بل لا تعطينا فكرةً عن ميزانيّة هذه المدينة وسير العمل وحجم الإبداع والتوهج الثقافي إن وجد،.. العمل الثقافي الذي تعثّر منذ اليوم الأول لإعلانها مدينةً للثقافة الأردنية 2012.
كان الوسط الثقافي كلّه والإعلامي يرى في مادبا بانوراما التاريخ، المدينة التي زارها قداسة البابا ثلاث مرات، وحظيت بالوفرة السياحيّة، وبأنها أنجبت غالب الهلسا وروكس العزيزي وحسين دعيبس والسياسيين وأصحاب الفكر الذين ما نزال نقرأ لهم ونتأثر بإرهاصاتهم التي جعلت منهم أعلاماً في أكثر من مجال، وقد امتزجت القرى بالتوليفة الحضارية المسلمة المسيحيّة، فكان يمكن أن تكون هذه التوليفة أكبر مدينة ثقافة ناجحة في الأردن على الإطلاق.


الإعلام الحقيقي الموضوعي هو البوابة الأولى للشفافية ومناقشة الأمور والوقوف على الآسن في صنع القرار الثقافي وقراءة المشروع الناجح والإصدار الناجز المكتمل لشروطه الإبداعية في المقام الأوّل. لكنّ الذي لا نعرفه، فعلاً، هو كثير؛ فما هي المشاريع التي أدرجت وتمت الموافقة عليها؟، وما هي مقدراتها المالية؟، وما هي الإصدارات؟ ومن أصدرها؟، وما هي مواضيعها؟، وهل صحيح ما يشاع أنّ المدينة طبقت على الإصدارات، كما يقول القريبون من المدينة، (اللي سبق لبق)، أم ماذا؟!... وإذا كانت النشاطات اليومية الباهتة التي تتكرر في كلّ هيئاتنا الثقافية في عمان والمحافظات قد استنسخت في مادبا مدينة الثقافة، فليس هذا الذي نتوخاه!.. كنا نتوخى مهرجاناً يُقرّ، وتكاتفاً بين وزارات ذات وفر مالي، ومشاريع يدوم أثرها لا ورشة عابرة يتناساها المشاركون قبل أن ينساها الضيوف بمجرد الانتهاء من فترة الغداء.
الإعلام مغيب، ولا ندري لمصلحة من يغيب هذا الإعلام، اللهم إلا من فضفضات المواقع وقت إعلان المدينة، وربما أثناءها، وإذا كان الإعلام ينقل موعد الندوة او الأمسية أو النشاط، ويقف مفهوم الإعلام عند الإعلامي كاتب الاستدعاءات، فإنّ جوهر هذا الإعلام يكون قد ضيّع الاسئناس بالرأي والتوجيه والرؤية التي تضع المسؤول بحقيقة المهم والأهم.
لا نريد من مدينة الثقافة أن تتغنى بجبل نيبو أو مكاور أو تستعيد رقصة سالومي أو تذكّر بهلسا أو العزيزي أو تحتفل برجالات اليسار واليمين من السياسيين؛ بل إنّ القراءة الواعية للمنتوج الثقافي والأدبي والإبداعي والأخذ الجاد بفكر هؤلاء الرجالات هو الذي يدوم بعد أن يُستكتب فيه المتخصصون وننزل به من أعلى الدرج إلى (الناس)... ناس المدينة وجوارها الذين هم وعاء حقيقي للمكتسب الثقافي والاجتماعي والحضاري... قد يكون بعض الكتاب في التراث قدّموا لمادبا في الأشعار والمرويات الشفوية، وهؤلاء يكملون ما قام به الرائد العزيزي في معلمة التراث الأردني والأوابد واللهجات الأردنية، ولكن حتى هؤلاء لم يصلنا نحن الصحف اليومية أي خبر عنهم، إلا من واقع المعرفة الشخصية، لا الفعل الإعلامي الجاد، الذي قاربت فيه المدينة على الانتهاء والزملاء يتراشقون الاتهامات وعدم الجدية ومن يكون رئيساً أو يكون نائباً للرئيس.
تقييم مادبا مدينة الثقافة تحتاج جلسة عصف ذهني مكاشف غير مجامل أو متحامل على المدينة، وتحتاج من إعلام الصحف والمواقع الإلكترونية في صفحاتها الثقافية التدخل السريع وعدم الحياء والإشارة الواثقة إلى مواطن الخلل، والاستئناس بالمثقفين داخل المدينة وفي محيطها، لكي لا تتكرر تجربة مدينة كنا نعدها أو نراها من أكثر المدن نجاحاً، حتى فوجئنا بما نراه مرسوماً على وجه كلّ مثقف حزين.
قالت لجنة الإصدارات إنّ الأولوية ستكون لأهل مادبا من المثقفين؛ فقلنا نعم على مضض، ونحن نعرف بتنافذ الإبداع على بعضه، وقالت لجنة الإصدارات إنّها لن تطبع لمثقف لا ينتمي إلى مادبا إلا إن أشار إليها أو إلى أعلامها أو جبالها أو موروثها أو ما يتعلق بها، فتسابق مبدعونا خارج المدينة يبحثون عن شوارع المدينة ودكاكينها وتاريخها متوهمين كتابةً لا تصل إلى ركبة الإبداع؛ فمتى كان التغني بقرى مادبا وحاضرتها إبداعاً إن كان شكلاً لا يحمل مضموناً حقيقياً أو كان شكلاً بائساً جافّاً من غير صور؟!!!
الإبداع الحقيقي ليس موضوعاً تحت الطلب يراد منه ألف دينار مكافأة لكتاب أو مسرحية تم تأليفها في يوم أو يومين، أو ورشة تم الإعداد لها في غضون ساعات أو..... وإلا فإنّ مشروع مدن الثقافة كلّه ستتكرر أخطاؤه ولن يصبح من المفيد الاستمرار فيه.
غداً تنبت السنابل في عجلون.. ومن يدري ربما تعوّض هذه المدينة قلعتها تاريخاً ودلالةً شيئاً افتقدناه في مادبا مدينة الثقافة... وهنا فإنّ للوزارة قراراً يجب أن يكون الأولى أن يتبع ولها بالاستئناس بمثقفين ومبدعين أن تصنع ثقافةً حقيقية سلوكية لا نشاطات قليلة الحضور متواضعة المضمون.
في مدينة الثقافة لا بد أن يكون التاريخ والجغرافيا والسياسة والدين والوطن والمحيط والعالم موجوداً!.. لكن بشرط الإبداع، وحتى في البحث العلمي فإنّ في التوثيق وإحالة النصوص والقراءة الواعية التي تربط وتقايس إبداعاً تطمئنّ إليه النفوس.