يوسف بكار لا يحتاج منا لتعريف، فمؤلفاته من الغزارة والعمق بحيث تجعل منه علما لا يبارى نتاجه، ولا تضاهى كتبه، لا سيما في الأدب المقارن، تنظيرًا وتطبيقا، وقد وقع بين يدي كتاب له نادر المثال، وقليل النظير، وأعنى بهذا الوصف إن لم أقصر عنه في النعت، كتابه رياداتٌ منسية في الأدب العربي المقارن. والكتاب الذي صدر في العام 2019 كتاب ذو حكاية طويلة، وذِكْرها في غرة هذا المقال ليست من باب التزيد والفضول، ولا من باب التطويل غير المقبول. فقبل ربع قرن من تصنيفه هذا الكتاب شارك في مؤتمر في جامعة القاضي عياض عن «وثائق ريادية منسية في الأدب العربي المقارن» 1989 ونُشر البحث في «آفاق الإسلام» بعد سنوات خمس. ولكن المؤلف كغيره من الشغوفين بالتحقيق، والتدقيق، والنبش في التراث، القديم منه وغير القديم، ظل في توق شديد، وحرص عنيد، لاكتشاف الكثير من الحقائق، في هذا الموضوع الرائق، الذي ما يزال حقله بكرا، ولا يخلو البحث فيه من إضاءات يزداد بها الموضوع أدبا وفكرًا. كان قد عرض في ذلك البحث لما ذكره من سبقوه، كمحمد يوسف نجم، وهاشم ياغي، وحسام الخطيب، وعطية عامر، وسعيد علوش، وعز الدين المناصرة، ومدحت الجيار، وعصام بهي. وهؤلاء، على الرغم مما قدموه من آراء مبكرة، وأصيلة، تستحقّ الاهتمام، جديرة بالتقدير والإلمام، إلا أن بعضهم خلط بين الموازنة والمقارنة. فسليمان البستاني قابل بين الأدبين العربي والغربي، متصديا كغيره للسؤال: ما الذي لدى الغربيين من الأدب يفتقر إليه أدبنا؟ مؤكدًا أن الملحمة لا يخلو منها الأدب العربي وإن كانت في زي غير الزي الغربي، وإهاب ظاهره وباطنه عربي شرقي. وأما محمد روحي الخالدي فقد عني في كتابه «علم الأدب عند الإفرنج والعرب» بما هو متشابه، وغير متشابه، في الأدبين العربي والغربي، وقلة منهم اقتربت من مفهوم المقارنة؛ كيعقوب صروف، ونجيب الحداد، لإثارتهم إشكالية التأثر، والتأثير. لذا انكبَّ الدكتور يوسف بكار على ما كتبه، وترجمه، أمين الريحاني من شعر أبي العلاء المعري. وعلى الرغم مما قيل عن تلك الترجمة، مما يقدح في أمانتها اللغوية، ومدى دقة المترجم في أدائه لمراد المعري؛ فإن المؤلف -ها هنا- يلمّح إلى شيء ذي قيمة في هذا المقام. وهو استخدام الريحاني لمصطلح المقارنة الفرنسي Comparison مشيرًا على استحياء لتأثّر الخيام بالمعري، ولا سيما في نزوعه للتشاؤم، وشكوكه المستقاة من شعره إلى حدٍّ ما، نافيا أنه يدعي بهذا القول سرقة الخيام آراءَ المعرّي ومراميه، وأفكارهُ ومعانيه (ص 32). فالريحاني لم يطلق هذا الرأي جزافا، وإنما يؤيده بمقارنةٍ تؤكد وضوح المحاذاة في بعض رباعيات الخيام، وهو وضوح يقرب بها من المحاكاة. ولعل العقاد أحد الذين يَشهد لهم المؤلف بريادة منسيّة على هذا الصعيد، فقد نشر مقالا سنة 1908 عن الأدب الفارسي، نوَّه فيه لتأثر عمر الخيام ببعض لزوميات أبي العلاء. وعلى الرغم من أن العقاد يؤكد وجوه الشبه بين الشاعرين، من ناحية، وبين شعر الخيام وشعر أبي نواس في الخمر من ناحية أخرى، إلا أنه ينفي إدراج رأيه هذا في الدراسات المقارِنة. بيد أن للدكتور بكار رأيا تجاوز فيه موقف العقاد نفسه في رأيه المتواضع هذا، إذ يقول: وثمة متسع للمقارنة بينهما لما يبدو من تأثير أبي نواس في صاحب الرباعيّات» (ص 36). وقلَّما يُذكر العقاد في سياق لا يُذكر فيه عميد الأدب العربي طه حسين، الذي استعمل مصطلح المقارنة الفرنسي استعمالَ الريحانيّ له، في أطروحته الموسومة بالعنوان «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» 1917 على أن هذا المصطلح لم يكن شديد الوضوح لديه، ففي محاضرة ألقاها عام 1932 في الجامعة الأميركية بالقاهرة حول «الأدب العربي وموقعه بين الآداب العالمية» يتَّضح أن المصطلح لديه خليطٌ من المقارنة، والموازنة، والمشابهة، أو الاختلاف. أي أنَّ ما كان يرمي إليه بهذا اللفظ Comparison شيء مباينٌ لما كان يريده الريحاني ويعنيه. وهذا ما غلب على آرائه في صلة الفارسية بشعر أبي تمام، والمعرّي، وغيرهما ممن ذاع، وشاع، أنهم متأثرون بالفارسية، أدبًا ولغةً. وممن طوى النسيانُ مساهمتهم في الدراسة المقارنة اللبناني فؤاد أفرام البستاني. فقد كتب في مجلة « المشرق» مقالا بعنوان «بين المعري والخيام، فكرة الموت ومصير الأجساد» 1928 ومما يقرّب هذا الكاتب، ويدنيهِ، من مفاهيم المقارنة، إشارته لمعرفة الخيام اللغة العربية، وأن له فيها مؤلفات. وهذا أحد الأسس المرجعية للمقارنة، علاوة على ذكره أن الخيام عاش بعد المعري، وهذا أيضا ملحظ ينم على مراعاة البستاني للمقارنة على الرغم من أنه لم يستخدم هذا التعبير، بل استخدم عوضًا عنه لفظة «المقابلة». وقد استوقفت الدكتور بكار مقارنة البستاني إحدى رباعيات الخيام التي تشير لمصير الأجساد بعد الدفن، بما ورد في شعر للمعري، وتوكيده أن الخيام أدى المعنى الذي قصده المعري بعينه دون تغيير، وهذا النظرُ من أهم المبادئ التي تقوم عليها المقارنة، فهو بهذا يستحق صفة الريادة. أما الصرّاف فكان يتقن، إلى جانب التركية، الفارسية. ومن كتبه كتاب بعنوان «عمر الخيام» (1930). ونشر في السنة نفسها مقالا بعنوان «المقارنة بين المعري وعمر الخيام» في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق. والعنوان ينمُّ على التفريق بين المقارنة، وأي تعبير آخر من مقابلة إلى مشابهة فإلى موازنة. فاتضح له أن الشاعرين لديهما الكثير الجم من الأفكار، والمشاعر، المتجانسة، كأنهما توأمان. ويبدو أن الصراف تأثر بالمدرسة التاريخية التي توجب على المقارِن النظر في التأثير الذي تركه السابق في اللاحق. ففيما كتبه يقول: «تحقق لدينا أن الخيام اطَّلع على شعر المعرّي، وتأثرَ به» يقول هذا على الرغم من أن الخيام اختلف عن المعري في أمرين، أولهما موقف المعري من الخمرة، والثاني مصير الأجساد بعد الدفن (ص49). ومن الذين أسهموا في المقارنة عبد الوهاب عزام. فهذا الموسوعي لم يقتصر اهتمامه على مقارنة عروض الشعر العربي بالفارسي، وتأكيده سيْرَ الشعراء الفرس على نهج الأوزان في الشعر العربي مع تعديلات تتجلى في استخراج دوائر عروضية جديدة من دوائر الخليل، وتغيير في الأسس التي تقوم عليها القوافي، مع المزيد من التنويع في الزحافات، وفي العلل، التي تطرأ على الأضْرُبِ والأعاريض. بل تجاوزَ ذلك إلى النظر في علاقة شعر الخيام بشعر أبي العلاء المعري في مقال نشره عام 1938 ففي رأيه ثمة وجوه شبه بين الشاعرين على تنافرهما في المذهب، فأحدهما، وهو المعري رواقيٌ، والأخر أبيقوريٌ(*)، فقد جمعتهما في رأيه رؤية موحدة للكون، انتهت بهما إلى الشك والحيرة. وقد أقام الدليل على هذه النتيجة بأبيات من شعر كل منهما. وتوافق عنده هذا النظر بالكثير الجم من الملاحظ على تأثير العربية والفارسية كلٌّ منهما بالأخرى، مما يتجلى واضحًا في الثقافتين. أما عمر فرّوخ، فقد عرض لموضوع المقارنة بين الخيام والمعري في أثناء الحديث عن المعري في الشرق والغرب، وهو جزءٌ، أو بابٌ في كتابه «حكيم المعرة» 1944 وهذا الجزء هو الموسوم بـ (عمر الخيام ورباعياته) ومما يَذْكُرُهُ ُمقتربًا به من المقارنة قوله: ثمة قرائن كثيرة تنم على أن الخيام قرأ شعر المعري، وترسَّمه في معانيه، ثم سبك بعض هذه المعاني في قوالب المعرّي. ولا غرابة في ذلك، أو هجنة، فالخيام كان يتقن العربية، ويؤلف الشعر فيها والنثر» وقد نبه على ما بينهما من موقف موحّد من الجنة والنار، مشيرا لألفاظ بأعيانها ذكرها الخيام في شعره، وقال معلقا على ذلك: «لا يمكن إلا أن يكون فيها متأثرًا بالمعري». فعمر فروخ على هذا الأساس من الذين تطرقوا للمقارنة عن دراية بها، لا من باب المصادفة، أو توجيه النظر للاشتباه فحسب. وهذا شأنُ عبد الحق فاضل، الذي ترجم بعض رباعيات الخيام، ونَشرها، وسلكها في كتاب له بعنوان «ثورة الخيام» (1951) وفيه فِصْلة بعنوان مقارنة بين تفكير الخيام والمعري، أورد فيها ما يكفي من أبيات اللزوميات التي يتجلى في بعضها الشبَهُ بين الشاعرين، وفي بعضها يتجلى الاختلاف، وفي بعضها يتقاربان، ولا يتناقضان، وفي بعضها ما يذكــّـر بألفاظ مشتركة بينهما، وبعضها لا يخلو من تعقيب على الآخر (ص 96). وعلى هذا النحو يستخلص المؤلف في دراسته هذه ما يأتي: 1.لا تخلو محاولات محمد يوسف نجم وهاشم ياغي وحسام الخطيب وعطية عامر وعز الدين المناصرة وسعيد علوش ومدحت الجيار وعصام بهي الرامية لوضع مدخل تاريخي، أو شبه تاريخي، لريادة الأدب المقارن -عربيا- من بعض المؤشرات القيمة، والمهمة، التي لا غنى عنها للباحثين في هذا الموضوع ، إلا أنها راوحت بين الأخذ بالمصطلح في شيء من التسامح، وبعض التدقيق فيه. فبعض الذين درسوه في تلكم المحاولات تجنبوا التدقيق في ذلك، فخلطوا بين المقابلة والمقارنة تارة، وبينها وبين الموازنة، مثلما لم يفرق بعضهم بين المدرسة التاريخية التي تلح على ضرورة أن يكون صاحب الأثر (ب) قد اطلع على صاحب الأثر (أ)، وغير التاريخية التي لا تشترط هذا الشرط. 2. ولهذا السبب تأتي النتيجة الثانية لهذا الجهد الذي يضطلع به الدكتور بكار، فهو يسعى أولا لتصحيح المفاهيم، وثانيا لإنصاف رواد البحث المقارِن ممن لم تنصفهم محاولات السابقين. وهذا ما يتوصل له القارئ، فالريحاني(أمين) من أوائل من فرق بين المقارنة وغيرها مؤثرا اتباع المدرسة الفرنسية. ومع أن العقاد كاد يتورط في الدرس المقارِن، إلا أنه تجنب هذا الادعاء، مؤكدا أنه لا يحتسب ما ذكره عن صلة شعر الخيام بكل من المعري، وأبي نواس من باب المقارنة. وعلى هذا النحو ثمة اشتباهٌ بين ما ذكره طه حسين عن المقارنة في « ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية» وما كتبه عن الأدب الفارسي، وعن الخيام، وعن الأثر الفارسي في شعر أبي تمام وسواه. ويبدو أن اللبنانيّين من مثل: فؤاد أفرام البستاني، وعمر فروخ، وغيرهما، كانوا أقرب لمفهوم المقارنة. ولا يفوتنا التذكير بما كتبه الدكتور يوسف عن الصرّاف، وعن عبد الوهاب عزام، وعبد الحق فاضل. وإن بدا على المؤلف اهتمامه بتراث عبد الوهاب عزام أكثر من غيره لرؤيته الشمولية لعلاقة الفارسية بالعربية، إن كان الأمر على المستوى النثري، أو الشعري، أو العروضي، أو حتى الكتابة وفنون الخط، وتأثير الفرس الإيجابي في إغناء العربية بالكثير من الترْجمات، والمؤلفات. وقد لا يجد القارئ في هذا المقام مسوغا معقولا، و تفسيرًا مقبولا، لإقحام اللغة التركية في الإطار نفسِهِ، إلا أن عبد الوهاب عزام -وحده- بين أفراد هذا الجيل من المقارنين مَنْ توافر لديه هذا الاهتمام بالتركية، وعلاقاتها الثقافية، والأدبيّة، بالعربية. ويتضمَّن الكتاب سبعة نصوص هي التي سبقت الإحالة إليها في مواقع متعددة من ص 27 إلى ص 99 وهذه النصوص هي التي يصفها المؤلف بالريادات، المنسية. وقد كنت استحسن لو أن الكتاب نُشر بعنوان الريادة
المنسية بدلا من ريادات. فلم أستسغ هذا الجمع الذي جاء على قياس زيادة: زيادات، وذلك لأن الريادة في نظري مصدرٌ لما هو معنويٌ لا حسّي، ولا يمكن إخضاعه للعدد والإحصاء، فيقال: ريادتان مثلا، وثلاث ريادات إلخ... ولم نستسغ المبالغة في تراجم بعض رواد المقارنة، فبعضهم كأمين الريحاني تَرجم له المؤلف بفقرة من ثلاثة أسطر، والعقاد لم يترجم له، وهذا ينسحب على طه حسين، فيما توسَّع قليلا في ترجمته فؤاد أفرام البستاني، وأحمد حامد الصراف. وأما عبد الوهاب عزام، فقد أطال في الحديث عنه إطالة توشك أن تطغى على الفصل كله، فيبدو كأنه هو المقصود به دون الآخرين. وعذر المؤلف أنّ القراء -من هذا الجيل- لا يعرفون عن عبد الوهاب عزام إلا القليل الذي لا يقاس بالكثير الجمّ المعروف عن العقاد وطه حسين والريحاني. صفوةُ القول، وزُبْدَة الحديث، أنَّ هذا الكتاب يفيض بالكثير مما يضيف جديدًا لذخيرة القارئ من العلم بالمقارنة، عربيًا، والأكثر إفادَةً تلك النصوص التي أضافها المؤلفُ للدراسة، إذ لا تكفي الإحالاتُ المتفرّقة إليها في الهوامش، فجاءت هذه الإضافاتُ لتزيد القارئ فائدةً على فائدة. وتجعل من الكتاب مصدرًا لا غنى عنه لأيّ باحثةٍ، أو باحثٍ، في هذا الموضوع، أو الموضوعات القريبة من هذا الباب. (*) الرواقي هو الذي يجد السعادة في الابتعاد عن ملذات الحياة، أما الأبيقوري فعلى خلاف ذلك، هو الذي يجدها في تجنب الخوف والاضطراب، والاستمتاع بملذات الحياة. وهما مذهبان من مذاهب الفلسفة الإغريقية القديمة.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 29-11-2024 08:12 مساء
الزوار: 90 التعليقات: 0