أُسَيْد الحوتري رواية (الهامش) الصادرة عن داري ضفاف والاختلاف في (2020) تقدم صورة لتداخل العلوم وتماشجها. فهي رواية أدبية قائمة على فلسفة اللاأدرية التي لا تؤمن بالغيبيات ولا تكفر بها، كما وأن الرواية مرتبطة بالمدارس الفلسفية الوجودية التي تبنّى حازم، الشخصية الرئيسة في الرواية، أحد أشكالها، ويبرز في حياة حازم قلق نفسي أصله أسئلة وجودية كبرى لم تجد إجابات شافية: من أين أتيتُ، وماذا عليّ أن أفعل، وإلى أين المصير؟ وسرعان ما تتحول هذه الأسئلة إلى مخاوف عدة تستلم دفة القيادة وتسيطر على حياة حازم تحت عنوان «قلق وجودي»؛ وهنا تكون الرواية عبرت حدود الفلسفة: اللاأدرية والوجودية، لتصل إلى علم النفس والتحليل النفسي، ويؤكد طبيب حازم التأثير المّرَضيّ للرغبة الملحة في أمر ما والعجز التام عن تحقيقه، فيقول مخاطبا حازم:» كل من يترك حلم «تغيير العالم» يسيطر على وعيه، سيصاب بحالة صعبة جدا...» (سامح 18). ومن علم النفس تعبر الرواية إلى عالم الطب النفسي الذي يصف الأدوية والعقاقير ويغيرها من وقت إلى آخر بحسب الحالة المرضية. فما هي مآلات فلسفة اللاأدرية على حياة حازم، وكيف أثرت العلوم الأخرى المذكوة سابقا سلبا أو إيجابا على حياته؟ لقد كان حازم لاأدري :(agnostic)من أتباع فلسفة اللاأدرية. عندما سألت لهيب العراقية حازم عن إيمانه قال: «بصراحة، هذه من أكثر القضايا اللي شغلتني في حياتي؛ يعني سؤال الإيمان، الدين، الله، الآخرة. مش عارف لحد الآن - هل أنا مؤمن أم غير مؤمن. باختصار، أنا غير قادر على الإيمان، وبنفس الوقت عاجز عن رفض الدين، وكل معطياته، وأسسه، وأسباب وجوده» (159). ومن هنا بدأت تظهر عند حازم أولى علامات القلق الوجودي بسبب تبنيه لفلسفة اللاأدرية. فحازم لا ينكر وجود الله والدين لكنه لا يؤمن بذلك، إنه يقف على حد فاصل بين الكفر والإيمان، وفي هذا الحد لا وجود لمعاني الحياة ولا وجود للأجوبة التي تطرحها الأديان على الأسئلة الوجودية الكبرى. هذا جعل من حازم وجوديا، عن وعي أو عن غير وعي، مع ذلك يبدو أن حازم رفض المعنى الموروث للحياة دون أن يجد معنى شخصيا مقنعا وهذا ما أدى بحازم إلى الوقوع في مستنقع الخوف من غياب معنى حقيقي للحياة. وهذا الخوف هو الأساس الأول الذي يقوم عليه القلق الوجودي، بحسب ما ذكرته الطبيبة النفسية (تريسي مارك) Tracey Marks في قناتها على منصة (اليوتيوب) في الحلقة التي تحمل عنوان: ما هو القلق الوجودي؟ What is Existential Anxiety? لا يتوقف خوف حازم عند غياب معنى الحياة بل يتعداه إلى الخوف من الموت أيضا. ذلك الموت المنتشر من حوله انتشار النار في الهشيم. فالاحتلال الأمريكي للعراق عام (2003)، وما نجم عنه من قتل بالجملة كان له الأثر البالغ في زرع شبح الموت في نفس حازم. لم تكن هذه الحرب هي السبب الوحيد لخوف حازم من الموت بل سبقتها أحداث دامية عدة منها: احتلال الكويت عام (1990)، وغيرها الكثير. ولهذا الموت الخارجي الذي هزّ كيان حازم صورٌ داخلية محلية عايشها بنفسه، جعلت من خوفه من الموت حالة مرضية. فها هي نورا ضحية جريمة شرف ارتكبت في الزرقاء، تُقتل على يد شقيقها وعمها، «هكذا رُميت نورا على الرصيف نازفة حتى الموت» (50). أما وليد ابن الجيران فقد مات منتحرا، «وجدوه معلقاً على عمود الكهرباء المقابل لمنزله؛ تسلل خلسة عند أذان الفجر، وشنق نفسه بحبل الغسيل» (50). وتستمر عجلة الموت في الدوران لتنتقل من الزرقاء إلى عمّان، حيث يهاجم تنظيم القاعدة ثلاثة فنادق، ليكون القتل هذه المرة جماعيا، إنه الموت من جديد، «إنه الموت الذي طعن عمّان في تلك الليلة وغطاها بالسواد الدامس» (66). يصل حديث الموت إلى بيت حازم، فهذا والده «بات يتحدث كثيراً عن الموت ليُذكّر به وبما ينتظرنا بعده، وعن علامات الساعة...»(25). هذا هو الرواي العليم يخبرنا أيضا بأن سؤالا وجوديا مرتبطا بالموت كان يراود حازم لسنوات عدة: «هل الموت ضعف وانكسار أم قوة وانتصار؟ راوده مثل ذلك السؤال الوجودي كثيرا على مدى سنوات، وبصورة مكثفة بعد آخر نوبة اكتئاب أصابته» (60). وهنا يُلحظ أن نفس حازم، وكآلية من آليات الدفاع النفسي، باتت تصور له بأن الموت الذي يخاف منه، غير مخيف ولا يمثل الانكسار والهزيمة أبدا، بل وعلى النقيض من ذلك، فقد يكون قوة وانتصارا. كل ما سبق يؤكد أن حازم كان يخشى الموت، والخوف من الموت هو الأساس الثاني الذي يقوم عليه القلق الوجودي. أما الأساس الثالث لهذا القلق فهو الخوف من الحرية ودائما بحسب الدكتورة (تريسي ماركس). فهل كان حازم يخشى من الحرية حقا؟ يصرح حازم بخوفه من الحرية وقلقه منها، ففي معرض حديثه عن شقته التي استأجرها في الشميساني يقول حازم: «البيت الضيق ستأتلف فيه حياة شخصية هادئة لا يعوزها التبصر ولا التفكير العميق في ما سيأتي، ورغبة في الحرية حلم بها وسلبتها منه الظروف، وآمال راودته طويلاً، وبوهيمية لا تصل إلى التفلت تماماً، تفلت لم يكن قد أعد نفسه له، وحرية لا يخلو التفكير فيها من قلق» (39). هنا يصرح حازم أن حريته المنشودة «لا يخلو التفكير فيها من قلق». ولكن لما القلق؟ القلق سيكون من الأفعال التي سترتكب باسم الحرية، والتي سيتحمل صاحبها تبعاتها. فالحرية مسؤولية، وهنا يكمن القلق. الإنسان الوجودي بطبيعته قلق لأنه هو المسؤول عن اتخاذ قراراته، وهذه القرارات هي التي تحدد ماهية أفعاله، وأفعاله تأثر مباشرة على حياته، وعلى مصيره، وهذا حقا مدعاة للقلق. بالإضافة إلى الخوف من الحرية التي تجعل المرء يرزح تحت نير تحمل المسؤولية، وتجعل الناس يعانون من حرية غير منضبطة أحيانا أخرى، نكتشف أن حازم يعاني أيضا من خوف آخر، وهو الأساس الرابع والأخير من أساسات القلق الوجودي، إنه الخوف من الوحدة، أو العزلة، أو الوحشة، أو الشعور بالاغتراب عن هذا العالم. تُسَبّب الآلام الكبيرة والكثيرة الشعور بالاغتراب، فيقف المرء أمام نفسه مصدوما، ينظر إليها متسائلا: ماذا تفعلين هنا؟ وهذا ما تسبب به لحازم احتلال الكويت من قبل النظام البعثي (1990)، وما تسبب به أيضا احتلال العراق عام (2003)، بات حازم يشعر بعدم الإنتماء إلى هذا العالم الذي يضج بالموت والقتل والاعتقال والتعذيب وسرقة الحقوق، حتى أنه قرر الامتناع عن تناول الأدوية التي وصفت له جراء شعوره بالعزلة عن عالم ما عاد يرغب بالعيش فيه، يقول حازم: «أي فائدة لكل تلك الأنواع من الأدوية، التي ما زال بعضاها مكدساً في خزانتي، مرفقةً بشروحاتها وإرشاداتها. نعم، سأتصالح مع كآبتي إذا عادت؛ سأنتمي إلى قلقي لتهويماتي المرضية، فلا معنى أبداً للانتماء إلى عالم ينهار ويتداعى وأنا عاجز عن فعل أي شيء» (34). ويعترف حازم بوحدته فيقول:»هل يمكن أن يكون ذلك المكان البخيل عالمي الجديد؟ السرير لا يتسع إلا لجسد واحد وذلك البانيو، يذكرانني بوحدتي وبكل الضرورات الملحة التي أفتقدها» (39). ها هو السرير والبانيو يذكران حازم بوحدته، وبعزلته عن العالم، وباغترابه. ويؤكد الراوي معاناة حازم من الوحدة وذلك عند حديثه عن علاقته مع لهيب، «لكنه ظلَّ يجهد في إبعاد فكرة عدم قدرته على الاستغناء عنها ونسيانها، أو حقيقة حاجته الملحة لها في مواجهة صروف زمنه الكئيب، ومكابدة الوحدة والاغتراب، وثمة يقين راسخ هذه المرة بأنها ستغادر حياته ولن تعود...» (176). وهكذا كان حازم يحتاج إلى لهيب في مكابدة الوحدة والاغتراب، والعزلة، التي كان يعانى منها. وكانت نهاية الرواية الشاهد الأكبر على وحدة حازم وذلك بعد أن هجرته لهيب وسافرت. وهكذا يكون حازم قد عانى من خوف رباعي: خوف من حياة لا معنى لها، وخوف من الموت، والحرية، والوحدة والتي هي الأساسات الأربعة التي يقوم عليها القلق الوجودي. بالطبع فقد تفاقم هذا القلق عند حازم، وتدحرجت كرة النار حتى تحولت إلى حالة مرضية صعبة جدا من الإكتئاب الوجودي، يقول الطبيب لحازم مشخصا مرضه: «صدقني، كل من يترك حلم «تغيير العالم» يسيطر على وعيه، سيصاب بحالة صعبة جدا من الإكتئاب الوجودي» (18). هكذا تم تتبع مخاوف حازم الأربعة: خوفه من عدم وجود معنى للحياة، وخوفه من الموت، والحرية، والوحدة، التي تفاقمت وتحولت إلى اكتئاب وجودي حاد وهذه هي مآلات فلسفة اللاأدرية التي تبناها حازم والتي حرمته من أجوبة حاسمة لأسئلة الوجود الكبرى. لم يفعل الطبيب إزاء ما أصاب حازم إلا تقديم نصائح عابرة بالكف عن محالة تغيير العالم، ووصف العقاقير. كما أن حازم لم يسع أبدا إلى البحث عن إجابات تشفيه مما أصابه، في حين تؤكد الدكتورة (تريسي مارك) أن الشفاء من الاكتئاب الوجودي يتطلب البحث عن إجابات مقنعة للأسئلة التي تسببت في المرض. أما غياب هذه الإجابات فقد جعلت من حازم إنسانا على هامش نَصِّ الحياة، في حين كان من المفروض أن يكون هو النَّص وأن يكون الهامش كل ما سواه.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 28-07-2023 08:24 مساء
الزوار: 458 التعليقات: 0