|
عرار:
نبيل حداد / جامعة اليرموك (1) لعل العنوان مدخل مناسب كي نبدأ هذه المقاربة لكتاب الأستاذ الدكتور تيسير أبوعرجه: أوراق شخصية/ ثلاثية: التعليم والأدب والصحافة، ولو أن تعبير «الأوراق الشخصية» لا يحتاج منا إلى عناء كبير كي نربطه بمفهوم السيرة الذاتية، مع ما يستتبعه هذا المفهوم من جوانب معرفية وشروط منهجية وضوابط اجتماعية في بيئتنا الشرقية تحديداً. إن الأقنوم الأول في هذه المكونات الثلاثة هو التعليم، وللوهلة الأولى فقد يذهب القارئ إلى «التعليم» بوصفه مفهوما مهنة لصاحب هذه الأوراق، وربما اتجه المقصد نحو هذا المعنى ولكن مع بعض المجاوزة. على أن القراءة أننا مع تقدمنا في قراءة هذا العمل لا نلبث أن نكتشف أن التعليم هنا يأتي بمعنى النشأة. ولكن المؤلف اختار مفردة التعليم على ما يبدو، حتى يرمي عصفورين بحجر واحد؛ مراحل تعلمه الشخصي من جهة، ثم مهنته الأساسية الأثيرة التي لازمها لما يقارب نصف قرن؛ بل معلماً ولكن برتبة أستاذ أكاديمي مرموق، من الجهة الأخرى. أما مفردة الأدب الواردة كذلك في العنوان، فإن المؤلف يدرك جيدا أن هذا المفهوم في الأساس لا يصلح مهنةً، بل عنى به ميلاً جامحاً ولد مع تيسير وظل ملازماً لشخصه ولعطائه كذلك له منذ عرف القلم، إنه أكثر من هواية عابرة أو مهنة يتفرغ لها، بل قل تلبسه علي شكل موهبة شعرية وخطابية ومقالية لم تفارقه في أي مرحلة من عمره المديد الذي جاوز مع كتابة هذه الذكريات، العتبة الماسية (أي الخامسة والسبعين). ومن الواضح أن «تيسير» قد رأى في هذين الأقنومين الأدب والتعليم امتداداً للأقنوم الثالث في العنوان أي الصحافة، وهي في ذلك على أية حال، شأنها شأن التعليم والصحافة مهنة ورسالة، بحسب عنوان أحد كتب أستاذه الأثير الدكتور خليل صابات. (2) ومنذ الطور الأول يزيل تيسير الحواجز بينه وبين قارئه بأسلوبه العفوي الأنيق؛ فهو يبشر بالرضا ولا يدعي المظلومية؛ ليكون مفتتح الكتاب الآية الكريمة: «وأما بنعمة ربك فحدث» وهي عتبة تضع في يدنا المفتاح الأول لشخصية صاحبنا... الرضى بما حققته مسيرته، والقناعة بما جادت به دروب الكفاح من نعم، و والرغبة بالإفضاء بهذا مستنداً إلى العبارة المعبرة: فحدث. إذن هو منذ البداية يكشف لنا عن فلسفته التي ارتضاها نهجا في حياته، وهو يعزز هذا الرضا بما حققته رحلته التي ترويها هذه الذكريات وتمتد لثلاثة أرباع القرن، بكلمات الإهداء إلى والديه اللذين وصفهما «بمثال الحب والصبر والعطاء». وبهذه الروح يمضي بنا تيسير في رحلته؛ فيتوقف عند القسم الأول بعنوان: أوراق شخصية؛ لنبدأ مع «النشأة في شويكة». ويدخل تيسير إلى جو التجربة مبتدئاً مباشرة بالكلمة المناسبة، «وهي بيئة صارمة، محاطة بالقيود وأشكال المراقبة، وظروف العيش بسيطة، لا تكاد تخرج عن أطر محددة، صيفاً أو شتاءً، وظروف العمل عائلية، وكنت أساعد والدي من واقع الشعور بالمسؤولية مبكراً إزاء والد متقدم في السن». (ص15). هكذا وكما «المقدمة الإخبارية التلخيصية». يلج بنا تيسير إلى الوقائع الأساسية في رحلته عبر حوالي مئة وستين صفحة. ثم يأخذ بعد ذلك بالتوسع في مكونات هذه المقدمة: عن القرية آنذاك (شويكة) مكانا وإنسانا، ولا سيما عن الوالد الذي يتنازل له السارد عن ناصية الكلام؛ فيتحدث الوالد عن مهنته ثم عن إخوانه (أعمام تيسير)، ثم تعليمه في المدرسة التي شيدت في صباه المبكر، ويتبع هذا بحديث مطول عن أبرز مجايله من رجال القرية. لينتقل السارد الأنا بعد ذلك إلى الحديث عن نشأته هو، وقد كانت التفاتة بارعة من تيسير، المحرر الصحفي المخضرم، أن أعطي الوالد ناصية السرد عن مرحلة لم يعاصرها، بل كانت قبل ولادته، ولم يحوجنا ثم إلى التأويل لنقول لعله سمع هذا الماضي من أبيه قبل أن يغادر الدنيا أو من أمه أو عمه. ولا يلبث أن ُيتبع رواية والده بعنوانات من قبيل «عملي مع والدي» ثم يتوقف عند المحطات الرئيسية في حياته؛ لتتخللها سيرة الأسرة العائلية. على أن اللافت للانتباه أن السرد في هذه المرحلة يتم من خلال الحوار بما يذكرنا بشكل مهم من أشكال الكتابة التي احترف تيسير ممارستها نظريا وتطبيقا هو الحوار الصحفي إذ يستهل المحرر بعض فقراته بتعبيرات العزو من قبيل : «ويقول والدي : كان وضعنا المعيشي جيداً مرتاحاً بسبب وجود الأملاك الزراعية» (ص19)، وربما لجأ إلى صيغة الماضي فيقول مثلا على لسان والده: «تزوجتُ المرأة الأولى في سن مبكرة...» أو يغير صيغة إسناد القول إلى صيغة أخرى من شأنها أن تستدرج اهتمام القارئ وتضفي الحيوية على الحوار على حد سواء: «وأسأله: كيف تعرفت على والدتي؟» (ص20) وهكذا يضفي تيسير على سرده، الشكل الذي يتقنه بل يحترفه: الحوار الصحفي، وهذ الشكل مقبول في فن السيرة ويمكن أن يتسع لكل أشكال الخطاب، ولكنه قد لا يكون مسوغا في الفن الروائي أو فنون الدراما بعامة إلا بتفسير نقدي مركب ينتهي بنا إلى تقنية الميتاقص. بل الكثير من الأدباء - وبخاصة الروائيون - قد أفادوا من الشكل الصحفي من مثل نجيب محفوظ الذي اقتبس، شكل الاستقصاء الصحفي في رواية «العائش في الحقيقة» (1988) وكما ذُكر آنفا فإن السارد قد اختار صوت والده لرواية أحداث لم يعاصرها أو لم يكن أبصر النور خلالها. وفي السرد الروائي عادة ما يتكفل الراوي الغائب أو إحدى الشخصيات الأخرى بتمرير تلك الجوانب التي لم يعاصرها السارد الأنا، أو يلجأ المتلقي للتأويل الافتراضي فيقول-مثلا- بينه وبين نفسه لعل السارد سمع هذا الكلام من المحيطين به ممن يكبرونه سنا، أما تيسير فقد شاء أن تكون المعلومة بلسان أبيه أو أمه أو خاله أو من أية شخصية أخرى، أما بوصفه راويا محايدا؛ فيكون دوره مقتصرا على نقل المعلومة من صاحب الشأن، أي إن «تيسير» هنا شاهد على ما قيل وليس شاهدا على ما حدث، مطمئنا إلى أن قارئه يثق بروايته المنقولة وأنه أي القارئ من الفطنة بحيث يعزو الكلام إلى قائل مفترض ومؤتمن. على أن تيسير، إعلامي أولاً وأخيراً، ومسألة العزو هاجس يلازم الإعلامي لأن المصداقية رأسماله الأول والأخير، ومن ثم فقد طغى دور الإعلامي بأسلوبه التقريري على دور السارد بأسلوبه الفني؛ فيلجأ إلى العزو المباشر مقرونا بذكر المصدر: «وحدثني والدي: في غمرة أحداث ثورة 1936، كان إلى جانب الأعمال البطولية للثوار في مواجهة عدوين متحالفين معاً، هما الإنجليز المحتلون والعصابات الصهيونية، وظهور قيادات محلية مشبوهة..» (ص 22). وكان هذا الاحتلال مقدمة ولج من خلالها السارد الأنا إلى أحداث تلك الثورة المهمة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ولكن السارد لم يكتف بتكرار رواية الأحداث كما تتحدث عنها المصادر المنشورة، بل أورد أحداثاً «خاصة» بشخصية والده الذي يتولى إدارة دفة الحديث في هذا الموضع ذكر أنها من مشاهداته ومما خرج به من ذكريات. ولم يكن الوالد هو السارد المساند الوحيد للراوي؛ فالوالدة أيضاً تشارك في السرد، بل تستحضر شهادة على حادث عائلي/ تاريخي؛ «وتقول الوالدة: كان إبراهيم [قريبها المقاتل الشهيد] بعد أن تعرض لنيران غارة جوية بريطانية جريحاً، وكان في ذات الوقت مطارداً من الإنجليز، قد حاول الاختباء ذات مرة ومعه أحد مرافقيه في إحدى الغرف الصغيرة تم استئجارها في قرية (أرتاح) الملاصقة لمدينة طولكرم من الجنوب، ولكن [كان] هناك معلومة استخبارية وصلت إلى الإنجليز حول تواجد القائد في ذلك المكان، فجاءت قوة عسكرية إنجليزية وبدأت بإطلاق النار على باب الغرفة، وكان الرصاص ينهمر من الخارج، ويرد عليه القائد ومرافقه من الداخل إلى أن تم استشهادهما معاً، ويبدو أن الإنجليز لم يكتفوا بذلك فقد تم قُتل عدد آخر من أبناء القرية في تلك اللية، وتم أخذ جثامينهم وإلقاؤها في حفرة في السهل الساحلي مقابل طولكرم(ص24). هذا النص يستند إلى رواية سمعها السارد الأنا من والدته التي يُفترض أنها من الجيل الذي لم يكن يعرف القراءة والكتابة، ومع هذا فقد جرى تفصيح الكلام، وهو أمر مألوف ومبرر من أستاذ عرف عنه انحيازه الدائم للعربية والتزامه بأصولها ودرايته بدقائق التعبير بها، وعلى أية حال فإن السرد يلتزم بالفصحى، وقد تجلى كذلك بصورة ناصعة في القصة القصيرة المستوحاة من ظروف استشهاد هذا «الخال» مع تغيير بسيط بالأسماء كما ذكر المؤلف (ص24-25)، إضافة لقصص قصيرة أخرى رواها السارد على لسان أبيه (مثل قصة البارودة، ص29) وهي مع القصة الأولى جزء من الحكايات المستمرة لكفاح الشعب الفلسطيني الممتد منذ أكثر من قرن إلى اليوم. واعتباراً من ص41 يبدأ السارد الأنا بالحديث عن نفسه وميوله، ومن اللافت للنظر أن تلك الميول لم تبدأ بالصحافة، وهي القدر الذي ارتضاه لحياته العملية راضياً مرضياً بل مبدعاً في مجاله، وإنما بالأدب، والشعر بخاصة الذي تعلق به منذ شب عن الطوق فكان ميله الأدبي الأول وليس القصة التي مارسها كما الشعر- فيما بعد ممارسة الهواة، مع حرص على جنوح الأسلوب للغة التاريخ وبأسلوب الصحفي همه الأول إيصال رسالته الفكرية ومادته المعرفية بكل جلاء ووضوح ويلخص تيسير حكايته مع هذين الفنين بقوله: «من بين ماكنا نتعلمه من مواد دراسية في تلك الفترة المبكرة من حياتنا، طربت أذناي للشعر العربي، وللقصائد التي كانت تحفل بها كتب الأدب، وبدأ الميل مبكراً لتقليد بعض تلك القصائد وكتابة أبيات من الشعر تماثلها في الكلمات أو النغم أو في النغم والموسيقى، أتحدث الآن عن عام 1962 ميلادية...» (ص41) ثم يمتد الحديث إلى محاولاته الأولى في الأدب والكتابة الصحفية... وكل هذا ظل في نطاق الهواية لا أكثر. (3) في رحلة العمر التي يصحبنا فيها تيسير تبدأ المرحلة الثانية بالتحاقه في قسم الصحافة في كلية آداب القاهرة. وتنتهي السنة الأولى مع هزيمة سنة 1967، يقدم لنا السارد الأنا ، وصفاً بالشعر والنثر لتلك الأيام الحزينة التي عاشها في مقتبل حياته ومطلع شبابه، حيث كانت الآمال تتسع لأمجاد الدنيا والأحلام تشمل الكون بأسره. وفجأة تقوضت الآمال وتلاشت الأحلام ليفتح صاحب السيرة عينيه على واقع شخصي ووطني وقومي جديد، واقع كارثي فرضته فجأة تلك الحرب المشؤومة في حزيران 1967 التي مازلنا الآن نقاسي مراراتها ونعيش آثارها ونعايش مصائبها. هنا نقرأ وصفا نموذجيا متكررا لوقع تلك الحرب عليه وعلى جيله: «ِسقط النبأ علينا صاعقة أو أكثر... أفظع خبر تسمعه في هذا العمر... سقطت كل الضفة... أمر مفجع... لكن يقع هناك [في دياره]... وهنا [مصر] نسمع أسقطنا عشرات الطيارات، وجيش الأعداء نلقنه درساً عربياً لا ينسى، ثم يقف عند بعض التطورات العامة التي شهدتها الساحة المصرية في تلك الأوقات الكئيبة من أيام الهزيمة بحديث لم يقتصر على الشأن العام، بل يورد السارد بعض المواقف الإنسانية بأسلوب صحفي متقدم على شكل صور قلمية features لزملائه وأساتذته، بل عرض لموقف تاريخي كان شاهداً عليه، وذلك حين اندلعت المظاهرات الطلابية العارمة في القاهرة سنة 1968 احتجاجاً على ما اعتبره كثيرون أحكاماً مخففة صدرت بحق العسكريين المسؤولين عن النكسة (ص47). ويورد صورة نابضة لنشاطه طالباً في قسم الصحافة سواء خلال مرحلة التدريب، أو نشاطه الاحترافي المبكر (50). وحين ينتقل إلى العمل في الكويت يشاء القدر أن يصادف يوم مباشرة عمله في صحافة الكويت. رحيل الزعيم عبدالناصر في 28/9/1970، لم يتوقف تيسير طويلا عند هذا الحدث الجلل بل راح يسجل لتجربة عمله في الكويت الذي استمر فيه لسبع سنوات متواصلة العديد من المآثر المهنية والاجتماعية بل والإنسانية، وتعرفه إلى عدد من أعلام الأدب العرب وغير العرب (53 – 58). وعلى الرغم من أن تجربته في الكويت - بأعبائها – كانت مثمرة من الناحيتين المادية والمهنية، فإنه يعتزم استكمال تحقيق حلمه القديم، فيخبر أهله حين يزورهم في الضفة الغربية بعد احتلالها بقراره النهائي بالنسبة لمستقبله: لا أرغب في العودة إلى عملي في الكويت... بل قررت استكمال تعليمي للدراسات العليا في القاهرة، وهكذا كان. (4) بعد نيله الدكتوراه أواخر عام 1980 مرحلة تبدأ جديدة وقد أعدها بإشراف أستاذ أساتذة الصحافة في زمانه (والوصف من عندي) أعني الدكتور خليل صابات. وكعادة الراوي لم يبخل علينا تيسير بسرد العديد من الحكايات والوقائع المهنية في مرحلة دراسته للدكتوراه، كما يتوقف عند عدد ممن ربطته بهم، بحكم ظروف التخصص، أواصر الصداقة، وجلهم مثقفون مصريون، من الصحفيين بخاصة، وجاء وصفه لمعظمهم وصفاً وجدانيا نابضا وكأنه لا يكتفي بتقديم نبذة عن شخص ما فحسب، بل يرسم له صورة قلمية تقرب الموصوف من أهلية النموذج الفني من خلال استحضار المواقف الحيوية لهؤلاء الشخوص ولا سيما وصفه لأعضاء لجنة المناقشة وأجوائها وما شهدته الجلسة من تجاذبات بل مناكفات. يتوقف السارد وقفة مطولة عند موضوع رسالته للدكتوراه، ومع أنه يقدم معلومات قد تكون مهمة في ذاتها؛ لكنها مفصلة بأكثر مما يحتمله السياق. فلقد أطال تيسير وأطال وكأنه يقدم دراسة مكتملة عن الدور الذي أدته صحيفة «المقطم» المصرية (موضوع الأطروحة) في ممالأة وجهة نظر الإنجليز الذين كان بيدهم القرار النهائي في تسيير الحياة الحزبية والسياسية في مصر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945. بيد أن هذه الإطالة تثمر تقديم تحليل علمي حول سياسة رؤساء التحرير في «المقطم» الذين كان آخرهم كريم ثابت مستشار فاروق الصحفي، يثبت فيه أن مصالح هذه الصحيفة مرتهنة حقاً لمصالح الإنجليز، ولا نظن أن ما يورده السارد حول موضوع المقطم ضرب من الاستطراد بقدر ما هو إشارة إلى ما ساد القوى الثقافية من تنوع، وبخاصة في حقل الصحافة، خلال تلك السنوات المضطربة من تاريخ مصر الحديث. ونحن على أية حال إزاء سيرة ذاتية في جانبها الفكري، ومن حق الكاتب أن يعرض فيها اهتماماته وما كان يشغل فكره في فتره في الفترات، ولا سيما أن الأمر يتعلق بجانب في غاية الأهمية والخطورة في تاريخ الصحافة العربية، وهو الموضوع الذي اختاره تيسير أن يكتب فيه أطروحته للدكتوراه. وعلى الرغم من أن ما جاء في هذه السيرة حول صحيفة المقطم متفق عليه في أوساط مؤرخي الصحافة المصرية، فإن المؤلف يورد تفصيلات كثيرة (في حدود اثنتي عشرة صفحة (75-87) كانت حافلة – في المقام الأول – بالجوانب الإنسانية والمهنية المباشرة في شخصيته صاحبها. وقد ألتمس العذر لنفسي على هذا الرأي في هذا القسم من الكتاب حين أفترضُ أن محتوى هذا التوسع قد يكون من الناحية الموضوعية والمنهجية أقل أهمية بالنسبة للقارئ. (5) ولا يلبث المؤلف أن يقدم عجالة تاريخية مفيدة لمصر في السبعينيات إبان عهد الرئيس الراحل أنور السادات، لكون المؤلف كان يعيش في ظل هذه الظروف، التي عشتها بدوري، ولكن لسوء الحظ لم يتيسر لي التعرف بتيسير إلا بعد أن أصبح أستاذاً جامعياً في الإمارات العربية المتحدة، خلال أحد المؤتمرات التي عقدتها الجامعة العربية التي اشتركنا فيها نحن الإثنين. ويستحضر المؤلف مشهدا مسهبا لأحداث يناير 1977 ويكشف عن جهد يستحق أن يسجل في تاريخه الشخصي حين استطاع أن يحول دون أن يحرق المتظاهرون مبنى صحيفة الأهرام الجديد في شارع الجلاء في قلب العاصمة المصرية، ولا يلبث أن يسرد لنا بإيجاز، خطوات السادات في زيارة القدس والتمهيد لاتفاقات كامب ديفيد، كما يقف عند تجربة بعض الأحزاب اليسارية كحزب التجمع الذي أسسه خالد محيي الدين أحد رموز ثورة 1952. لتنتهي هذه السردية مع نيله درجة الدكتوراه أواخر عام 1980 وتعاقده للعمل أستاذاً في تخصصه في الجزائر، ولم يفوت تيسير فرصة ثمينة تهيأت له أثناء تلك السنوات فأقبل على تعلم اللغة الفرنسية مما فتح أمامه آفاقا علمية ومهنية جديدة لتنتهي تجربة الجزائر سنة 1984، ويبدأ عمله في جامعة البتراء، حيث أشاد لنفسه كياناً أكاديمياً ومهنيًا وأسرياً واجتماعياً راسخاً. وإذ يستعرض تيسير مسيرته التي تفرغ فيها للعمل في جامعة البتراء تكتمل لدى المتلقي معطيات موضوعية لمسيرة ملحمية لشاب عصامي قدم الكثير لوطنه وقضيته وتخصصه العلمي، وللحياة العلمية والثقافية في مجتمعه بصورة عامة، وأستطيع أن أنوه، بالإضافة إلى ما سبق، ما تسمت به شخصيته من سجايا إنسانية والتزامه بقيم مثالية خبرها كل من عرف تيسيراً وعايشه. أما القسم الأخير من الكتاب فقد أفرده المؤلف للحديث عن بعض من عرفهم من زملاء العمل والمهنة. هل نقول إنه جاء من قبيل الوفاء للصديق والزميل؟ ولمن جمعته بهم – بالإضافة إلى زمالة المهنة - معاني الوفاء. الوفاء للمبادئ التي آمن بها وكرس حياته العملية لخدمتها. أفترض هذا، وأفترض كذلك أنه يسعى من خلال هذه النبذ لتقديم صور قلمية عن رموز العمل الصحفي خلال نصف القرن الأخير، ومن المفيد ألا يغيب عن الأذهان إن «تيسير» أولا وأخيرا معلم ثم أستاذ جامعي أمضى في مهنة التعليم ما يقرب من نصف قرن. وهذا النموذج من المثقفين لا يفارقهم الإحساس بالمسؤولية تجاه التلاميذ والمريدين، فلعل هذا القسم الأخير من الكتاب يكون بمثابة دليل ميسر ومختصر عن هؤلاء الأعلام يضعه تيسير، بإحساس المسؤولية لدى المعلم المثقف؛ فيضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ الوفاء لمن تحدث عنهم والتعريف بهم لمن يريد أن يعد دراسة أو بحثا وربما رسالة أو أطروحة؛ فكل واحد من هؤلاء جدير بجهد كهذا، ومنهم على سبيل المثال: عرفات حجازي، وحسن التل، ومحمود الشاهد، وخيري منصور، وإبراهيم العجلوني، وسليمان الموسى، وغيرهم. وخلاصة القول أن «تيسير» كان أمينا بما وعد به قراءه من خلال عنوان عمله: التعليم والأدب والصحافة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-10-2023 08:19 مساء
الزوار: 291 التعليقات: 0
|