|
عرار:
د. جميل كتاني/ فلسطين في السابق كانت الإهداءات تتموضع في النص ذاته، أو في ديباجة الكتاب. أما الآن فهي متواجدة في صُلب النصّ. ويعني هذا أنَّ للإهداءات وظائف تداولية وتأويلية وتفسيرية، غير الوظيفة الإخوانية المرتبطة بالتقدير والعرفان. عادة ما يكون الإهداء في النص الأدبي الحديث لأشخاص تربطهم بالكاتب علاقة إنسانية معينة؛ قد تكون علاقة مودّة، كالأب والأم والأخ والأخت أو الحبيبة، فيُهدي إليهم عمله اعترافًا بفضلهم، وقد تكون علاقة كراهية، فيهدي إليهم عمله إمّا لإثبات الذات وتأكيد الحضور، أو للتعالي والتفاخر. وأحيانًا يهدي الكاتب عمله إلى نفسه، وأحيانًا يخصّص الكاتب الإهداء للقارئ أو للمتلقي الحقيقي للعمل، وقد يكون لشخصية متخيَّلة. يضيف النقّاد مقومات وخصائص أخرى للإهداء. فموقع الإهداء غالبًا ما يكون في الصفحة التالية لصفحة العنوان. أمّا زمن ظهور الإهداء فهو بالأصل يظهر في الطبعة الأولى الأصلية للكتاب. أما صاحب الإهداء فهو في الأصل المؤلف، لكن يمكن للمترجم أو المُحقّق أو المُشرف على جمع النصوص أن يقوم بدوره في الإهداء. يمكن الإهداء إلى شخص أو جماعة واقعية أو مثالية أو إلى كائنات من نسق آخر مثل: الأفكار والقيم والأحداث. أما بخصوص الوظيفة التي يحققها الإهداء، فإنه يعكس العلاقة الخالصة أو المتكلّفة التي تقوم بين المؤلف والأشخاص أو الجماعات أو الكائنات الأخرى. في الروايات الكنعانية الثلاث، موضوع البحث، اهتمّ صبحي فحماوي بتصدير هذه الروايات بالعديد من الأقوال التي جاءت على شكل إهداءات، واقتباسات مختلفة لشعراء وفلاسفة ومؤرّخين، أو مقولات موحِية لأبطال الرواية، تصبُّ جميعها في الأغراض التي أراد الكاتب إيصالها للمتلقي، بحيث شكّلت عتبات النصّ هذه عناوينَ دالّةً على أفكار الكاتب ورسائله التي أراد إيصالها من خلال هذه الروايات. في رواية قصة عشق كنعانية، نجد عتبات النص متنوعة؛ بدءًا بالعنوان ذي الدلالة المكثفة، مرورًا بالاقتباسات المتعددة لشعراء وروائيين عالميين، ومؤرّخين معروفين، تخدم جميعُها غرض الكاتب في التدليل على الحضارة الكنعانية، بكلّ أشكالها وملامحها من جهة، وتعرية الدراسات الغربية، وفي مقدمتها الدراسات التوراتية، التي سعت جاهدةً لطمس الحضارة الكنعانية والترويج لمملكة إسرائيل القديمة، كلّ ذلك من أجل إضفاء مشروعية على أحقيّة وجود اليهود على أرض فلسطين. تُصَوّر قصة عشق كنعانية أشكال العشق والخصب الكنعاني الذي يُجسِّدُهُ الإله «بعل»، والمَحَبَّة الطّاهرة التي تُمثِّلها «عناة»، والكراهيّة التي يُمثِّلها «موت»، والحياة الكنعانية المُفعمَة بالمحبّة والسلام والنّشاط، إضافة إلى أشكال الحضارة والرقيّ التي شهدتها الحضارة الكنعانية منذ آلاف السنين، من خلال اعتمادها على الزراعة، والتجارة، والصناعة، وتربية المواشي، ومن خلال الفنّ المعماري، والرقيّ الحضاري الذي جسّده الكنعانيون. يستهلّ الكاتبُ روايته بالحديث عن «عمر»، بطل الرواية، وهو شابٌّ يدرس التاريخ وعلمَ الآثار في جامعة حيفا. كما أنه مولَعٌ بالحفر والتنقيب عن الآثار، حيث قادته قدماه ذات يوم إلى مغارة كرمليّة تُدعى «النّطُّوف»، إذ ظهرت له «عناة»، ربّة الخصب لدى الكنعانيين. تقوم «عناة» بإرشاده إلى مخطوطات في غاية الأهمية، تتعلق بالحضارة الكنعانية، بكل ما تنطوي عليه من سُبُل العيش، وطبيعة المكان الكنعاني-الفلسطيني، وما يتميّز به من جمال وحضارة. بعد قيامه بقراءتها مرارًا وتكرارًا، يكتشف «عمر» مدى أهميتها، فيقرر إخراجها إلى العَلَن خوفًا عليها من التّلف والضياع، فيقوم بتسليمها إلى «دائرة الأثار الكنعانية الفينيقية الفلسطينية»، التي قامت بدورها بطبعها وإصدارها في كتاب بعدما تأكدت من صحتها. من خلال المخطوطات الواردة في الرواية، والتي يتمُّ سردها من خلال «عمر»، نتعرَّفُ على الآلهة الكنعانية التي تُجَسِّدُ «الصراع بين الخير والشّرّ، والموت والحياة، صراعات بين الآلهة، نهايتها ينتصر الخير على الشّر». فمن ضمن هذه الآلهة، تشير الرواية إلى الإلهة الأم المُسمّاة «يمّ»، التي خلقت الحياة، حسب الأسطورة الكنعانية، وكانت هي روح الضباب والوجود الهولامي، إلى أن تحوّل الضباب الرّطب إلى مياه، فصار عرشُها على الماء، ثُمّ قامت واستخدمت أولادها وبناتها كثيران، فحرثت بهم البحر. فظهرت اليابسة، ونشأت عليها الحياة، ثُمَّ عيَّنَت ابنَها «إل» ليكون ربَّ الأرباب، وزوّجته إلى الربّة «عشيرة»، فأنجبا الربّ «بعل» بصفته إله الشّمس والحياة والموت، وربّ المطر والزّرع والإخصاب، وأختها «عشتار» ربّة البغاء المقدّس، و»بدريّة» ربّة العمل المبكّر...إلخ. من أشهر القصص التي تحكيها المخطوطات على لسان «عمر»، قصة الأمير «دانيال»، الذي كان يعمل بتجارة خمور النبيذ، وهو ابن «إلعال»، ملك مملكة غزة الفلسطينية الكنعانية. يصارح الولد أباه بحبّه للأميرة «إيزابيل»، ابنة «حزرائيل» ملك بيت سان (بيسان)، حيث كانا يلتقيان في بحيرات تلك المملكة، ويذهبان معًا إلى جبل حرمون (جبل الشيخ)، وتمخّض عن تلك العلاقة أنهما تواعدا على الزواج. يُصدَم الملك «إلعال» بهذا الطّلب، ويضطّر أن يشرح لـــ «دانيال» أنَّ «إيزابيل» أختَهُ، وأنَّ أمهما هي الملكة «بسمة»، وأنها ليست ابنة «حزرائيل» ملك بيت سان كما يعتقد. ويخبره أنَّ أباه كان قد غرق في البحر الكنعاني على شواطئ مملكة غزة، بينما كان قادمًا من بلاد الإغريق هو وزوجته، التي أُنقِذَت من الغرق، فولدته في غزة بعد موت أبيه. يُصدَم الأمير «دانيال» بهذه الحقائق، فيغضب على ضياع حبّه من جهة، ويفرح لتعرّفه على أمه من جهة أخرى. ولكي يتمّ إشغال الأمير «دانيال» عن هذا الموضوع، يطلب منه الملك «إلعال» السَّفَرَ إلى الممالك الكنعانية الأخرى لإقناعهم بضرورة التّكاتف والتوحّد ضد الملك الكبير الذي خرج عن دين الكنعانيين. يبدأ الأمير «دانيال» رحلته من مملكة بئر السّبع، مرورًا بمملكة الخليل، ومملكة بيت لحم، ومملكة أورسالم (القدس)، حيث يتعرّف هناك على الأميرة «فرح»، ابنة الملك «سالم». هذا التعارف الذي سيتحول إلى حبٍّ وزواج فيما بعد. ثُمَّ يواصل «دانيال» ترحاله إلى مملكة أريحا، ثم إلى مملكة بيت سان، ومملكة أوغاريت على شواطئ بحر الشام، ومن ثم العودة جنوبًا من هناك إلى مملكة جبيل الشاطئية، التي كانت تعتبر أكبر مصنع كنعاني لصناعة السفن الكبيرة، حيث كانت تُصّدَّر هذه السُّفن إلى مصر الفرعونية، وقرطاجنّة، وممالك شمال أفريقيا. توحي عتبات النصّ في رواية قصة عشق كنعانية إلى الغرض من تأليف الرواية، وإلى الهاجس الأساسي الذي شغل بال المؤلف على امتدادها. يثير عنوان الرواية تساؤلاتٍ وتأويلاتٍ وتشويقًا لدى القارئ: عن أي قصة يتحدث الكاتب؟ وما طبيعة هذا العشق؟ ومن هي أطرافه؟ فحين يَفرغُ القارئ من قراءة الرواية يمرّ بقصة حبّ مثيرة جمعت الأمير «دانيال»، ابن ملك غزة، بابنة ملك بيسان الأميرة الجميلة «إيزابيل». لكنّ العشق الحقيقي الذي عناه الكاتب هو عشقٌ أكبرُ وأعمقُ من حبٍّ بين رجل وامرأة؛ إنه عشق الأرض والوطن بكلّ تضاريسه وحضارته وجماله، عشق أرض كنعان-فلسطين الجميلة التي سُلبت من قِبَل اليهود في العصر الحديث، وتم طمس المعالم والحضارة الكنعانية قديمًا، والفلسطينية حديثًا. لذلك، اقتبس الكاتب، في مستهلّ الرواية، مقولةً لكيث وايتلام، مؤلف كتاب اختلاق إسرائيل القديمة-إسكات التاريخ الفلسطيني. يقول فحماوي نقلاً عن وايتلام: «يحتاج التاريخ الفلسطيني أيضًا إلى أن يخلق لنفسه فضاءً، حتى يتمكّن من إنتاج روايته الخاصة للماضي، وبهذا يساعد في استعادة أصوات السكان الأصليين، التي تمّ إسكاتها في خضمّ اختلاق إسرائيل القديمة». تكمن أهمية الاقتباس السالف في وجوب رفض مزاعم «الباحثين التّوراتيين»، الذين علا صوتهم في نهاية القرن التاسع عشر، متزامنًا مع ظهور الفكرة الصهيونية، وفكرة البحث عن وطن قومي لليهود، فقاموا بتمجيد «مملكة إسرائيل القديمة» وتعظيمها، وبالمقابل، تجريد الفلسطينيين من ماضيهم، مخالفين بذلك المعلومات الأثرية التي تُعطي صوتًا للتاريخ الفلسطيني. من هنا، جاءت هذه الرواية لتعرّيَ الروايات الصهيونية، وتفنّد مزاعم الباحثين التوراتيين، الذين اختلقوا إسرائيل القديمة وأسكتوا التاريخ الكنعاني-الفلسطيني. لذلك، قام المؤلف بتسليط الضوء على الحياة الكنعانية في أرض فلسطين وبلاد الشام، كاشفا ما تنطوي عليه من معالم حضارية، وقيم أخلاقية وإنسانية، وفنٍّ معماري لافت للنظر. على ضوء ذلك، يقتبس فحماوي، في مستهلّ الرواية أيضًا، مقولةً أخرى للشاعر الإنجليزي وليم بليك، تدعم وجهة نظر الكاتب. يقول بليك: «إننا نجد في الخيال حياةً حقيقيّةً أكثر واقعيّةً مما يسمّيه الناس، العالَمَ الحقيقيّ». فهنا يبُرز فحماوي التناقض والمفارقة بين الماضي والحاضر. فهو يرى أنَّ السّرد الوارد في الرواية، والقائم على القصص والأساطير الكنعانية، أكثر واقعيّةً وصدقًا من الواقع الراهن، الذي اعتراه الزّيف والتحريف على يد الباحثين التوراتيين ومَن دارَ في فَلَكهم. تأسيسًا على ذلك، واستجابة لمطلب كيث وايتلام حول ضرورة خلق رواية فلسطينية خاصة بالماضي، فإنَّ صبحي فحماوي يستعيد خلق الفضاء الكنعاني لتاريخه الفلسطيني، بما يتضمنه المكان من سلوك بشري، وميثولوجيا كنعانية، ونشاطات زراعية وحضارية وصناعية، وفنون صناعة التماثيل، وعلاقات تجارية مع شعوب أخرى، حيث كانت سفن الكنعانيين تمخر عباب البحر المتوسط، الذي كان اسمه «البحر الكنعاني»، لتصدّر البضاعة الكنعانية إلى مناطق بعيدة على امتداد السواحل المتوسطية، وإلى بلاد الإغريق والرومان. من العناصر الأخرى المكوِّنة لعتبات النص نجد الإهداء. فالإهداء غالبًا ما يكون لأحد أفراد العائلة؛ كالأم، أو الأب، أو الزوجة، أو الابن. وقد يكون الإهداء لزعيم سياسيّ، أو مناضل وطنيّ. وقد يكون رمزيًّا موجَّهًا نحو فكرة معيّنة، وقد يكون موجَّها لإحدى شخصيات العمل الأدبي. ففي قصة عشق كنعانيّة نجد أنَّ إهداء الكاتب موجَّهٌ إلى شخصية السارد ومكتشف المخطوطات «عمر». وقد جاء الإهداء قصيرًا وبلغة شعريَّة، على النّحو التالي: إلى ولدي عمر، الذي اكتشف كهف عناة، المتوَّج بالكنعانيّات، نافرات النّهود، كقطوف عنب النبيذ الناضجة. ينطوي الإهداء السّالف على إثارة واضحة؛ فهو يشوّقنا لمعرفة هُويّة «عمر»، ولطبيعة العلاقة التي تحكم الكاتب به؛ هل هو ابنه الحقيقي أم أنَّ النَّسب بينهما مجازيٌّ. فالقارئ حين يدخل في أجواء الرواية يكتشف الدّور المحوري الذي يؤدّيه «عمر»، مكتشف كهف «عناة»، ومكتشف الأسرار الكامنة في المخطوطات، والتي تُفصِح عن حضارة الكنعانيين العظيمة، مُستعيدًا بذلك الأصوات المُسكَّتَة للسكان الكنعانيين. من هنا، نكتشف أنَّ «عمر» هو المفتاح الذي من خلاله تمَّ اكتشاف المخطوطات الكنعانية، والتعرّف على حضارة الشعب الكنعاني منذ آلاف السنين في بلاد فلسطين والشام، وكيف أنّهم عمّروا البلاد، وأنشأوا حضارة عظيمة، خلافًا للمزاعم الصهيونية التي روّجت لمملكة داوود والعبرانيين، وغيّبت الحضارة الكنعانية، سعيًا منها إلى كسب شرعيّة لوجودها على أرض فلسطين. بانتقالنا من رواية قصة عشق كنعانية إلى رواية هاني بعل الكنعاني، نجد أنّ صبحي فحماوي قد صدَّر روايته باقتباسات دالّة وموحية، صادرة عن الكاتب نفسه وعن شخصيات الرواية. كذلك قام، في مستهل الرواية، باقتباس «نص أوغارتي» من أجل الإشارة إلى عظمة الحضارة الكنعانية، والكشف عن البعد الإنساني والأخلاقي الذي ميّز هذه الحضارة منذ فجر التاريخ الإنساني. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 24-11-2023 05:52 مساء
الزوار: 452 التعليقات: 0
|