|
عرار:
زياد صالح الزعبي تمثل الحروب الصليبية التي شنها الغرب على الشرق العربي بهدف معلن وهو تحرير القبر المقدس نقطة تحول تاريخية لم تبق حبيسة الإطار التاريخي الذي جرت أحداثها فيه، بل جاوزته إلى زمننا هذا، فهي تحضر في الأحداث الكبرى التي يفرضها الغرب على الشرق العربي بخاصة، مما يعني أنها ما زالت تمتلك صورة مرهنة يجري التعبير عنها في غير سياق. وهو ما نشهده الآن فيما يمكن تسميته بالحملة المرعبة الراهنة التي يحتشد لها الغرب بكل مكوناته التاريخية والثقافية والدينية. وهو ما يمثله الصراع على امتلاك الأرض المقدسة وتطويبها، وقلبها القدس، الصراع الذي تنخرط فيه القوى الغربية كما انخرطت فيه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين مع تبدل واضح في التحولات الدينية التي انتقلت من صراع على تحرير القبر المقدس إلى صراع على الامتلاك الأسطوري الديني للأرض المقدسة التي تقتتل فيها الأديان على نحو دموي يمارسه الغزاة على أصحاب الأرض وأنبيائها، إذ لم تتورع الحملة الصليبية الأولى، التي رفعت شعار تحرير المقدس، عن الولوغ في دم المقدسيين، ولم تستثن اليهود من المقتلة. تلك الحملة التي يثبت مؤرخوها أن قتلت سبعين ألفا من سكان القدس (انظر كتاب فوشيه الشارتري المؤرخ المعاصر للحملة). وحين حرر صلاح الدين القدس عفا عن غزاتها، وغدا اسمه في الغرب «سلادين» نموذجا غريبا في التسامح الغريب على الثقافة الغربية التي أدمنت القتل ومارسته، وتمارسه بكل ما تستطيع من العنف والبربرية. فقتل شعب وتشريده من أرضه، وارتكاب جرائم قتل مروعة بحقه لم تحرك مشاعر الإنسانية في الغرب، عدا عن الحالات الإنسانية الفردية التي لا تغير في المواقف والقرارات شيئا. هذا الفعل المرعب الذي لا يستند إلا إلى القوة الغاشمة، والعنف البربري الهمجي يجد تبريره بمقولات عجيبة تصم أصحاب الأرض والحق بكل ما في قواميس الغزاة والقتلة من مصطلحات مثل الإرهاب والعنف والقتل، وهي مصطلحات ترسخها سيطرة إعلامية لغوية هائلة تفرض نفسها على الآخرين فرضا، وتجعل من نفسها حكما يجب عليك قبول حكمه، ولا سيما أن فضاءك اللغوي الخاص يلح على إسماعك إياها آلاف المرات، مستجلبا أعداءك ليحدثوك عنك و يسمعوك رأيهم فيك، وهم في المقابل يحتكرون فضاءهم لهم، ولا يمكنك أن تجد طريقا لخطابهم، أو ليسمعوا منك. هذا عمل يدخل في باب الأسطورة التي تكررت فغدت شيئا مألوفا. الحرب والحب: للشاعر الألماني ألبرشت فون يوهانسدروف الذي عاش في النصف الأخير من القرن الثاني عشر (ت. بعد 1209)، وشارك كما يقال في الحملة الصليبية الثالثة التي تشكلت بعد هزيمة الصليبين في معركة حطين واستعادة القدس- ثلاثة عشر نصا شعريا، منها خمسة نصوص تتعلق مباشرة بالحملة الصليبية. وهي نصوص تقيم صلة ذات بعد ديني بين الحب الإلهي والحب المتعلق بامرأة – حبيبة. وهو في عمله هذا يمثل ظاهرة في الأدب الألماني عرفت « بأغاني الحملات الصليبية» kreuzzugslieder، وهي ظاهرة تعبر عن بعدين مترابطين: الأول يتعلق بالمشاركة في الحملة الصليبية التي تهدف إلى تخليص القبر المقدس من أيدي الكفار، والثانية تعبر عن التعلق بامرأة حبيبة تجسد صورة من التكامل بين الحب الإلهي وحب المرأة. هذا التكامل الروحي الذي يستند إلى كون المشاركة في الحرب الصليبية يمثل في الوقت نفسه خدمة للمرأة المحبوبة التي تحصل نصف الجزاء الإلهي الذي يناله الحبيب المشارك في الحملة الصليبية. لقد تشكلت هذه الظاهرة بعد الهزيمة التي حلت بالصليبين في معركة حطين، وهو ما استدعى الدعوة المحمومة للحملة الصليبية الثالثة، التي اشترك في الدعوة لها عدا عن حكام الغرب، شعراء وخطباء كتبوا العديد من القصائد والأغاني في رثاء المدينة المقدسة والدعوة لإنقاذها من سيطرة الكفار الوثنيين. لقد غدت هذه الظاهرة محط اهتمام الباحثين الألمان، فثمة كتب ودراسات عديدة قرأتها، ووقفت على أبعادها، والشعراء الممثلين لها، والبنية التي اعتمدت عليها. وهناك دراسة مبكرة لـ يوهانس هورنهوف، وهي رسالة دكتوراه بعنوان « مغني الحب البرشت فون يوهانسدورف» الصادرة في فينا عام 1889م. ودراسة بعنوان « معنى الحب في الأغاني الصليبية في أواخر القرن الثاني عشر « الصادرة عام 2002، وهي لـ يوليا شتارك، ورسالة علمية لـ آجنس ماريا كوسنر بعنوان « هوهنشتاوفن والحروب الصليبية» الصادرة عام 2008 ، وهي تدرس الحروب الصليبية والفن الشعري المتعلق بها. وينبغي أن يشار هنا أن من الصعب الذهاب إلى عمل تصنيفي استقصائي للدراسات والأبحاث عن هذه الظاهرة، ويكفي أن يذهب إلى محرك البحث غوغل ليقف على مئات الأبحاث والدراسات عنها. سأقف هنا على واحدة من قصائد فون يوهانسدورف، وهي قصيدة غزلية- دينية منبثقة ومرتبطة بالموضوعة الصليبية، وتصنف في إطار أغاني الحملات الصليبية. وهي قصيدة نموذج لمئات النصوص التي تماثلها، وتدخل في سياق الموضوعة الصليبية التي شكلت ظاهرة في الأدب الأوروبي، وأخص هنا ألمانيا، وهي ظاهرة تعبر عن مرحلة تاريخية ما زالت تملك حضورا راهنا في الأدبيات الغربية، وبرزت وتبرز في صور متعددة بعضها يقع قي دائرة النصوص الإبداعية، وبعضها في سياق الدراسات الأدبية العلمية، وهي تعد بالمئات، وتركز على دراسة هذه الموضوعة في نشوئها وأصولها ومظاهرها وامتداداتها. ونص قصيدة ألبرشت فون يوهانسدورف: ربما يستطيع الموت أن يبعدني عنك لكن لا أحد، لقد اقسمت على ذلك ليس صديقي من يريد أن يكرهك إلي لأنني اخترتك لتكوني فرحي إن كنت سبب غضبك فإني ملعون من الله كالكافر لقد ولدت حبيبتي نبيلة وعظيمة أيها الرب العظيم، من رحيما بنا الاثنين حين رأت الجميلة الصليب على ثيابي قال النبيلة قبل أن أرحل عنها: كيف تستطيع فعل الأمرين معا أن ترحل عبر البحر وأن تبقى هنا الآن يا حبيبتي لا تكوني حزينة أريد أن أراك دوما فرحي علينا أن نذهب إلى هناك من أجل عظمة الرب وبسرور لننقذ القبر المقدس ومن يسقط هناك فإنه يسقط مستريحا حيث لا أحد في الحقيقة يسقط إنني أعني: الأرواح ستكون سعيدة حين تعود، وسط الاحتفاء بها، إلى السماء. تتكون القصيدة كما هو واضح من ثلاثة مقاطع: الأول منها يحمل تعبيرا رومانسيا عن فكرة الارتباط بالمرأة المحبوبة، وهو ارتباط أبدي لا يحله سوى الموت، وكل من يحاول الفصل بين المحبين فإنه ملعون كالكافر. والمرأة هنا سبب الفرح وهي نبيلة وعظيمة. ويختتم المقطع بدعاء ديني « ليكن الله رحيما بنا نحن الاثنين». أما المقطع الثاني فموضوع على لسان المرأة، وهو مقطع يحمل تعبيرا مباشرا عن الحملة الصليبية، « حين رأت الجميلة الصليب على ثيابي»، وهو الشعار الذي وسم المشاركين في الحملات الصليبية، قالت: كيف تستطيع الأمرين معا: أن ترحل وأن تبقى هنا في الوقت نفسه، وهو تعبير يحمل دلالة إيحائية واضحة على حبها له، فهو وإن رحل عبر البحر يبقى هنا في قلب الحبيبة. أما المقطع الثالث فتعبير عن الرباط الروحي مع المرأة – الحبية فيخاطبها بأن لا تحزن وأنها سبب فرحه، لكن عليه أن يذهب إلى هناك، إلى القدس لإنقاذ القبر المقدس، وإن سقط قتيلا هناك فإنه يسقط مسرورا – إذ كما يرى لا أحد يسقط هناك – لأن الأرواح ستعود إلى السماء وسط احتفاء بها. والنص هنا ذو طابع وداعي يصور لحظة الفراق أو الوداع بين المرأة والشاعر الذاهب لإنقاذ القبر المقدس. هذا النمط أو النوع الشعري يعبر عن حالة من الحمى الدعائية الدينية التي مارسها الغرب في العصور الوسطى ضد الشرق، وهي ترتبط تاريخيا بتحرير القدس بعد معركة حطين، وهذا ما أثار موجة جديدة من التحشيد الغربي المحموم الذي يلبس لبوسا دينيا يحكمه تعصب أعمى لا يرى أي قيمة إنسانية للأخرين، ولا يقيم وزنا إلا للقوة الرادعة. وهو ما تمثل بالموقف الغربي بعد انتصار صلاح الدين في حطين، وهو انتصار علم الغرب أمرين معا: الأول يتعلق بالقوة التي تفرض على الآخرين احترامك، والثاني يتجلى في البعد الإنساني الحضاري الذي تجلى بالتعامل مع الصليبين في القدس. فليس ثمة حمى دينية تقود لارتكاب مذبحة كتلك التي ارتكبها الصليبيون في حملتهم الأولى التي اقترفت مذابح متنقلة شهدتها الأماكن التي مروا بها، ولم يسلم منها لا المسلمون ولا اليهود. وهو ما تثبته المصادر التاريخية الأوربية، ومنها معاصرو الحملة، مثل فوشيه الشارتري. ولعل دراسة توماس ف. مادن المعنونة « أنهار من الدم .... Thomas F. Madden: Rivers of Blood: An Analysis of One Aspect of the Crusader Conquest of Jerusalem in 1099 « المنشورة باللغة الإنجليزية التي استحضر فيها الكثير من الاقتباسات المتعلقة بالمقتلة الرهيبة التي حدثت في القدس تمثل ترهينا مثيرا للتفكير، وخاصة حين يورد جزءا من محاضرة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون التي ألقاها في جامعة جورج تاون بعد شهر واحد من أحداث 11/ سبتمبر والتي وضع فيها هذا الحدث في سياق تاريخي ثقافي حيث ذهب إلى أن الأوربيين على الأرض الأمريكية ليسوا بمنأى عن اللوم، فهم أحفاد الحملة الصليبية الأولى التي ارتكبت مجازر مروعة ضد المسلمين واليهود في القدس، ونحن اليوم ، كما يقول كلنتون، ندفع الثمن. إن تأمل أغاني الحملات الصليبية في الغرب تبدي بجلاء معنى الغزاة الغرباء الذين لا تعرفهم أرض الشرق ولا لغاتها ولا أنبياؤها، فهم الطارئون عليها الذين كتب عليهم الرحيل عنها طال الزمن أم قصر، وفي هزائم التتار والصليبين عبر. تعتمد هذه المقالة على طيف واسع من المصادر الألمانية. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 30-08-2024 10:23 مساء
الزوار: 72 التعليقات: 0
|