعريّة، وبعداً عن النثرية، وبخاصة إذا جاء التشكيل الاستعاري للنص متحداً مع عناصر الشعريّة الأخرى كالتكرار، والإيقاع الداخلي المتمثل بتكرار حروف معينة، تتخذ طابعاً متفجّراً، يقول عبد الرحيم عمر: (7) 
ضَيّقٌ صدرُ هذا الزمانْ/ غادرٌ غادرٌ/ ضَيّقٌ عيشُهُ... ضَيّقٌ فكرُهُ/ نادرٌ نادرٌ فيه وجُه الحنانْ.
ولا يخفى أن أنسنة الزمان، ومنحَهُ صفاتٍ بشريةٍ جاء منسجماً مع تجربة قاسية يعبّر عنها الشاعر داخلياً وخارجياً، وقد تبدو الأبيات أكثر نثرية بالقراءة السطحية لها، إلا أن قراءة البنية الداخلية للألفاظ تمنح النص شعريّة واضحة على المستويين الدلالي والإيقاعي. 
وتعكس الصور الشعريّة عند الشاعر تجارب حياتية، تتخذ أبعاداً مختلفة في ظل تجربة فنية تبرز صورة مُبدعها، يقول: (8) 
الليلُ أشباحٌ تُهوّم في حنايا المقبره/ وكأن آلافِ الذين مَضوا/ نضوا أكفانهُم في ليل عيدْ/ وتوافدوا يستطلعون ويحلمونْ. 
إنّ جعلَ الليلِ مادةً أساسيةً للصورة شيء مألوف في البيان العربي، ولكن تجزئة الليل إلى أشباح، ضاعف من ظلاميته، وقدرته على السيطرة، وبخاصة عند استعماله للفعل (تهوّم)،وما يحمله من قوة تعكس قمع الزمان، وبطش أهله. 
ويساهم التضاد مساهمة فاعلة في بناء العالم الشعري المتخيل، فيجمع بين لفظين يحملان قدراً من البعد الدلالي والمعرفي، فليل الأشباح بعيد كلّ البعد عن العيد، وما يحمله من بهجة وسرور، ولكن الجمع بين متناقضين بإضافة الليل إلى العيد يعطي المتلقي قدراً من الحرية في التأويل تقيه هول الصدمة التي تلقاها في القراءة، ذلك أن (ليل عيد) ما هو إلا بشرى النصر التي تحملها أكفان الشهداء للمضطهدين. 
وقد تحمل الصورة الشعريّة بعداً رمزياً يساهم في إضفاء شعريّة مضاعفة، ترفدها قدرة الشاعر على البوح الحزين بمكنونات النفس،إذ يجعل من نفسه عاشقاً، وصياداً، يبحث عن الجمال الذي تمثله الغزالة (الوطن الضائع)، وهذا المعنى لا يتم بلغة عادية،بل بتكثيف الاستعارة،وتراكم الانزياحات التي ترسم معاناة الفلسطيني، وقسوة السنين عليه، حيث يعبّر الشاعر عن هذا المعنى قائلاً: (9) 
يطاردُ الغزالهْ/ والعاشق الضلّيل ما أرعوى/ تكسَّرت على جبينه السّنين/ ورسمت صليبَها المأثور/ وراودته حكمةُ الدّهور/ والعاشقُ الضلّيلُ لا يلين/ مضيَّعاً في تيههِ المقهور. 
وقد جاء نعت التيه بالمقهور، ليكشف عن عمق المعاناة، والعجز الذي يُمارس ضده. وترتبط صورة المعاناة بصور أخرى مُسببة لها، وهي صورة الأمة التي ينتمي إليها الشاعر، فتتمازج الصورتان في صورة واحدة، تتضح معالمها بأسلوب تكراري، يخالطه أنسنة الأشياء المادية بتكثيف استعاري معبّر، يكشف في طياته عن انهزامية، وشعور بالاستلاب والضياع، يقول: (10) 
وما زالتْ دماءُ الأهلِ جاريةً/ وما زالتْ سيوفُ الأهلِ ظامئةً/ وما زالَ الردى ينداحُ من حَوْلي/ كأن الكونَ مجتمعاً تآمرَ يبتغي قَتْلي. 
ويلعب اللون دوراً مهماً في منح الصورة شعريّة خصبة، إذ تتخذ شعريّة الصورة عند الشاعر بعداً آخر يتكئ على عنصر اللون؛ لإضفاء أبعاد دلالية على النص الشعري. 
 فوجه المحبوبة يبعث على الارتياح، وهو مصدر للخصب والسعادة والأمل، إذ يهطل منه المطر، ولكنه يختلف عن المطر المألوف الذي يسبب الخصب، إنه مطر أخضر خصب يحمل بين طياته ثماراً تمّ إنضاجها بحبّ الوطن، وممّا عمّق هذا المعنى إتباع هذا الانزياح اللوني بانزياح نعتي (طيوفاً نائيه) ؛ ليعبّر عن أحلامه البعيدة من خلال عيني المحبوبة، يقول: (11) 
لم يزلْ وجهكِ في عينيّ يهمي/ مطراً، أخضر، أشواقاً، طيوفاً نائيهْ. 
ويلجأ الشاعر إلى التشكيل الاستعاري في بناء صوره الشعريّة؛ لتوفر لها قدراً من الإيحائية واللامجانسة بين الدوال، وذلك بعلاقة اتحاد بالطبيعة التي تمدّه بحاجته الشعريّة، فالنهر يخاف، والأمل يداري، فضلاً عن وصول النهر إلى حالة الثمالة، وحيرة الحدائق، مما جعل النص يشع شعريّة ويتقدّ إيحاءً، يقول: (12) 
أجفل النهرُ وما زالت أغاني/ دجلة الثملى، وجنيّاتُها الحيرى/ يُداريها الأمل
ويبدع الشاعر صوراً شعريّة خاصة به، تكتسب أبعاداً نفسية وإنسانية عامة، معتمداً في ذلك على خياله الخصب، ولغته القادرة على استيعاب دفقات النفس: (13) 
ذلك الضوءُ الذي يهتفُ من خلفِ الزجاجْ
يتلوى في جحيم من إسارْ
 عبثاً يعنو لأوجاعِ الحصارْ 
 أو رسيس القيد، أو جَوْر الرتاجْ 
 وحداء الصبوات الصامتهْ 
 في فلاة الروح مهمومَ الأنينْ 
 أبداً يُدمي الجراح الخافتهْ 
ويلمس القارئ لهذه الأبيات تجريدية واضحة في رسم الصور الشعريّة، وأنسنة تخفي وراءها معالم صورة ساكنة في نفس الشاعر، أبرز معالمها الألم، وجوهرها الصمت، الذي بلغ حداً تجاوز مسافات الروح الواسعة، وأصبح قوة هائلة أدمت جراح الشاعر. 
وتشع الأبيات السابقة بالشعريّة، التي ساهمت العلاقات البنائية للصورة في تشكيلها، وهي شعريّة متراكمة البناء، بدأت بضوءٍ خافت، وانتهت بدماءٍ نازفة، لكن بين هذا وذاك انزياحات نعتية وإضافية واضحة، انتهت بتعميق المسافة بين الدال والمدلول، التي نتجت من الضغوطات النفسية، واستلاب الإرادة حتى أصبحت همومه تئن بالرغم من سعة صدره (فلاة الروح). 
وتزداد مسافة التوتر عندما تتسبب هموم الشاعر في فتح جراحه الجسدية، والتي يعطيها الشاعر صفة محسوسة تعمّق خصوصيتها المادية، إذ يتوقع المتلقي أن يصفها بصفة تناسبها مثل أن يقول : النازفة، المؤلمة، العميقة... ولكنه ينعتها بالخافتة، وهي ليست من متعلقات الجرح أو صفاته، إذ ترتبط لفظة (الخافتة) بالضوء ومتعلقاته، وهذه اللامجانسة واللاملائمة هي التي أشاعت الشعريّة وجعلتها سمة بارزة للأبيات السابقة، وهي في الوقت نفسه تكشف عن طاقة إبداعية، وقدرة عالية على البناء الفني للنص الشعري. 
وتتحرك الألفاظ في النص الشعري بحركة عواطف الشاعر، ومن هنا فإن اللغة الشعريّة لغة إنسانية تتشكل في قوالب مبدعها الجاهزة في نفسه، وهذا يسري على أجزاء النص الذي تكونه اللغة، يقول: (14) 
وأطلَّ طيفكِ بعدَ آماد من الخطو الكؤود 
ضجَّ الضحى، واهتزَ بالفرحِ الوجود 
وكأن عشقَ الكونِ، كلُّ رعونة العشق الجموحِ 
حيث تظهر حركيّة الأداء الشعري من خلال الألفاظ المكونة للصورة (أطلّ، ضجّ، اهتزّ، رعونة، الجموح)، وهذه الألفاظ لم تأتِ منبتة عن بنية النص الشعري، بل متسقة مع المفردات الأخرى التي زادت من شعريته، لوجود علاقة اللامجانسة بين الفعل وفاعله (أطلّ طيفك، ضجّ الضحى، اهتزّ الوجود)، وذلك بانزياحات إسنادية كسرت بنية التوقعات، وأكسبت النص شعريّة واضحة، امتدت إلى انزياحات نعتية لم تنفصل عن نطاق الحركية الشعريّة التي هيأت لوصف العشق بالرعونة والجموح. 
قد تُخرج هذه الصور الحركيّة الأبيات عن نطاق التجربة العاطفية إلى تجربة نضالية أوسع تخترق حاجز الزمن، وتبشر بالثورة المنتظرة.