|
عرار:
أ. د. سلطان المعاني يعتبر المكان في الشعر العربي الحديث عنصراً مهماً في بناء النص الشعري وتحديد معانيه ودلالاته. فالمكان ليس مجرد خلفية جغرافية أو تاريخية للشاعر والقارئ، بل هو مساحة تفاعلية تتشكل فيها علاقات بين الذات والآخر، وبين الماضي والحاضر، وبين الواقع والخيال. يستخدم الشعراء المكانَ كوسيلة للتعبير عن هويتهم وانتمائهم ومواقفهم من القضايا الإنسانية والسياسية والثقافية. كما يستخدمون المكان كمصدر للإلهام والإبداع والتجديد في لغتهم وأسلوبهم ورؤيتهم. في هذا الجزء، سنحاول استعراض أبرز الاتجاهات والمظاهر التي ظهر فيها المكان في الشعر العربي الحديث، وكيف أثَّر المكان على تطور الشعر العربي منذ بداية النهضة حتى الآن. لطالما كان الشعر وسيلة للتعبير عن العواطف الإنسانية، والحالات الوجدانية، والتفاعلات مع العالم الخارجي، وفي ديوان «وشهد شاهد من أهله»، يستخدم الشاعر في قصيدتين (عمّان) و (صباح الخير يا عمّان) الشعر وسيلة للتعبير عن حبه وحنينه لمدينة عمّان، ولم يكن هذا الحب والحنين مجرد عواطف شخصية، بل هو تجسيد لمشاعر الأمة، ومحاولة للتواصل مع القارئ على مستوى أعمق. يقوم أدب المكان على فكرة أن المكان ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو بناء ثقافي وتجربة حياتية، فالمكان يعكس الهوية والتراث، وهو ما يمكن رؤيته بوضوح في هاتين القصيدتين، فتأتيان على مفاهيم مثل «الطابون» و»الزعتر» و»جذوع التوت»، التي تعكس الخبرات الحياتية والثقافية للمدينة. فعبر الشعر، يتمكن الشاعر من الاقتراب من القارئ، وتقديم تجربة عمان له، ليس فقط كمكان في الخريطة، بل كواقع حياتي وتجربة ثقافية معيشة. لطالما كان المكان عنصرًا حاسمًا في الشعر العربي، وهو بمثابة القوة المحركة وراء العديد من الأعمال الشعرية البارزة. وفي القصيدة «صباح الخير يا عمان»، يستخدم الشاعر المكان بطريقة مبتكرة وعميقة لتوجيه رسالة قوية عن هويته وذكرياته وأحلامه. عمان ليست مجرد مكان جغرافي أو تاريخي في هذه القصيدة، بل هي شخصية حية تتفاعل مع الشاعر والقارئ على مستويات متعددة. من خلال اللغة الغنية والصور البيانية المعبّرة، يعيد الشاعر أنسنة المدينة عمّان باعتبارها كائنا حيًّا يتنفس ويحلم ويتعايش مع الشاعر والقارئ. فيعتبر الشاعر عمان مركزا لذكرياته وأحلامه، حيث يتحدث عن «الفتى الأسمر» و»الطيارة الورقية» و»شجرة التوت»، التي تحمل الكثير من الإشارات والمعاني العميقة. ويتجلى التأثير القوي للمكان على الشاعر من خلال الإحساس العميق والحنين الذي يتدفق من كل كلمة وصورة في القصيدة. عمان هنا ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي القوة الدافعة وراء الأحداث، والتي تنقل الشاعر والقارئ معًا إلى عالم آخر من الأحاسيس والذكريات والأحلام. من خلال قصيدة «صباح الخير يا عمان»، نرى كيف يمكن للشاعر أن يستخدم المكان ليس فقط كعنصر في بناء النص الشعري، ولكن أيضًا كعنصر حاسم للتعبير عن هويته وانتمائه وأحلامه. القراءة التحليلية: «عمّان» القصيدة، هي رؤية الشاعر العميقة، ورؤياه المرهفة، لعمان المدينة، وهي لغته الغنية بالجماليات البيانية، الناقلة للمشاعر والأفكار التي تنقل المتلقي إلى تجربة المعايشة من خلال المشاهد البصرية الغنية والمكثفة التي تبرز جمالية المدينة، فالشاعر حسن جلنبو يوقظ البيان في وصف عمّان في مثل: «سيدة تقوم الليل تضرع»، فعمان سيدة تستيقظ في الليل، ترفع الدعاء. وهذه الصورة توحي بالأمل والتقوى والصبر، وهي تنقل أيضاً إحساساً بالهدوء والسكينة في لياليها. وفي «أخت الصبح» و «بنت النهار»، يقدم لنا الشاعر صورة المدينة التي تستيقظ مع الفجر، تستعد لاستقبال النهار، فعمّان بنت النهار نشاطاً وحيوية وتجدداً. فيستخدم الشاعر الكلمات والألفاظ التي تشكل ناقلاً لهذة الصور بسلاسة وانسيابية وموسيقى داخلية عالية، ويتبدى كل هذا في مجال اللغة للحنين والشوق والأمل والترقب، مما يثري القاموس اللغوي للقصيدة من جهة، ويفتح أفاق الدلالات والرمزية الحاضنة لهذا الشوق والحنين للغائبين، أو الذين غادروا من جهة أخرى، فالقطار في هذا يرمز إلى الوقت أو دورة الحياة التي تسير، فيؤوب الغائبون، أو يمضون فلا يعودون. ويجيد الشاعر استخدام الأدوات البلاغية التي تزيد من حيوية النص، فالتشبيه يظهر مثلاً في قوله «عمان سيدة»، والاستعارة تبدو في «عمان أخت الصباح»، والتصوير البياني في «تقوم الليل تضرع» و»قبل أن يغفو المساء على ذراع الليل»، ويتضح هنا تميز الشاعر وقدرته على التعبير عن المشاعر والأفكار العميقة من خلال استخدام الصور البيانية الغنية والرموز القوية، والتي تجعل هذا النص غنيًا ومعبّرًا، وهو يتقن استخدام الجناس والتكرار والتوازي، مما يعطي القصيدة إيقاعاً وموسيقى خاصة، ومثال ذلك: «عمان سيدةٌ... وفي عمان تجتمع النساء على خيوط الفجر ينسجن الصباح»، يتم تكرار اسم «عمان» للتأكيد على موضوع القصيدة. وفوق ذلك يستثمر الشاعر التراث اللغوي الشعبي، مثل «زريف الطول» و»الخزام» و»قابلة». هذا يظهر مدى تقانة الشاعر للأدوات الشعرية، وسلاسته في اللغة العربية، واسثمار مصطلحات التراث، وبذات السوية العالية يتم استخدام الكلمات والعبارات التي تتماشى مع السياق والنغمة العامة للنص، مثل «خيوط الفجر» و»جديلة» و»أسراب الحمام» و»سقي الغمام»، الأمر الذي يعزز الصورة البصرية والحسية في ذهن القارئ. عمان عند الشاعر في قصيدته ترمز إلى الوطن والأم، فالنساء اللائي يجتمعن على خيوط الفجر يرمزن للحياة والأمل، والغمام والرشاش والرصاصة ترمز إلى الصراعات والمعاناة. ومن الصور البيانية والمشاعر القوية نجد الأمثلة التالية: «حين تضيق كل الأرض» و»ردي الضياء إلى النجوم» و»آخر الطلقات في رحم الأمومة» كل هذا يمنح القارئ تجربتين حسيّة وفكرية فريدتين. وفي استكشاف الكلمات المفتاحية نقرأ مرة أخرى «يا زريف الطول، يا بن عم الي»، حيث يمكن تفكيك العبارة وتحليل الإحساس العميق بالحنين والفقد، فالعبارة تشير إلى انتظار الشاعر للعودة إلى الوطن الذي فقدناه. وفي «ردي الضياء إلى النجوم»: يدعو الشاعر عمان إلى مشاركة نورها مع النجوم، إشارة الى التفاعل مع الأمم والثقافات المختلفة. الانزياح في القصيدة يتمثل في الانتقال المتكرر بين الأفكار والمشاعر المختلفة. بداية، يقدم الشاعر صورة عمان مكاناً يوفر الأمان والراحة «حين تضيق كل الأرض تفتح بابها للمنهكين». ثم ينتقل إلى صورة مختلفة تعبر عن العزلة والغربة «عمان لا تستأثري بالشمس إن الليل يعبث بالغريب». هذا الانزياح يعكس الطبيعة المتعددة الأوجه للتجربة البشرية، ويضفي على القصيدة غنىً دلالياً وبيانياً. وتتجلى شعرية الانزياح أيضا في التحليل العاطفي، فالقصيدة تعبر عن مشاعر متعددة ومتضاربة في بعض الأحيان، مثل الأمل، الحنين، الألم، والحب. تلك المشاعر يتم تجسيدها بطريقة شفافة وصادقة، مما يجعل القصيدة مؤثرة بشكل خاص على القارئ. قصيد «عمّان» ملأى بالإشارات والرمزية التي تتكئ على التراث العربي والإسلامي، كالاستشهاد بالآية القرآنية : «وهنا على وهنٍ» وتوظيف الأغاني الشعبية «يا زريف الطول». وهو ما يضفي على القصيدة بُعدًا ثقافيًا غنيًا، ويجعلها متصلة بالتراث المعنوي اتصالا وثيقاً. والشاعر إذ يقتبس «وهنا على وهنٍ» من القرآن الكريم، وهو ما يرمز إلى الضعف والهشاشة، فإنما يجيء في سياق حالة الأم التي تعاني وهي تستعد للولادة. هذا الاستخدام للغة القرآن الكريم يضيف طبقة من العمق والقوة البلاغية للقصيدة، وعندما يصف الشاعر الصباح كـ «جديلة» تحط عليها «أسراب الحمام»، فإنه يضفي صفات بشرية على الصباح، مما يجعله أكثر حيوية وجمالاً. إن البلاغة في النص الشعري عمّان تعزز القدرة على تجسيد الأفكار والمشاعر في صور حية وملموسة. وعن طريق استخدام التشبيه والاستعارة والتجسيد، يتمكن الشاعر من الوصول إلى قلب القارئ وإثارة مشاعره. في هذه القصيدة، يستخدم الشاعر نمطًا تكراريًا للتأكيد على فكرة الحنين والشوق، وهذا يضيف الى أبعاد القصيدة عمقًا زمنيًا وجغرافيًا، الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ومن الطفولة إلى الشباب، ومن عمان إلى بلاد أخرى، يعكس الانتقالات والتغيرات في الحياة نفسها. يستخدم الشاعر هذه التقنية لمواجهة المشاعر المرتبطة بالنمو والتغيير، مثل الحنين للبراءة والأمان، والقلق من المجهول. والصور الشعرية التي يستخدمها الشاعر حسن جلنبو، مثل «الطيارة الورقية» و»جذوع التوت»، تعزز هذا التأثير، وتمكننا هذه الصور من الغوص في تجارب وذكريات الشاعر الشخصية، وهو ما يوفر لنا نظرة عميقة على حياته وعلى العالم من خلال عيونه. هذه الصور تجعل القصيدة أكثر حيوية وحضورًا، وتسهم في جعل القصيدة تجربة حسية تشد القارئ وتثير اهتمامه. القصيدة الثانية تحمل عنوان «صباح الخير يا عمان»، والتي تتميز بالغنى اللغوي والصور الشعرية المنغمسة في مشاعر الحنين والشوق. وهي من حيث الكفاءة التاريخية تعكس حنين الشاعر لطفولته في عمان، ويتذكر العديد من العناصر الثقافية والتراثية مثل «الطابون» و «المنقوشة» و «جذوع التوت»، هذه توحي بالزمن الذي مر والذي يشعر بالحنين إليه. والشاعر في كل هذا يبرز مشاعره تجاه مجتمعه، فتصوير الشاعر لعمان، بما في ذلك الأشياء البسيطة والعادية، التوت والطيارة الورق، فإنما يبرز جمال التقاليد الاجتماعية، ويبرز أيضاً الحالة النفسية والشوق العميق للطفولة والبراءة، وهو يشعر بالحنين إلى تلك الأيام التي لا تزال تمتلئ بالأمل والحلم، فالفتى الأسمر يمثل طفولة الشاعر والطيارة الورقية وهي ترتفع ترمز إلى جموح الأحلام والطموح. الأسلوبية التعبيرية: تعامل هذه الكفاءة مع كيفية تعبير الشاعر عن مشاعره وأفكاره. في هذه القصيدة، فيستخدم الشاعر الكثير من الألغام والصور البصرية القوية للتعبير عن حنينه للماضي والطفولة. عبارات مثل «أنا ذاك الفتى الأسمر» و»كأني بعد لم أكبر» تعبّر عن الحنين للطفولة والشوق للزمن الذي مضى. يظهر الشاعر مشاعر الحنين والحب من خلال استخدامه للألفاظ والصور الشعرية. يبني الشاعر القصيدة على نمط تكراري، حيث يردد الفكرة أنه «لم يكبر»، وهذا يعزز فكرة الحنين للطفولة والبراءة، فيتنقل الشاعر من الحاضر إلى الماضي، ومن الطفولة إلى الشباب، ومن عمان إلى بلاد أخرى، مما يوفر لنا النقيض الجذاب بين الأماكن والأوقات. وقد جاءت اللغة المستخدمة في القصيدة غنية ومعبّرة، اعتمد فيها الشاعر على الكلمات التي توحي بالذكريات والحنين، مثل «الفتى الأسمر»، «الطابون»، «المنقوشة»، «الزعتر»، و»جذوع التوت»، والقصيدة مليئة بالدلالات المتعلقة بالطفولة والذكريات والحنين، فعندما يتحدث الشاعر عن «الفتى الأسمر»، كما أسلفنا، يشير إلى نفسه وتجربته الشخصية في عمان، والأغنية التي أهداها موج البحر تعبر عن مغامرته وتجاربه في الحياة الدلالات: القصيدة تحمل دلالات الحنين إلى الطفولة والشباب، وعن الحب للوطن. عندما يتحدث الشاعر عن «الطيارة الورقية»، فهو يشير إلى رمزية الطفولة والبراءة والحرية. بينما «الفتى الأسمر» يمثل الشباب والحيوية. وهو في كل هذا يستخدم لغة جميلة ومعبرة، حافلة بالصور الشعرية المستلهمة من التراث والثقافة العربية، وهو يستخدم الكلمات مثل «عصفورتي» و»ياسمينتي» و»فتى الأسمر» و»الطيارة الورقية»، التي تحشد حضور ذكريات الطفولة وتشعل الحنين إلى الماضي. اللغة في الشعر هي أداة الشاعر الأساسية لتقديم أفكاره ومشاعره. فالشاعر يستعين باللغة بشكل فعّال لإيصال رسالته بطريقة قوية وملموسة. يعود الشاعر في اختياراته اللغوية إلى جذوره العربية والثقافية، فنجد توظيفه للمصطلحات والتعبيرات التي تستخدم في الحياة اليومية، والتي تحمل طابعًا ثقافيًا وتراثيًا خاصًا، وهذه الكلمات بحد ذاتها تحمل رمزية خاصة، تعكس التواصل العميق بين الشاعر والتراث العربي. إن استخدام الشاعر لهذه الكلمات يضيف تجلّيا آخر من الغنى والتعقيد إلى القصيدة، فاللغة توقظ الذكريات والمشاعر المرتبطة بتجاربه الحياتية والقراء مما يسهم في تأسيس رابط قوي بين الشاعر والقارئ، ويعزز من قوة الرسالة الشعرية. صورة عمان في القصيدتين صورة جميلة ونابضة بالحياة، فهي مدينة ذات حميمية، ومحفورة في ذاكرة الشاعر. وما العديد من الصور البيانية المستخدمة، مثل «سيدة تقوم الليل تضرع» و»أخت الصبح» و»بنت النهار» في القصيدة الأولى، إلا انعكاس جمال ورونق عمان ويومياتها الهادئة. فعمان تمثل موطن الطفولة والشباب للشاعر، حيث يشير إلى ذكرياته التي يرتبط بها الحنين، مثل اللعب بالطيارة الورقية والاستمتاع بالزعتر والزيتون. عمان في القصيدتين هي أكثر من مجرد مكان، فهي طفولة الشاعر، والحنين والحب، تقف كرمز للزمان والمكان الذي نحن جميعا نتوق إليه. تلعب المدن تلعب دورًا مهمًا في الشعر والإبداع. الشعراء والكتاب يستخدمون المدينة كمعنى أو موضوع أو خلفية أو حتى كشخصية في أعمالهم. إنها تعكس الثقافة والحياة الاجتماعية والتاريخ والجغرافيا والسياسة، فالمدينة مرآة للثقافة والاجتماع، تعكس الثقافة والتقاليد والحياة الاجتماعية للأماكن. مثلاً، الشاعر الذي يكتب عن المدينة قد يتطرق للأضواء المبهرة للمدينة، أو الحياة السريعة، أو التنوع الثقافي. في حين يمكن لشاعر أن يكتب عن المدينة بالتركيز على الفن والثقافة والرومانسية. والمدينة كسياق قد تكون الخلفية للقصيدة، تحدد المزاج والنغمة والأجواء العامة، فبعض المدن في عصر معين تكون خلفية للرواية التاريخية أو الشعر. والمدينة في بعض الأحيان، يمكن أن تكون شخصية. فقد تم تصوير عمان كشخصية تتفاعل مع الشاعر تعيد له ذكرياته. يعكس شعر المدن يعكس الحالة الإنسانية والحياة الحضرية والتجارب الشخصية والجماعية. وتقدم فرصة للتعبير عن الأفكار والمشاعر بطرق فريدة وقوية. المكان في الشعر هو أحد أهم العناصر التي تعزز الدلالات والصورة البصرية للقصيدة، ويكمن الجمال في استخدام الشعراء للمكان لتحقيق أهداف فنية وثقافية معينة. حيث يمكن للمكان أن يعكس البيئة الثقافية والاجتماعية للشاعر، فيتم تجسيد العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية فيه. ويمكن أن يمثل توثيقاً لحياة الشعراء والأماكن التي يعيشون فيها أو يتجولون فيها. وفي بعض الأحيان، يمكن للشعراء تقديم المكان كشخصية تفاعلية في القصيدة. يمكن للمكان أن يكون صديقًا، أو عدوًا، أو عاشقًا، أو شخصية ما تجسد الحنين والذكرى. وغالبا ما تحمل الأماكن في الشعر رموزًا دلالية قوية. فالبحر، على سبيل المثال، قد يرمز إلى الحرية أو الخطر أو الغموض، بينما الجبال قد ترمز إلى القوة والثبات. وربما يأتي المكان عنصراً محركاً للمشاعر والأحاسيس في القصيدة. قد يثير الحنين، أو الألم، أو الفرح، أو الحزن، أو الشوق. والمكان في بعض القصائد مرآة تعكس الحالة النفسية أو الروحية للشاعر، حيث يصبح المكان تعبيرًا عن الداخل. الخاتمة: المكان هو أحد العناصر الهامة في النص الأدبي، سواء كان شعرا أو نثرا. فهو يسهم في تحديد الزمن والموقف والأجواء والمعنى، ويشكل جزءا من هوية الكاتب والقارئ، فالمكان لا يشكل خلفية جغرافية أو تاريخية للحدث فقط، بل هو مساحة حية تتفاعل مع الشخصيات والأحداث والأفكار، وتنعكس على لغة وأسلوب النص. يمكن أن يكون المكان في الشعر مصدر إلهام للشاعر يعظم قدرته التعبيرية، أو رمزا أو تعبيراً مجازياً يعبر عن مشاعره أو يفصح عن رؤيته. فمثلا، قد يستخدم الشاعر المكان الطبيعي كمرآة لحالته النفسية، أو مقارنة بين حاله وحال غيره. أو قد يستخدم المكان التاريخي أو الديني مصدراً للتأمل أو التذكير أو التحذير. أو أن يستخدم المكان الاجتماعي أو الثقافي منبراً للانتقاد أو الهجاء أو المديح. فالمكان في الأدب يشكل عاملا مؤثراً في تكوين شخصية البطل أو تطور الحبكة، أو محوراً للتوتر بين الشخصيات أو بين الفرد والمجتمع. فمثلا، المكان المغلق يكون رمزاً للاضطهاد أو السجن، أو يكون المكان المفتوح رمزاً للحرية أو الانعتاق، وقد يستخدم المكان المألوف رمزاً للانتماء والولاء، ويكون المكان الغريب رمزاً للغربة أو الاغتراب. إن تجليات المكان في الشعر والأدب تعكس تنوعاً وغنىً في التجارب والإبداعات الإنسانية، وتشير إلى دور المكان في صياغة هذه التجارب والإبداعات. لم يتعامل الشاعر حسن جلنبو مع مدينة عمان على أنها مجرد موضوع أو خلفية للحدث بل تعامل معها بوصفها كائناً حياً تتفاعل معه الأحاسيس والمشاعر، ففي القصيدتين، يقف الشاعر حساساً وشفافاً ومتأملاً، وكاشفاً عن تجاربه وذكرياته في المدينة، من خلال لغة شعرية غنية ومعبّرة. كشف التحليل للغة الشاعر والصور البيانية المستخدمة في القصدتين، والدلالات المرتبطة بهما عن طبقات متعددة من المعاني والتعابير، تنقلنا بعمق إلى تجربة الشاعر في عمان، موطنه الحبيب. ومن هذا الأفق، فإن القصيدتين تحققان باقتدار مفهوم «أدب المكان»، حيث يصبح المكان جزءًا لا يتجزأ من النص، ويشكل عمقًا ثقافيًا وتجربة حياتية للقارئ. وتؤكد القصيدتان، هنا، على الدور الأساسي للمكان في الشعر، وكيف يمكن للشاعر أن يجسد طابع المكان وروحه من خلال استخدام اللغة الشعرية الملائمة، فالشعر عند جلنبو وسيلة التواصل بين الشاعر وجمهرة المتلقين، وهو جسر يربط بين الذات والمكان، والفرد والأمة، والحاضر والماضي. في قصيدة «صباح الخير يا عمان»، يمكننا رؤية تجليات متعددة للمكان، فهو مسرح الأحداث، وعنصر حي ونشط يلعب دورًا حاسمًا في تحديد معنى وهوية القصيدة، فعمان عند الشاعر ليست مجرد مدينة، بل مكان ذو معنى عميق؛ مكان الذكريات والطفولة والمشاعر والأحلام، ومركز للحياة، حيث تتجسد الحياة بكل تفاصيلها البسيطة مثل «الطيارة الورقية» و»الفتى الأسمر»، لتجعل من عمان كائناً حيًا يتنفس، يشارك في تجربة الشاعر ويشكل جزءًا من هويته اللغوية والشعورية والشخصية، فالمكان رمز للحنين والأمل، يعبر منه إلى الماضي وينظر إلى الحاضر، ويستقبل فيه غدٍ أفضل لعمان. هكذا، يتحول المكان من مجرد خلفية جغرافية إلى رمز حي ونشط للحنين والأمل. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-08-2023 08:20 مساء
الزوار: 265 التعليقات: 0
|