|
عرار:
في هذه الزاوية الثقافية "نصوص في الذاكرة" تفتح الجزيرة نت مساحة لتذوق النصوص العربية والمترجمة، لتتحدث الكلمات بألسنتها بلا وسطاء، إيمانا منها بأولوية النص (الشفهي والكتابي) لبناء القيم والأفكار وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك، حتى في عصر هيمنة الصورة. تختار هذه النافذة مجموعة منتقاة من نصوص الأدب والفكر والتاريخ، التراثية والمعاصرة، في مجالات ثقافية متنوعة، وتكتفي بمقدمة قصيرة تفتح الباب بعدها للنصوص ذاتها لتشرق معانيها بلا حجاب، وقد أضاف المحرر إليها -أحيانا- هوامش شارحة موجزة. هذه المجموعة مختارات شعرية من سماوات الشعر العربي، حيث تتلألأ نجوم الأدب العالية، ويلفت الأنظار شاعر استثنائي ببيانه وأسلوبه الفريد وحكايته الأسطورية. إنه "ديك الجن" المولود في العصر العباسي، ورغم غياب أي سجلات تاريخية تثبت وجوده الحقيقي، بدا -في السير والترجمات- كشاعر جني يتجول بين الصحراء والمدن، مخترقًا حجب الناس ويتغنى بشعر الموت والحب والحكمة والجنون، وهو القائل: ما شدّةُ الحِرصِ مِن شأني ولا طلَبي لكنْ نوائبُ نابَتْني وحادثةٌ وليس يعرِفُ لي قَدْري ولا أدبي ويعد "ديك الجن" (عبد السلام بن رغبان الحمصي)، بلسانه البليغ وقريحته الشعرية، مرآة عاكسة للثقافة العباسية وتعطشها للمعرفة والأدب. كان شعره وسيرته محفوفين بالغموض والإعجاب، وجاء إبداعه كثمرة لتلاقح ثقافات العصر العباسي، مما جعله مصدر إلهام للأجيال المتعاقبة من الشعراء والأدباء، مذكرًا بأن الشعر ليس مجرد كلمات مرصوفة بل هو سحر يخترق القلوب ويتعدى حدود الزمان والمكان، ومن شعره في الفقد والغزل قوله: وَدَّعْتُها ولَهِيبُ الشّوْقِ في كَبِدي وَدَاعَ صَبّيْنِ لَمْ يُمْكِنْ وَدَاعهما وَدَّعْتُها لِفِراقٍ فاشْتَكَتْ كَبِدِي وحاذَرَتْ أَعْيُنَ الواشِينَ فانْصَرَفَتْ فكانَ أَوَّلُ عَهْدِ العَيْنِ يومَ نَأَتْ جَسَّ الطّبيب يَدي جَهْلًا فقلتُ لهُ ليسَ اصْفِراري لِحُمّى خامَرَتْ بَدَني فقال هذا سَقَامٌ لا دَواءَ لَهُ تحكي النصوص الموجودة في كتب التراث قصة "ديك الجن" بتفاصيل مختلفة ومتنوعة، وتُظهر كيف أن حكايته أصبحت أسطورية بمرور الزمن. بدأت القصة بعلاقة حب بين ديك الجن وجارية نصرانية من حمص، أسلمت وتزوجها، يتحدث النص عن مرحلة من حياته حيث وقع في ضائقة مالية وسافر على إثرها لكسب المال، ولكن زعم قريب له بأن زوجته كانت تخونه مع غلام، مما أدى به إلى قتلها ظلما وأصابه الندم العميق على جريمته. القصة معقدة ومتشابكة وتُظهر كيف يمكن للروايات أن تتغير وتتطور مع الزمن، معتمدة على من يرويها والغرض من الرواية. يعكس التنوع في الروايات طبيعة تاريخ الأدب وكيف يمكن أن يتأثر بالحذف والإضافة من قِبل الرواة عبر الأجيال. ويقول "ديك الجن" في قصيدة من غزلياته: سهام لحاظ من قسي الحواجب غداة كتبنا في الخدود رسائلا تلوح على لباتنا ونحورنا وألسننا خرس كأن خلاخلا كفتك النوى عذل المعنى فأقصري حناه الهوى بالشوق حتى كأنما يبيت على فرش الضنى متململا فريسة أشجان طريحا بكفها خليلي خان الصبر وانقطع الكرى خليلي عن عيني سلا أنجم الدجى خليلي كم من لوعة قد كتمتها وهتك سترا في الحشا كان مسبلا فما أفضح الدمع السكوب إذا جرى سأكحل عيني من بعيد بنظرة وهل تمنعيني نظرة إن بلغتها وقل لعيني من بعيد تأمل فعللت نفسي بالذي هو مقنعي صفاء وإخلاصا وبقيا مودة وفي النفس مني قد طويت مآربا لها من مهاة الرمل عين كحيلة كأن غلاما حاذقا خطه لها أقاتلتي أما أنا فمسالم ولكن لقومي عند قومك بغية فإن تقتليني تبعثي الحرب خدعة فإن يخل لي وجه الحبيب فإنني وإلا فإن الستر عندي مكتم لئلا يرى الواشون قرة أعين وقد زعموا أني بغيرك مغرم ولا والثنايا الغر من فيك إنها كأن دموع العاشقين ترقرقت لما كنت إلا مقصدا بك مغرقا إذا فرماني الدهر عن قوس هجركم فقل كرى عيني لهم مسهد ويعد أبو الفرج الأصفهاني من أوائل من تناولوا مأساة "ديك الجن" في كتابه الشهير "الأغاني"، ويقدم الأصفهاني القصة بوجه يقارب الواقعية، متناولًا علاقة ديك الجن بجارية من حمص اسمها ورد، ويتبع ذلك بتفاصيل تدور حول محنته المالية والخيانة المزعومة التي أدت إلى القتل والندم، ووصف الأصفهاني ديك الجن بأنه "شاعرٌ مجيد، يذهب مذهب أبي تمّام والشاميين في شعره"، ويقول في بعض شعره: لا متُّ قبلكِ بلْ أَحْيَا وأنتِ معا لكنْ نعيشُ كما نَهوى ونأملُهُ حتى إذا ما انْقَضَتْ أَيّام مُدَّتِنا متنا كلانا كَغُصْنَيْ بانَةٍ ذَبُلا في مِثْلِ طَرْفَةِ عَيْنٍ لا أذوقُ شَجًى ثُمَّ السّلامُ علينا في مَضاجِعِنَا فإنْ نَنَلْ عَفْوَهُ فالخلدُ يَجْمَعُنا حتى يقولَ جميعُ الخالدينَ بها وامتدح ابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق" ديك الجن ومعرفته بالموسيقى والغناء وما لهما من أثر في تهذيب الذوق والمزاج، ونقل تفاصيل مغايرة قليلًا عما ورد عند الأصفهاني، ولكنها أيضا تحكي عن المأساة العاطفية والحادث المأساوي الذي شهدته حياة ديك الجن. وكذلك الأمر رواية ابن خلكان في "وفيات الأعيان" الذي وصف ديك بالجن بأنه كان "ماجنا خليعا، عاكفا على اللهو متلافا لما ورثهُ، وشعرهُ في غاية الجودة". ورواية داود الأنطاكي صاحب "تزيين الأسواق في أخبار العشاق": الذي روى القصة وقال عنه "كان أديبًا حاذقًا لبيبًا، كأنما تنطق قريحته بالرقة واللطافة والغزل والظرافة". وقال عنه ابن رشيق صاحب "العمدة" إن "ديك الجنّ هو شاعر الشام، ولم يُذكر مع أبي تمّام إلّا مجازا، وهو أقدمُ منهُ، و قد كان أبو تمّام أخذ عنهُ أمثلة من شعره يحتذي عليها فسرقها"، ومن أشهر أشعاره قوله: يا نفس لا تسأمي ولا تضِقي وارسي على الخطْبِ رَسْوَة الهُضُبِ صوني شعاع الضمير واستشعري الصبر وحسن العزاء واحتسبي ولا يمكن الحديث عن ديك الجن، دون الحديث عن مدينته التي يقال إنه لم يبرحها، إنها حمص، تلك المدينة العريقة التي تزهو بتضاريسها وبساتينها ونهرها "العاصي"، مما أكسب سكانها طباعا فريدة ومزايا نفسية عميقة. تتجذر حمص – التي أطلقت اسم "ديك الجن" على أحد مناطقها المطلة على نهر العاصي- في التاريخ، حيث تعاقبت على سكناها حضارات متعددة من الأموريين والحثّيين والفينيقيين والآراميين واليونان والرومان إلى العرب والأتراك، مخلفة وراءها قصصًا وأساطير تروى. ذُكرت حمص في الكتب المقدسة وكانت مسرحًا لمعارك تاريخية مثل معركة "قادش"، وشهدت أيضًا تحولات مهمة مثل المعركة التي هزم فيها "أورليان" الملكة "زنوبيا". عانت حمص من زلازل مدمرة، لكنها دائمًا ما نهضت من جديد، وبرزت مكانة حمص في العهود الإسلامية، خاصة في فتحها في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، واستمرت في لعب دور مهم طوال العهد الأموي وبدايات العباسي. ومع ذلك، شهدت فترات من العصيان والثورات ضد الحكام العباسيين، وعرفت تقلبات واضطرابات كبيرة، ويقول ديك الجن في قصيدة من رثائياته: على هذه كانت تدور النوائبُ نزلنا على حكم الزمان وأمرهِ المصدر: الجزيرة نت الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 09-02-2024 09:36 مساء
الزوار: 194 التعليقات: 0
|