|
عرار:
الشعريَّةُ في أبسطِ تعريفاتِها تعني الدَّهشةَ، وهي ليست مرتبطة بجنسٍ أدبيٍّ دون غيرِه، ولكن لأنَّها لا توجد بشكلها النموذجي - هكذا عهدناها - إلا في الشعرِ فمن هنا جاء اشتقاقها كمصطلحٍ، إنَّها تُشبهُ الجماليَّةَ إلا أنَّ الجماليَّةَ ليست بالضَّرورةِ أن ترتبطَ بالدَّهشةِ فهي أعمُّ وأشمل. ولا شك أنَّ أيَّ جنسٍ أدبيٍّ هو مرسلة لغويَّة بالأساس، وبالتالي صارت علاقة الأديب باللغة علاقةً وثيقةً؛ لأنها الوسيط الذي يعبرُ من خلاله المعنى إلى المتلقي، حتى وإن كان الأديبُ ينتهجُ اتجاهاً رمزياً يهدفُ إلى تدمير المعنى كالحركة الرمزية التي بدأت من (بودلير) الذي رأى ضرورة عرض المعنى من خلف حجابٍ شفيفٍ، أي بصورةٍ مبرقعةٍ، وصولاً لـ (مالارميه) الذي نظر للنصِّ الأدبيِّ باعتبارِهِ ظاهرةً لغويةً صِرفاً تنقلُ (المعنى/ الحالة) عن طريقِ الصوتيات أكثر من المفردات وتراكيب وأساليب اللغة، وبالرغم من ذلك فقد رأت الحركة الرمزية في اللغة وسيلتها الوحيدة في نقل المعنى ولو بتدميره نهائياً كما دعى (مالارميه). وربما من الجيد أن أُذكِّرَ بمقولةِ د. عبد المالك مرتاض حين قال: «اللغة هي سيدة المكونات السردية على سبيل الإطلاق»، لذلك فليس هناك غنى للكاتب عن إجادة لغته وإلا لما وصل المعنى الذي أراده أو أوحى به إلى المتلقي؛ ذلك أنَّ أول ما يواجه النصَّ الأدبيَّ من قوة مضادة هي (الكلمة/ المفردة) ذاتها على حدِّ تعبير (ميخائيل باختين)؛ فربما قصدَ الكاتبُ معنىً تعجز لغتُه عن الوفاء به. لقد استوقفني (مدخل) رواية (أفاعي النار - حكاية العاشق علي بن محمود القصَّاد) كثيراً، ربما أكثر من العنوان الشعري الموحي للرواية، قرأتُه مراراً، وفي كلِّ مرةٍ لا أستطيع أن أدفعَ عن نفسي إحساسَها بالدَّهشةِ والإعجاب بآن، أحسستُ أنِّي أقرأ قصيدةً نثرية أو شعراً حقيقياً إن شئتم الدقة لشاعرٍ له باعه الطويل مع الشعر ولغتِه الموجزةِ المقتصدةِ الموحيةِ المركَّزةِ والتي تصنعُ عالماً مكتملاً وجدانياً، وبلاغياً، وتصويرياً، ذات إيقاعٍ نفسيٍّ اكتسبَتهُ من دقَّةِ دلالاتِها بفضاءاتِها المنفتحةِ عليها؛ حيثُ قدَّمَ في ذلك (المدخلِ/ القصيدةِ) صورةً كاملةً (مشهديَّةً تامة الأركانِ) بدأها بوصفِ المكان «في غمرةِ هذا العشبِ والأزهارِ البرِّيَّةِ، التي غمرَت المقبرة، تحرسُ سكينةَ الموتى» [الرواية، ص9] وهو ما وضعَنا أمام إحساسٍ مباشرٍ بالوحشةِ والحزنِ وانعدامِ الطُّمأنينةِ في انعكاسٍ مباشرٍ لدالةِ (المقبرةِ). ثمَّ أردفَ ذلك بخلفيَّةٍ موسيقيَّةٍ لصوتِ نايٍ حزينٍ ينشجُ «الآنَ قبالة نشيجِ هذا الناي الذي يتهادى من مكانٍ خفيٍّ» [الرواية] لتتآلفَ الصورةُ مع الصوتِ ليُعزِّزا لدى المتلقي ذلك الإحساسَ بالوحشةِ والحزنِ، وكما كان للمكانِ دوره في نقل الصورة؛ كان للزمانِ أيضاً وظيفتهُ حيثُ جاء اختيارُهُ لزمنِ الحدثِ «لحظةَ العصاري» [الرواية] تلك التي تعني استدبارَ النهارِ كأحدِ دوالِ الأملِ والطمأنينةِ، واستقبالَ الليلِ المرتبطِ دلالياً في الضميرِ العربيِّ تحديداً والإنسانيِّ بشكلٍ عامٍ بدوالِ الوحشةِ والخوفِ وربما الوحدةِ واجترارِ الذكرياتِ، وبالتالي فاختيارُ زمانِ الحدثِ في ذلك (المدخلِ) لم يكن اعتباطياً عشوائياً وإنما كان مدروساً قصديَّاً ليعزِّزَ الإحساسَ بوحشيَّةِ المكانِ وحزنِ النَّايِّ ونشيجِهِ. ثمَّ كانت الصورةُ الممتدَّةُ التي تصفُ حالَ الشمسِ وهي تستعدُّ للغيابِ عن المشهدِ.. «تلملمُ شعرَها وتحشرُ في العرواتِ أزرارَ قميصِها الذَّهبيِّ، ترشقُ الأشياءَ بماءِ الشَّفقِ» [الرواية] إنَّها أنثى جميلةٌ ملتهبةٌ يمتدُّ شعرُها في كلِّ اتِّجاهٍ، إنَّها شمسٌ مبهجةٌ؛ وبالتالي عند رحيلِها لابدَّ وأن تتأثَّرَ لغيابِها كلُّ الموجوداتِ. هذه الجملةُ بالقطعِ لا تخلو من شعريَّةٍ ممتدَّةِ الأثرِ فيما بعدها من جملٍ؛ حيثُ.. «تبدو الكائناتُ أسيرةَ رتمِ حزنٍ شفيفٍ، يعبثُ بالقلوبِ فيجهشُها» [الرواية] قطعاً بدا هذا الانعكاسُ على الكائناتِ كنتيجةٍ مباشرةٍ لغيابِ الشمسِ وانسحابِها، وهو ما نراهُ ممتدّاً أيضاً في خلوِّ الشَّوارعِ من عابريها. إنَّ الكاتبَ جلال برجس استطاعَ أن ينقلَ لنا بحرفيَّةِ وقلبِ شاعرٍ ذلك الأثرَ النَّفسيَّ (للسَّاردِ/ البطلِ) وانعكاسَهُ على الموجوداتِ من حولِهِ، وعزَّزَهُ بكلِّ ما أوتيَ مِن خيالٍ لا يُخرِجُ المتلقِّي - وهو الأهمُّ في نظري - عن الأثرِ النَّفسيِّ المطلوب وضعه فيه، بل كان الخيالُ - أقصدُ الخيالَ الشعريَّ تحديداً/ الثانوي حسب مفهوم كوليدج عن الخيال - وسيلتَهُ المثلى لتهيئةِ المتلقِّي للدُّخولِ للحدثِ مشحوناً بتلك الحالةِ النَّفسيَّةِ للسَّاردِ. لكنَّهُ، وببراعةٍ شديدةٍ لم ينسَ أن يُعطي وسط كلِّ هذه الحالةِ من الحزنِ والكآبةِ وانعدامِ الطُّمأنينةِ - لم ينسَ أن يُقدِّمَ أملاً يكسرُ بهِ رتابةَ الإيقاعِ النَّفسيِّ وسيطرتَهُ ليؤكِّدَ في الوقتِ ذاتِهِ على أنَّ حلولاً ما تكمنُ دائماً خلفَ الألمِ. تمثَّلَ ذلك الكسرُ للإيقاعِ النَّفسيِّ في جملةِ «حيثُ تخلو الشوارعُ من عابريها، إلَّا من بنتٍ ترافقُها قطةٌ تتقافزُ في الهواءِ، تتبعُ فراشةً يغريها خيطُ ضوءٍ يتسلَّلُ عبرَ ثقبٍ في جدارِ المقبرةِ» [الرواية]. ثمَّ يتغيَّرُ الإيقاعُ فجأةً عبر الانتقالِ من ضميرِ المتكلِّمِ إلى ضميرِ المخاطبِ الذي يُعَدُّ الأكثرَ استعمالاً في النصوصِ الشعريَّةِ والأقلَ استعمالاً في نصوصِ السَّردِ القصصيِّ، وذلك حينَ استحضرَ صاحبةَ المقبرةِ ليحدِّثَها وكأنَّها تشخصُ أمامَهُ، إنَّهُ يسردُ لحظةَ وفاتِها ولكن عن طريقِ آليَّةٍ شعريَّةٍ محضةٍ؛ حيثُ أعادَ صياغةَ (الواقعِ/ الحدثِ/ الموتِ) عن طريقِ وصفِ الحالةِ أو أثرِها، دون التعبيرِ المباشرِ؛ فقد تحدَّثَ عن الزمنِ دونَ تفصيلٍ «كان الفصلُ ربيعاً» وربما ألمحَ إلى رضا السَّماءِ عنها كروحٍ طيِّبةٍ «والسَّماءُ زرقاءُ صافيةٌ» وتحدَّثَ عن لحظةِ خروجِ الروحِ بطمأنينةٍ «كانت عيناكِ تراقبان بارتخاءٍ، طائراً، ظلَّ يعلو وينخفضُ إلى أن توارى» [الرواية]. لاحظو معي تقديمَ شبهِ الجملةِ (بارتخاءٍ) على المفعولِ بهِ (طائراً)؛ ذلك لأنَّه يؤكِّدُ على سلاسةِ خروجِ الروحِ وانسحابِها الهادئِ من الجسدِ وهي ترقبُ ذلك (الطائرَ/ الملائكيَّ ربما) والذي بتواريِهِ وغيابِهِ «سقطَت يدُكِ من يدي» للدلالةِ على لحظةِ الموتِ والتي عبَّرَ عنها بالأثرِ الناتجِ لا باللفظِ. لينتهي (مدخلُ الروايةِ) - والذي أؤكدُ على نعتِهِ بالشِّعريِّ - بتلك الجملةِ: «الآنَ في هذه اللحظةِ وبعدَ كلِّ ما حدثَ بإمكانِ ذاكرتي أن تستعيدَ كلَّ التَّفاصيلِ، دونَ عناءٍ، فتكونُ الحكايةُ» [الرواية]. وكأنَّ الأزمةَ والوحشةَ والخوفَ كان مُسبِّبهم أو إحدى مسبِّباتهم الرَّئيسيَّةِ هو ضياع (كلِّ التفاصيلِ) من ذاكرتِهِ، تلك التَّفاصيلُ التي ينفتحُ الفضاءُ الدلاليُّ عليها بارتباطِها بالتَّاريخِ الشَّخصيِّ للسَّاردِ، أي بحياتِهِ التي بدأ يستعيدُها توّاً، وهو ما يردُّنا للجملةِ التي رأيتها كسراً للإيقاعِ النَّفسيِّ الذي صدَّرَهُ لنا منذُ بدايةِ (المدخلِ) أعني جملةَ « إلَّا من بنتٍ ترافقُها قطةٌ....»، والتي عنَت (له ولنا) ضرورة البدءِ من جديدٍ وأنَّ حدثاً ما ننتظرُهُ، كتمهيدٍ لما سيأتي، وبالفعلِ كان الحدثُ في تذكُّرِ كلِّ التفاصيلِ.. ليتساءلَ القارئُ في النهايةِ، قائلاً: تُرى.. ما الحكايةُ التي يودُّ السَّاردُ إخبارَنا بها؟ في النهايةِ، أؤكدُ إعجابي بالاقتصادِ في الوصفِ على ما يُناسبُ الحالةَ؛ فلا نكادُ نجدُ وصفاً يخرجُ بنا عن الحالةِ التي أرادَ وضعنا فيها أو عن أثرِها النَّفسيِّ. جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 23-06-2017 12:25 صباحا
الزوار: 1149 التعليقات: 0
|