د. محمد عبدالله القواسمة كانت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) موفقة في اختيار الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار) رمزًا للثقافة العربية لعام 2022؛ فهو من ناحية يتفق مع اختيار مدينة إربد عاصمة للثقافة العربية في هذا العام، كما يتفق مع ما يتميز به من صفات إن على المستوى الإنساني أو على المستوى الإبداعي من ناحية أخرى. فقد شهدت إربد ولادة الشاعر عام 1899، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي. وكان فيها مثواه الأخير، فقد توفي عام 1949 في المستشفى الحكومي بعمّان، ونقل جثمانه بناء على وصيته ليدفن في تل إربد، وقد ظهرت الوصية في قصيدته «بقايا ألحان وأشجان» تقول الوصية: يــا أردنـيـــات إن أوديــت مـغــتـربــــا فـانـسـجـنـهـا بـأبـي أنـتـنّ أكــفـــانـــي وقلن للصّحب: واروا بعض أعظـمه في تلّ إربد أو في سـفــح شيحــان وهو يعلن في قصيدة أخرى انتماءه إلى مدينة إربد: قالوا تدمشق قولوا ما يزال على علاته إربدي اللون حوراني وهو لا ينسى انتماءه إلى وطنه العربي وانغماسه بالهم العربي وبخاصة الفلسطيني، كما يبدو ذلك في أبيات ألقاها في مدرسة إربد الثانوية بحضور فرقة كشافة من طولكرم، أيام الانتداب البريطاني على فلسطين: إني أرى سبب الفناء وإنما سبب الفناء قطيعة الأرحام فدعوا مقال القائلين جهالة: هذا عراقي وذاك شـــــامي وتداركوا بأبي وأمي أنتم ُ أرحامكم برواجح الأحلام فبلادكم بلدي وبعض مصابكم همي، وبعض همومكم آلامي ! أما صفاته الإنسانية، التي كانت وراء اختيار المنظمة له رمزًا للثقافة العربية فتتمثل في تمجيده الحرية، وسعيه لتحقيقها له ولغيره، ومناصرته الفقراء والبسطاء؛ إذ ينتقد رغم صلاته القوية بالأمير عبدالله الملك المؤسس للمملكة الأردنية الهاشمية ثراء الأقلية من الشعب على حساب الأكثرية، ويعلن انحيازه إلى هذه الأكثرية الفقيرة، يقول: أوَما تراني قد شبعت على حساب الأكثريّة وأكلتُ بسكوتا وهذا الشعب لا يجد القليّة.. ولبست، إذ قومي عُراة، غيرَ ما نسجت يديّه. يعجب شاعرنا بمجتمع النور، فيرى أنه مجتمع مثالي، ونموذج للبساطة والعدالة والمساواة، ويتمتع بالاستقلال والحرية، ولا يعرف الحزن والحقد بل الفرح والطرب؛ لهذا فهو يهرع إلى خرابيش النور التي يجد فيها المساواة والبعد عن الأنانية، ليريح نفسه من كل ما يزعجها، مبتعدًا عن مجتمع المدينة، الذي تغيب فيه العدالة والحرية والمحبة، ويكثر فيه الطغاة والجباة والقضاة الفاسدون والقتلة. بين الخرابيش لا عبد ولا أمة ولا أرقاء في أزياء أحرار ولا جناة ولا أَرض يضرجها دم زكي ولا أخاذ بالثار ولا قضاة ولا أحكام أسلمها برداً على العدل آتون من النار ولا نضار ولا دخل ضريبته تجنى ولا بيدر يمنى بمعشار يدرك عرار قيمة الحرية؛ إذ يُروى، أن النور، عندما كان كاتب العدل في محكمة بداية إربد تعرضوا لمضايقات السلطة، وقررت إبعادهم إلى مناطق نائية، وقف إلى جانبهم، وأصدر كتابًا لزعيمهم ورد فيه: « إلى شيخ النَوَر: أنا مصطفى وهبي التل الكاتب العدل في محكمة بداية إربد، استنادًا إلى الصلاحيات المخوّلة لي، أذنت لكم أن تسرحوا وتمرحوا وتشطحوا إلى أي مكان تشاؤون وفي أي زمان تشاؤون». وقرن هذا الموقف العملي بموقف آخر من صديقه الهبر زعيم مجتمع النور، الذي يعده نموذجًا للبساطة والفرح؛ فقد دافع عنه عندما شكا إليه ذلك الجندي، الذي منعه من مقابلة المدعي العام في إربد لأنه نوري حين جاء ليراجعه، أي المدعي العام في قضية رجل من جماعته. إنه يدرك أن الحرية مرتبطة بالعدل، وتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع مهما كانت أعراقهم وأصولهم وثقافتهم. هنا ينظم قصيدة» العبودية الكبرى» يخاطب فيها المدّعي العام يطالبه بإعادة الاعتبار لصديقه الهبر: يا مدعي عام اللواء وأنت من فهم القضية الهبر جاءك للسلام فكيف تمنعه التحية ألأن كسوته ممزقة وهيئته زرية أما عن الأسباب الإبداعية في اختيار عرار رمزًا للثقافة العربية عام 2022 فتعود إلى أنه من رواد الحداثة الشعرية العربية، فهو من أوائل من نظم قصيدة التفعيلة مع نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري. وكانت قصيدته التي عنوانها «متى» التي ظهرت عام 1942 قد سبقت قصيدة «الكوليرا « لنازك الملائكة بخمس سنوات. يقول فيها: متى يا حلوة النظرات والبسمات والإيماء والخطر متى أملي على الآلام والحدثان والدهر أحاديث الهوى العذري متى؟ من لي بأن أدري كما يستحق أن يكون رمزًا للثقافة العربية لأن موضوعاته الشعرية تنحاز إلى بسطاء الناس، وتتجاوب مع أحلام الفقراء والمضطهدين والبؤساء، وأن عالمه الشعري قريب من روح الشعب، يتميز بلغة تطفح بالكلمات المتداولة، والأمثال الشعبية، والمفردات العامية، ويتزين بالصور الواقعية والرموز الواضحة، ومشحون بالأفكار المتمردة والثورية، يضاف إلى ذلك أنه من الشعراء القلائل الذين تتطابق حياتهم مع شعرهم، فلا نلمس تناقضًا بين ما فعله في الحياة وما قاله في الشعر. لا غرابة وهذه الميزات السابقة التي يتحلى بها الشاعرمصطفى وهبي التل (عرار) وشعره تؤهله كي يكون رمزًا ليس للثقافة العربيةوحدها بل للثقافة الإنسانية عامة؛ فما عبر عنهفي شعره وما أظهره في مواقفه السياسية والاجتماعية تجعله مثالا للإنسان البسيط الذي تتطابق حياته وفنه.