افتح يا موسى الباب. فـأنا الطارق، بعد غياب، وهذا ثمن السكن، في بيت آخر من الشِّعرِ، لا من الشَّعر.
إن الشاعر، لا يدخل أو يخرج، كالساحر، عبر الأبواب الموصدة، بل إنه يطرق صورة الباب في ذهنه، قبل وجوده في صلب الجدار. فيوجد.
كنتُ أعرف العنوان. فأنت الذي علّقته كنيشانٍ على صدر ديوانك المعنون «سلالتي الريح.. عنواني المطر...». ولقد ترجمت القصيدة التي حملت هذا الاسم، إلى الفرنسية. لمَ لا؛ وقد برعْتَ أنت من قبل، حين ترجمتها، من لغتك الذاتية، إلى لغتك القومية. فحظيتْ بإعجاب كل منصف وتقدير كل مستنير. لتنال عليها، لاحقاً، بجدارة، جائزة الريشة الفرنسية.
إن الريح يا موسى، هي التي ترعى قطعان الغيوم، وتكثّف المعنى. فتنهمر منه الصور..
ألم تسمع قلبك الناقد وهو يقول بصوتك المشبع برائحة التراب: عنواني السماء؟
والمطر شعرٌ تؤلّفه الريح.. ثم تبعثه السماء إلى الأرض، كرسالةٍ من ماء..
أما أنت، فقد أرسلت صوتك الشعري، الشجيّ، بعيداً، ليخطب ودّ الكناية.. قبل أن تعود وترسله من جديد، ليطلب يد الاستعارة.
وأنت من جلبت المحاكاة، من موضع الاختلاف عليها، بين أرسطو وأفلاطون، قبل قرونٍ.. ثم أوقفتها أمام مرآة الحياة، على قدميك، لترى نفسها فيها، ولنعرفها نحن فيك.
بقلبك الخافق العاشق تصغي إلى جوقة الحواس وهي تعيد مطلع النشيد الأنوي:
أنت والبيان توأمان.
تلك هي حواسك السبع، التي تغوص في يمّ الهمّ الذاتي تارة، والجمعيّ تارة، كالحوريات المسحورات، ثم تقفز منه إلى الشاطئ وهي تنتفض، فتنثر قطرات الماء السنيّة، كشظايا الكريستال على الرمال.
تشيح الحياة بوجهها عنك، وتدير لك ظهرها العاري، لأنها لا تريد أن تنظر في وجهك. فترى فيه لائحة اتهامٍ صريحة، بتواطئها مع المجهول، ورضوخها، أمامك، لجبروت الموت. وفي معرض نفورك منها، تحكي لنا بأسىً عنها:
».. ولكي تبدو عادلة.. تتخفّى وراء حكمةٍ لا تريد أن نعلمها».
الشاعر، أيها الشاعر، مصوّرٌ غير فوتوغرافي، وعينه أكثر جرأة وقدرة على أن تتجاوز دورها المعتاد، فتكسر حاجز البصر، لترى ما لا يُرى. أما الصورة الشعرية، فهي الابنة الشرعية لقريحته العصيّة على التعريف، والتوصيف، والتكييف.
الشاعر، تدري؛ يعرف كيف يكتنه الأشياء.. وهو خير من يسميّها بغير أسمائها.
إنك تستشعر المنظر. فتُشعرنا بما وقع، وكما وقع، في نفسك منه.. وتستجيده. فتُجيد وصفه، وعطفه، على هيئة ما تراه.
وعلى سلّم الإيحاء، تصعد بالخفاء، إلى سدّة البلاغة، لتلقي علينا، من هناك، أشعاراً، وأزهاراً، ونجوماً، وأقمارا...
أما نحن، فعلى سلّمٍ آخر، هو سلمّ موسيقى شعرك الداخلية الخفيّ، نصعد إلى سدّةٍ أخرى، هي سدّة الأفق، حتى نمسك بيدك النجوم.
وبمغزل التشبيه، تسلت خيوط الإحساس الحريرية، لتنسج منها لوحاتٍ شعريةً مُعجِبة، يندف فيها الثلج، على ملامح الصيف، فيخفيها، وتشرق فيها الشمس من حلكة الليل، فتنفيها.
إنّ التشبيه هو جرس التنبيه، الذي يهزّه شاعرٌ مثلك، بيده الثالثة، فيوقظ به الجمال النائم، منذ حين، في نفوس المتلقيّن، من غير القابضين على جمر الشعر.
لم تكن مقسوراً يوماً على أن تدخل من باب علم الجمال إليه، بل إنك، وكما في كل مرّة، تقفز من الشباك، لتعانقه هناك، ثم تمضي وإياه إلى غايتك البعيدة.. كرمى لعيني كل قصيدةٍ جديدة.
قل ما تشاء، عمّا تشاء، كما تشاء..
أطلق خيول الخيال خارج المضامير.. ثم انظر بعدها، كيف ستخلّف وراءها، سحباً متناسلةً من غبار التذكار...
يا قائل هذي الكلمات: «ماضيَّ.. حاضري.. وغدي مات.. ولستُ حريصاً على فرصةٍ للنجاة».. في أي عالم بتنا نعيش والواقعُ الذي كان يلاحق الفانتازيا أصبح الآن يسابقها؟!
أما صدعتَ يوماً بقولك: «إنهم يبحثون عن حبيباتهم بين الأسطر.. وعن أطماعهم داخل الجمل"؟
ما زلتَ تحاول أن تعيد إنتاج وجودك على عين وطنٍ طالما رأيته معلّقاً على الحائط، في خريطةٍ معدّلةٍ، لأرضٍ أضحت أكثر بكثيرٍ من محتلّة.
تبقى المرائي مستنفِرة، بانتظار أن تغسل مقلتيك، في نهر البصر..
وتظلّ المدارك متحضِّرة، ومشرّعةً أبوابها على مصاريعها، لحكمة التعبير، بأشعارك، عن فكرة الأثر..
لن أقول لك تمهّل. فمن حقّك، كأيّ شاعرٍ مغامر، أن تجرح إهاب الصفحات بحروف الكلمات. فينزف منها المغزى منها.. ويسيل التأويل، مندفعاً إلى خارج القصيدة، نيابة عنك، وكنايةً عنها..
ولكن، احذر موسى، أن يمكر بك شيطان الشعر. فينكسر شعور القارئ حينما يعبر فضاء النصّ المدوّن، كما ينكسر شعاع الضوء، عندما يخترق كيان الماء الملوّن.
يا صاحب «الجسد الذي وهبته للبحر، والرداء الذي وهبته للقصيدة»، إنك وإن كنت مثلك، فالصحفي والشاعر فيك؛ كلاهما يحترف الكتابة عن الحياة، بأمّ يديك.. لكن الأول يكتب ليعيش، كما تريد الحياة.. أما الثاني، فهو يعيش ليكتب، كما تريد أنت.
على أنّ الصحافة، في ذاتها وسماتها، حتى لو سقطتْ يوماً من عين الحرية. فهي أكبر مرآةٍ عاكسةٍ في تاريخ البشرية.
طيوف الضيوف القادمة معي، إليك، طالما حمّلني أصحابها، أمانة نور السلام على عينيك..
ستخبرهم، إذن، حينما تراهم، فيما أقول، عن شبيهك، الذي صنعته من صلصال اللغة، ودفعته إلى متن القصيدة، التي حملتْ وسم «شبيهي»، بينما أنتما تحتسيان القهوة الخالية من السكّر معاً، في شرفةٍ ناهدةٍ، من أعالي قصيدةٍ أخرى، قاتمة؛ سميّتها -رغم أنف نهاية الحكاية السعيدة-: «بومة على شرفة القصيدة»
شاهدٌ أنت علينا، ونحن نشاهدك، ونرى كيف تلخّص البحر بقطرة ماء، والحبَّ بوردةٍ حمراء، والنكبةَ بخيمةٍ في العراء، والصمتَ بآلةٍ موسيقيةٍ خرساء، والموت؛ حتى الموت، بمصافحةٍ مهيبةٍ، بين القدر والقضاء.
الدلالات يتقافزن كالغزالات، في مدى إحساسك بهنّ، وهنّ المحظيّات، اللاتي استحوذن بعين رضاك عنهنّ، على قلب المعنى.
قد يحدث أن تقابل عازفة السيمياء الحسناء، سرّاً، أو جهراً، خارج المعجم. فتهديك تنويعةً من ألحان الزمان البديعة..
أما أنت، فتهدي لنفسك، كل ما يعنيك في تلك العازفة؛ سفيرة جراحك النازفة.. قبل أن تهديها زجاجة عطرٍ فارغة، ولكن، ليس من ذلك المعنى.. مضافةً لخوفك عليها، من وعورة الطريق إليه.
"على منعطف الحلم» تقف، هناك، في «مرمى النار»..
ألم أقل لك من قبل، يا رفيق يراعك، في طريق إبداعك، ويا أخ الذاكرة الأسيرة، والخيال الحرّ:
أمّك هي اللغة، وأبوك هو الشعر؟
وها أنت ذا، تناجي الشعر، وتناديه: يا أبي الروحيّ. فيطاوعك التخييل، بأمره، لترفع الغطاء، في إحدى قصائدك، عن «جهالة الحكماء"!. فقل لي، بربّك، كيف التقطت بقلبك، صورةً شعريّة يحتلها «موتي يجرّون السماء"؟!
لقد أطربت الحياة، وأعجبت الممات، وأنت تحثّ الخطى، إلى آخر قصيدة «حين يأتي الموت»، لتصرّح من هناك -قبل أن تصالح الأمل-: «إنني عائدٌ مني للأزل».
كانت الوجودية، في نظرك، وشعرك، امرأةً نرجسيّة الجوهر، سيريالية المظهر، حبلى بكائنٍ مؤسطَر. لكنها لم تنجب، أخيراً، على يد قابلةٍ محاذرةٍ وعاقلة، سوى صورةٍ مصغّرةٍ، عن ذلك الفرق المحيّر، بين ما تراه في نفسك، وما تتمنّاه لها.
آه يا فتى «السمُّوع» الطالع مثل قمر الحصاد علينا.. فرط حنينك إلى ما كان، كفرط الرّمان، في أيادي الأمهات الحرائر، اللواتي طالما أضأن، بوجوههنّ المشرقة، كشمس صباح بلادنا، عتمَ الفهم في دواخلنا، وظلام الوهم من حوالينا..
ألستَ أنت القائل، في خاتمة «اللعبة"؛ لعبة الحياة على هذا الكوكب، وعنها:
«واللعبة من نار.. واللاعب من نور.. والكون ضحيّة هذا اللعب المسعور»؟!
ألم تقل هذا. فبدا، فيما نرى، كنطاقٍ مشتعل، حول خاصرة الشعر المذكور؟!
ها أنت
تمشي، وحدك، متّجهاً إلى حديقة الزهور السماوية، التي تعزف فيها أوركسترا الطبيعة، سيمفونية الحرية.. ثم، وعلى تلك الخلفية الموسيقية، تقف كالألف، مردّداً:
«ما زال الإنسان يفتّش عن سرّ النون.. وباب البيت المهجور».
كأنّ، بل إن الوطن السليب، في فضاء إحساسك بما آل إليه، بات مختزلاً، في ذلك البيت.
فيا الله، ما أصعب المرور بوطنٍ، يأخذ شكل بيتٍ مهجور.
أنت الذي أزحت ظلال الاحتلال، عن تضاريس وجهك، بأصابع الخيال، لكي ترتاح..
والشعر يا موسى انزياح.
والعربي، بما هو في ذاته، وكما هو حالنا نحن، ما انفكّ يهرب من شبح المجهول، المتراقص كالظل على عتبات المستقبل، متحفّزاً للقفز من عربة الحاضر، في قطار الزمن السريع.. قبل أن يمضي، من جديد، لاجئاً إلى خيمةٍ زمانية، لا مكانية، منصوبةٍ، كأيّ مفعول به، هناك، في ركنٍ قصيٍّ، فوق أرض الماضي البعيد.
كان مؤلماً جداً، ودائماً، أن تقف حيالك، وتمسك بياقة قميصك، بيدك، مسائلاً إياك باستنكارٍ يلفّه السكون:
من أنا.. ومن أكون؟!
تلك هي معضلة الهوية الجدلية، يا من ذهبت قبل عامٍ إلى اسطنبول، لتقول:
«كل الأصدقاء الذين صادفتهم أصداء.. كل الذين أحببتهم أسماء.. أما أنا.. فعلى خُطاي أسير.. لا وطن لي.. ولا شارع يعرفني..»
لذا، لم يكن بك حاجة لأن تتسلّق جبل المنطق الشاهق، حتى تصل إلى قمّته المناطحة للغيوم، ثم تهبط من هناك، حاملاً في جعبتك، أول مبادئه العقلية: مبدأ الهوية الذاتية.
لقد نحّيتَ، غاضباً، ذلك المبدأ، جانباً، وحبستَ مفهومك الغائم، لفنّ الممكن المرتمي، في حضن السياسة، بين جدرانٍ اعتبارية، لمكان انعدام الشعور بالأمان.
ورحت تقتصّ أثر الهوية، في كل ما يصادق عليه فؤادك المتوقّد، من أشعارٍ وطنية.. وفي عيون الأطفال الذاهبين بها، مع شكلٍ آخر للأمل، إلى المستقبل.. وفي شجر الزيتون المعمّر، أكثر مما يظنّ الطارئون على موضعه الصحيح، من جغرافية هذه الرقعة من الأرض وتاريخها.. وفي مسلّة ميشع، ونقوش الحجر التحقيبيّة، واللغة المحكيّة الذكيّة.. وفي حكايات الجدّات، الممتوحة من أعماق بئر الذكريات.. ومفاتيح البيوت العتيقة، العابقة برائحة الجنة.. وفي صوت الأذان وصداه، وهما يتردّدان، بين مسرى سيدنا «الماحي» وحرم خليل الرحمن.. وفي هواء الجليل?العليل، الذي يهبّ، من جهة الغرب، بأمر الربّ.. وفي دم الشهداء، الذي يشقّ طريقه، متدفّقاً على بصيرة، بين الماء والماء.. وفي الأيقونات الرامزات، لمشروعيّة دفاع المضطَهدين عن الذات، وقدسيّتها.. وفي وقفة الثوّار الأحرار، على خط النار.. وفي خطى العائدين إلى أنفسهم، عبر النهر الخالد، وهم يشربون النور بيد المسيح من كأس النهار.. وفي حياء العذارى المارّات، بخاطر السوسن والدحنون، على مرمى زهرةٍ بريّةٍ، من نبعة الأسرار.. وفي شروق الشمس مع تنفّس كل فجرٍ وليدٍ جديد.. وفي نفخة الله من روحه، في طين الجسد، في كبد.. وفي أحل?م اليقظة والمنام.. وحتى في صمت القبور، وشواهدها المغروزة كالفواصل، بين جمل الموت المفيدة، في ملحمة الكلام..
لم تسمح لشعرك، أن يسبح، بحضورك، في بحر الفلسفة الزاخر، لكنك أتحت له بأن يقف معك على الساحل، حتى تلتقط لكما الشمس، هناك، صورةً تذكارية، مطابقةً لرأيها المضيء فيما تراه.
وقبل أن تغيب وراء الجبال، تضعها تحت تصرّف الخيال، فيحملها على جناح السرعة، دون شروطٍ أو قيود، ويوصلها، في نهاية المطاف، إلى معرض الوجود.
لقد كان عليك، بعد أن سقط حلمك على الأرض، من بين يديك. فانكسر.. أن تركب عربة النوستالجيا الذهبية، التي تجرّها خيول الحنين العربية، لتعود بها إلى مكانك الشاغر، من الإعراب، في جملة الماضي المعاصر!!
صحيح، أنّ الصمت، في عرف العاقل، فضيلة، ولكن فنّ الخروج عنه، أحياناً، قد يُعدّ شكلاً نبيلاً من أشكال البطولة.
آه، الآن تذكرت أن أسألك: لماذا حكمت على ابن حزم الأندلسي، بأن يُشنق بطوق الحمامة؟!
تلك الحمامة، التي طارت، بإشارةٍ من يدك المبصرة، إلى خارج فضاء قصيدة «الفلامنجو»، التي رقصْتَ فيها، مع الدنيا، على الجراح؛ رقصة الموت في حب شهرزاد. بينما يكاد قلبك يتوقف كلما سكتت، في حضرة الصباح، تحت حدّ السيف، عن كلامها المباح.
بيدَ أنك، فجأة، دُسْتَ على أصبع قدم الدنيا. فصرختْ في وجهك العابس. فهوى قلبك من صدرك، لكن، إلى الأعلى؛ لا خوفاً من سطوتها، بل دهشةً مزرية من تقلّب مزاجها، وذهولاً معوداً من جحودها المعهود.
أهو الحب العذري، حينما ينقلب إلى غضبٍ ناري.. أم هو الهروب، عبر جسر الشعر، من محنة احتلال الأرض، والسماء، والذاكرة.. إلى محنة الخروج الأخير، بعد سقوط الأندلس، في يد الإسبان، وعلى يد أبي عبد الله الصغير؟
إسبانيا لم تعد تلك الأميرة الجميلة، النائمة فوق سرير (الأرض التي تغرب فيها الشمس)؛ كما تُدعى. لقد أيقظها صوت المدافع، على مرأى من عين الشمس الغاربة، هناك، وراء الماء، وتحت نظر القمر الهارب من السماء.
فيا سميّ كليم الله، يا من تمشي بخفّة رفّة الرمش، على سطح بحر الشعر، مفتّشاً في صفحته، عن صورة عصاه.
أنت الذي صدحت يوماً معلناً:
"أشاركُ غرناطةَ الحزنَ.. أمشي لها عارياً من ذنوبي.. نقيّاً.. بلا سفنٍ أو خطبْ».
لكنك، أيها الفارس الكنعاني، لم تفتأ توزّع الأدوار، شعراً، على رمال مسرح الصحراء، وتحت سماء العرب...
أجب إذن، متى ستغرب شمسنا السوداء؟!
تقول بأن «الوقت يتسلّى تحت نافذة الزمان».. فعاجله، إن شئت، بلفافة تبغٍ، وانتظر قليلاً، حتى ينفث في وجهك، غير المحايد، الحزن، والشكّ، والدخان...
ليس هذا هو الجواب، أدري، بل هو ما تبوح به لنفسك، على مسامع الآخرين، وتحت مدامعهم.. وأنت تعرف بأنك تخاطبهم فيها -نفسك- بأمرٍ من قلبك، المعلّق، بمشجب الحب. حب كلّ ما يعنيه لك البلد، إلى الأبد.. وكأنك تخاطب شخصاً واحداً، فينا، اسمه اللأحد.
فيا من تحاول، منذ عصورٍ خلت، أن تصطاد صورة إحساسك بالحرية، من بحر الشعر الحرّ..
انظر إلى الفصحى، وهي تتعرّى، في مرمى مسمّى يديك، لكي تستحمّ بنور الشمس، على رمال الشاطئ، ضاحكةً لصمتك المفاجئ، الذي يعانق صورتها المثيرة في عينيك.
ربما تختلف مع نفسك: مَن يمسح العرق عن جبين المرحلة؟
فتقرّر أن تسافر، حاملاً معك أسباب ذلك الاختلاف، ولكن، ليس في حقيبة السفر.
وفي المطار، سوف يكون في استقبالك، كل من كان في وداعك، بأمرٍ من سلطان الوجدان؛ ذلك المتربّع على عرش المملكة الذاتية للكتابة الشعرية، التي يدعوها «العقلاء» من الشعراء: سيكولوجية التعبير.
وعلى إيقاع الدافع، إلى تمثّل الذات الشاعرة، في الواقع؛ نراك مقبلاً علينا، مِن فائض الوعي، وفورة الشعور.. حاملاً في قلبك المدرّب، على رياضة الحب، خارطة الطريق إلى ما وراء الأشياء... فتصل بين الفطرة والخبرة، بخيطٍ من دمك.. وتدعو الإلهام، بلا ربطة عنق، إلى طعام العشاء.
إنك لا تروم ذلك، كما يمكن أن يفعل سواك؛ تعلّقاً منه بحبالٍ ميتافيزيقيةٍ مختلقة. بل إنك تتغيّاه، إصراراً مضمراً، على حجاجك المضني مع الواقع، وإعلاناً سافراً، لاحتجاجك العارم على ما يجري فيه.
وأنت الذي ما زلت تبحث، عن عالمٍ آخر، فيه خبزٌ، وحبٌ، وعسلٌ، وأملٌ، وعدل..
وفيه قمرٌ، وبحرٌ، وشجرٌ، وزهرٌ، ومطرٌ، ونهرٌ تجري فيه الحياة رخيّة، على صورة الماء..
وفيه شمسٌ وفيّةٌ، تشرق على وطنٍ، كظل الزمن، تحضنه الأرض، وتحنو عليه السماء.
لا تنسى، يا موسى، بأنك القائل فيما هو مقبل: «شجري أعلى من سور المنزل».
أرأيت، كيف أنك لم تزل تأبى، إلا أن تكون طفلاً في هيئة رجل؟!
لا تغافلك العبثية -نعلم مثلما تعلم- حينما تطل برأسها، من شبابيك نصوصك الشعرية.
ذلك أنك تفتح تلك الشبابيك العالية، لتطل منها على وطنٍ مرتهنٍ، لعدوٍّ فاشستيٍّ شوفينيٍّ، يحرس بالبارود والنار، خرافة عنوانها (الأخيار والأغيار).
ثم ترمي بكرة بصرك النارية، في مرمى الحياة القصيرة، والقاصرة عن مجابهة الموت.
هكذا، دفعةً واحدة، معترفاً بهزيمة الكفّ البيضاء، أمام المخرز السام؛
تتجرّع كأس اليأس، وتصرخ في وجه هذه الحياة، الذي باتت قسماته، أشبه بتضاريس المقبرة، قائلاً بتفجّع وتوجّع:
"سأمضي إلى العدم».
كيف لا وقد رسمتَ النار على جدار النهار، فاحترقتْ أصابعك، فصِحْتَ ألماً وشعراً:
في أول الدرب الصعب، كنت سجيناً خلف القضبان، لكن السجن الأكبر، هو الظلام الذي يخلّفه انطفاء سراج المعنى؛ معنى أن تكون أنت، وأن يكون الشعر هو روح الشاعر فيك، وأن تكون الحرية هي روح الإنسان.
أرى إليك، وأنت تعود، ولكن، ليس كما كنت، من القاهرة، حاملاً سرّ مصر المعجون بسحرها، بيد، وبالأخرى، موجزَ أنباءٍ شعريّاً، عما جرى.. غير أنك لا تفعل قبل أن تقنع جمهور الحاضرين هناك، بأن حاجز الصمت، قابلٌ للكسر، وأن الشجر، في الشعر، ينام ويصحو، وأن الأعمى به يرى!
ثم جاءت إلينا قصيدة (يَعبَد) وهي تمشي على قدميك..
«فألقيتَ جسمك، فيها، خلف انتباهات الحرس..».
وأنت الذي كنت تلقيها، كما جاء فيها، تحت الجانب «المرئي من صوت الجرسْ».
المسافة بينك وبين «يعبد»، كانت تساوي المسافة بين إصبعين في كفّك، لكنها اليوم، أبعد عنك من أي نجمةٍ في سماء البلاد.
تلك البلاد؛ أتذكرها؟! هي لا تُنسى، لكنك ربما تريد أن تسمع صدى هذا السؤال، بعد أن ترتدّ إليك صورته، قادمةً من مرآة إحساسك المجروح، بغربة الجسد، وغيبة الروح.
بخطوةٍ واحدةٍ، كنت تقطع نهر الأردن، الفاصل بين عينين عالقتين، في وجه الأبجدية، منذ الأزل.. أما الآن، وعندما تطارد المجاز، كعادةٍ غير معتادة، في براري الشعر وصحاريه.. فأنت تحتاج، من أجل أن تفعل ذلك، إلى السباحة بين الضفتين، المتصافحتين بجسر، لأكثر من شهر.