لمحة عن كتاب المجموعة القصصية «فاطمة حتى التعب» للقاص هاني الهندي
عرار:
أحمد الكواملة يفيض ما يكتبه القاص والكاتب هاني الهندي من قصص قصيرة وغيرها، رهافة وشجنا وحضورا لأثر الزمن الجميل، والأماكن الأثيرة، والذكريات العبقة بالوجد الإنساني الذي لا ينسى. هو يحتفي بصورة الحبيبة/ الوطن، والوطن الحبيبة، وهو يحدثنا عن «فاطمة»، وقد أحسن إذ وسم مجموعته بـ»فاطمة حتى التعب». و لان فاطمة رفيقة الدرب المتعب «المرأة.. الوطن» فهي لا تغيب عن أكثر قصص المجموعة، إذ ورد ذكرها في خمس عشرة قصة، من أصل ثمان وعشرين. و لفاطمة «هاني الهندي» دلالة مجازية وواقعية، إذ يشير في الغلاف الأخير لمجموعته، حيث فاطمة: - بنت القرية الريفية التي تعودت أن تقبل الأرض كل صباح. - هي الزوادة التي يحملها الفلاح إلى حقله. - هي في عيون الأطفال دمعة. - وفي نفوس النساء زفرة. - وفي ذهن الرجال أمل. - فاطمة بنت المدينة التي ما بهرتها أضواؤها، ولا بناياتها العالية. - فاطمة هي الكوخ الصغير وسط كل المباني الباردة، كوخ تلم فيه الأسرة الطيبة، تمسح غبار السنين عن الوجوه المتعبة. - فاطمة في عيون الأطفال صرخة. - وفي عيون النساء تنهيدة. - وفي ذهن الرجال عمل.. هذه فاطمة «الواقع والمجاز». هي تقف كتف بكتف مع رفيق دربها، يحولون معا «القحل، إلى حقل» يفيض بالحياة. هي زوادته التي تزيده بذلا وعطاء، هي زوادة الأرض بما تفيض عليها من حب وحدب، يدفعها للخصب والنماء. فاطمة «الأم.. الأرض» تجعل الأطفال يبكون دفء حضورها، وهي تترك فراشهم صباحا، لتقبل وجه الأرض «أمهم الكبرى»، وتمسح بيد حانية جبين رفيقها المتعب. و هي بفتنتها القروية وكدها الذي لا يقف عند حد، وحدبها على رفيق دربها، تجعل أترابها من النساء، يجهدن على أمل محاكاتها.. وهيهات.. فلا يملكن إلا أن يملأن صدورهن بالزفرات الحسيرة. وفي بئر اليأس وعتمة الدرب، تكون فاطمة في نظر الرجال.. أملا بالحاضر والغد المشرق. فالأم الكبرى «الأرض» التي أنجبت «فاطمة» قادرة بكل تأكيد أن تنجب فواطم أكثر واشد حضورا وعطاء وجمالا. تحل الكارثة «النكبة الكبرى» تخلع جذور فاطمة من رحم الأرض، لتلقي بها في مدينة حزينة محزنة، تطحن المشاعر والآمال والبشر. متاهة كبرى، لا يكاد رفيقها الفلاح يستبين لها أفقا يفضي إلى أمل ما. فتكون فاطمة الأمل الذي لا ينطفئ، تحول من حضورها السامق كوخا «موطنا» مكانا لاستراحة محارب، خيمة تجمع ضحكات الصغار وأرواحهم، مكان يحيى في النفوس أملا ما. إنها فاطمة رغم كل التعب، تذكر الجميع، بأنها هي هي لا تتغير. إنها الحبيبة، الأم الكبرى. مشعلة نيران الفجر القادم. ورفيقة الدرب، الذي بدايته الأرض.. ونهايته وطن قادم لا محالة.. فاطمة حتى التعب: هذه الفاطمة، العادية والاستثناء، التي أجبرته أن يدرج لها قصة بذات الاسم، وأن يهدي مجموعته إلى كل الفواطم، وهو لا يعني سواها «الأنثى، الوطن» يقول: «إلى فاطمة.. كل النساء الطيبات، إلى فاطمة، يتمدد بداخلها الوطن.. اعشقها وتعشقني.. حتى التعب..! فاطمة هذه.. كانت تنتظره قبل خمسين سنة.. حين كانت لها قامة جميلة.. وخدود متوردة.. وشعر اسود طويل تباهي به نساء القرية.. حين كانت تقول: «يا ارض اشتدي ما عليك قدي» كانت تنظر عودته بلهفة والم وأمل، ودموع حسرات، يمر اليوم في غيابه كأنه عام، هذا حال العاشقة والمعشوقة.. والحال هو الحال، بعد خمسين سنة، تنتظر عودته بذات اللهفة والألم، والأمل والشوق ودموع الترقب، لم تعد كما كان، انحنى الطول الجميل، وابيض الشعر الأسود، وتعرقت الأيدي اللدنة وتجعدت، وأخذت إبرة التطريز من دمها ونور عينها ما أخذت، لم تعد تضرب الأرض بخطوتها الواثقة، القيام بحساب، والحركة بحساب، غير أن الحنين والشوق للمعشوق، رفيق الدرب الغائب، بكامل جذوته وبهائه، كما كان سابقا بغير حدود أو حساب. تكنيك البساطة: بكل سلاسة ويسر ودون تقيد وفذلكات، وبتقنية الراوي الجاذبة أكثر الأحيان، وبالمنالوج الداخلي بعض الأحيان، وبتجاوز لطيف لخصيصة القصة، إلى سمات الخاطرة في مواضع محدودة، وفي حالة انثيال نفسي خفي، وفق تلاقح أصبح مألوفا للأجناس الأدبية. وهكذا وبجمل رشيقة محدودة الكلمات بالغة الأثر، وبمجازات قريبة، بعيدا عن الإبهام المغرق في فراغه، وبلغة لا تخلو من إيهام شفيف، يقدم لنا القاص والكاتب هاني الهندي تجربته الإبداعية، التي تبوح بحضور إنساني في غاية الحميمية والرهافة.