دفعت الحرب على غزة الشعراء العرب إلى نظم مئات القصائد في هذا الحدث المهم، فظهرت في الصحف ووسائل التواصل الاجتماع قصائد من الشعر العمودي والتفعيلي والنثري، كما نظمت لقاءات وندوات شعرية في كثير من البلاد العربية، ولفت ذلك، ولما تزل المعركة مستمرة، الشاعران الدكتور صلاح جرار وسعيد بعقوب فهبا إلى جمع كثير من هذه القصائد في كتاب جاء عنوانه «ديوان طوفان الأقصى»2024. في معظم هذه القصائد التي قيلت في الحرب على غزة إدانة لما تفعله إسرائيل في فلسطين، وبخاصة في قطاع غزة من قتل المدنيين وتجويعهم، وحرق المستشفيات، وتدمير المساجد والمخابز وأماكن الإيواء، وهدم المنازل على رؤوس السكان الآمنين. وفيها الحث على الصمود، والوقوف في وجه الهجمة الصهيونية، والتنبيه إلى مخاطرها ليس على فلسطين وحدها، بل على الأمة العربية كلها. كما امتدحت هذه القصائد ما حققه المقاتل الفلسطيني في هذه المعركة، وما قدمه من بطولات تقترب من المعجزات. يلاحظ أن هذه القصائد كلها كانت تحت إلحاح اللحظة. جماعات من المقاومة الفلسطينية تواجه القوات المحتلة المدججة بالأسلحة الفتاكة؛ فما على الشعراء إلا المشاركة في هذه الحرب بما يستطيعونه وهو الشعر. لقد هدفت القصائد إلى التعبير عن الحرب على غزة، والتعريف ببطولات المقاومين الفلسطينيين، ونقل المشاعر العربية القومية إلى جسد القصيدة، والتعبير عن مركزية القضية الفلسطينية، وبخاصة القدس التي تعد المحور الذي يدور عليه الصراع في هذه المنطقة من العالم. لكن السؤال المهم: هل استطاعت هذه القصائد أن تنجح في مهمتها من الناحية الفنية والفكرية؟ إن الاطلاع على ما قيل من شعر في الحرب على غزة يتيح لنا القول: إن معظم القصائد التي نظمت في هذه المناسبة العظيمة (باستعارة من عالم الطهو) نيئة. ويمكن للقارئ الكريم الرجوع إلى الكتاب المذكور «ديوان طوفان الأقصى» ليرى نماذج كثيرة لهذا النوع من الشعر. لقد قرأنا قصائد ركيكة المعنى، تستحضر بطريقة فجة أمجاد الماضي، واستخدام الألفاظ البالية، والصور القديمة، والأفكار والصور المتداولة، والمعاني المباشرة والتقريرية، وقوة الإيقاع الذي يبدو خاصة في البحور التقليدية، والمبالغة في المدح والفخر على طريقة المتنبي في وصف معركة الحدث، ومدح سيف الدولة الحمداني في قصيدته التي مطلعها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وكذلك على طريقة أبي تمام في وصف معركة عمورية، التي لبى فيها المعتصم نداء تلك المرأة التي استنجدت به عندما تعرض لها جندي من الروم ومطلعها: السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب وجه الغرابة أنا قرأنا قصائد رديئة لشعراء جيدين. ربما هبطت قيمتها الفنية بجيشان العاطفة وشدة الانفعال؛ لأنها قيلت تحت ضغط اللحظة، وفجائية الحدث، والإحساس الوطني بضرورة المشاركة الشعرية في هذه المناسبة التاريخية، كما حدث مع مجيء كورونا 19، عندما ظهرت قصائد ركيكة من وحي تلك المناسبة لشعراء جيدين. ونضرب المثل من قصيدة لشاعر معروف، تتميز بلغة جافة: فاعْزِفْ عن الأقلامِ والوَرَقِ أبطال غزَّة طوَّروا لغَةً مَنْقُوشةً في الأرضِ والأفقِ واسْتَحْدَثوا لِجِهادِهِم طُرُقاً ما مِثلها في الحرْبِ من طـُرُقِ كمْ أذْهَـلوا الدُّنيْا بما فَعَلوا بالفِكرِ والإيمانِ والعرَق فأي شعر باستخدام الجمل: طوروا، واستحدثوا، وكم أذهلوا عدا عن الأفكار والمعاني الضعيفة؟ لا شك في أن أمثال هذا الشعر شعر ميت بخلاف الشعر الحي الذي يخلد بعد رحيل صاحبه، كما يرد في قول الشاعر دعبل الخزاعي: يَموتُ رَديءُ الشِعرِ مِن قَبلِ أَهلِهِ وَجَيِّدُهُ يَبقى وَإِن ماتَ قائِلُه إن الشعر الرديء لا يرتقي فنيًا وجماليًا إلى مستوى المقاومة الفلسطينية، وإلى قضية القدس، وإلى أدب المقاومة، فقد قدمت القضية دون عمق، دون عاطفة صادقة، دون لغة شعرية موحية، ودون فكر يمجد الإنسان، ويعلي من شان الحياة، ويعبر عن صمود الإنسان الفلسطيني وصبره. فالشعر ليس بالإيقاع الهادر، والأفكار الضحلة، والألفاظ الجامدة، والصور والرموز الباهتة. فكما يرى أدونيس:» «لا يسرد، ولا يخبر، ولا ينقل أفكاراً، ولا يصدر عن العقل والمنطق، ولا عن العادة والتقليد. وإنما يوحي، ويومئ، ويشير، فاتحاً للقارئ أفقاً من الصور، مؤسساً له مناخات من التخيلات» إن ما تريد معركة الأقصى من الشعراء أن تخلد في قصائد متميزة بلغتها الخاصة، ومضمونها وشكلها وموسيقاها. قصائد تؤثر في المتلقي فيحس بالمأساة، ويتعمق لديه كره الظلم والعدوان، والانتصار للحق، وإدانة الوسائل التي يقوم بها العدو الإسرائيلي في تدمير الحياة.