بأن هذا النمط الكتابي له إيقاعات تتولد من بنائه الفني المحكم ومن قدرته على تفعيل الانزياح اللغوي.
ويرى صاحب ديوان « على مهلك أيها الليل»، أن للمرأة والوطن بما يمثلانه من فضاء إنساني حضور وافٍ في النص الذي يسعى إلى توفير طاقة جوانية لهذا الحضور.
للشاعر أبو الهيجاء المولود في إربد عام 1959م، عدد من المجموعات الشعرية، تحمل في تقاطعات عناوينها طاقة خلابة بتوصيف المتن الشعري، ومن مجموعاته:  خيول الدم  1989 ،  أصابع التراب 1992 ، معاقل الضوء 1995، اقل مما أقول  1997، قنص متواصل 2000، يدك المعنى ويداي السؤال 2001 ، شجر اصطفاه الطير  2004 ،وأخيرا أصدر مختارات شعرية من مجموعاته السابقة جمعها في كتاب واحد اسماه أمشي ويتبعني الكلام.
تالياً حوار للشاعر أبو الهيجاء:
بعد تجربة قاربت على ربع قرن، ما الذي وجده الشاعر أبو الهيجاء في
القصيدة، ولم يجده في الأجناس الأخرى؟
القصيدة بالنسبة لي حالة أعشيها وأتعايش معها، وأجدني فيها، أجدني أسبح في بحورها، بحور الحياة، وجدت فيها ضالتي، القصيدة حضوري الأبدي على معصم هذا الكوكب السيّار، الكوكب الذي يفيض عن حاجتنا من الحزن والألم والانكسارات..والفرح الذي نحبو إليه على أطراف أصابعنا المقيدة بسلاسل الوجع اليومي، إذن القصيدة هي ديمومة الحياة بالنسبة لي ووهجها، وبدونها أجدني بحالة عدم توازن، فالقصيدة الفضاء الأكثر اتساعا بالنسبة لمشروعي الشعري.
أما بخصوص الأجناس الأخرى، ثمة هناك لي بعض الكتابات حيث أنجزت قصة طويلة، ونشرت أجزاء منها في الصحافة، وبعض القراءات لبعض الإصدارات من شعر وقصة، لكن حقا ما زلت مأسورا للقصيدة
تبرز في قصائدك إشكالية التماس المباشر مع الأنثى كإنسانة، رغم وقوعها في فخ      التشخيص، هل هي مراوغة، أم لشحن اللغة بإيقاعات ينتظرها المتلقي؟
ليس هناك ثمة إشكالية ولا مراوغة كما تقول، أتعامل مع المرأة من إنسانيتها وحضورها في الوجدان الإنساني، فالمرأة كتلة من المشاعر والأحاسيس، فهي كما قلت سابقا هي: الأم والحبيبة والزوجة والثائرة والمناضلة والشهيدة والأرض والوطن، وهي أسمى من القصيدة ولا نستطيع أن نحصرها بكافة تجلياتها وأوصافها أو نختصرها في قصيدة أو في بيت من الشعر، فالمرأة حاضرة في كل قصائدي وتأخذ مدلولات كثيرة وخاصة المرأة الأكثر معاناة على كافة الصعد الحياتية والإنسانية والوطنية.
والقارئ لأعمالي الشعرية يجد صورة المرأة تتمثل كل ما ذكر سابقا، ولست ممن يبحث عما يريده الجمهور أو المتلقي، أكتب قصيدة ولا أنظر خلفي إلى ما سوف يقوله المتلقي، المهم أنني أرى ذلك بنفسي من حضوري أمام المتلقين، فاللغة العربية كما تعلم هي إيقاعية ولها وقع الخاص على السامع، فما بالك إذا كانت هذه اللغة موظفة بفنية وتقنيات عالية في النص الشعري، يا صديقي المرأة لغة خاصة في أتون الحياة وهي قصيدة لم تكتب ولن تكتب بعد.
في قصائدك الأخيرة ثمة تجاه تعبيري يسترد من التفاصيل لعبته السردية، كيف تنظر لهذه المزاوجة بين السردية والشعرية؟
المزواجة بين السردية والشعرية، هذا مما يدلل على وعي الشاعر من استخدام السرد في الشعر بعيدا عن التقريرية والمباشرة، يقول النقد العربي الحديث بأن السرد الشعري له أدواته الخاصة في البناء داخل النص، وعندما يتحد السرد القصصي أحيانا بالسرد الشعري يضفي أبعادا فنية عليه كما يقول الناقد المصري محمد زيدان، وقد أفاد الكثير من الشعراء من السرد القرآني في نصوصهم الشعرية.
يلاحظ القارئ ثمة بناء دراميا وحواريا محكما يواكب تطور القصيدة الحديثة بعيدا في القصيدة الملحمية التي أشتغل عليها، عن الحشو اللغوي الفائض، فتجد داخل القصيدة السردية ثمة ما يشبه الخطاب العالي التقنية الذي لا يخلو من القصّ الشعري المحمل معرفيا وثقافيا، ولا يخلو أيضا ضمن هذا السياق من المدلولات والأبعاد الفنية التي تعكس مقدرة الشاعر في الإمساك بخيوط اللحظة الشعرية ومحاكاتها شعريا، وكذلك مقدرة الشاعر على صياغة وخلق مفرداته من معطيات الحياة، لأن الحياة بتشكلاتها هي حياة سردية.
من هنا أقول أننا نجد أن للسرد الشعري منابع وخيوط تمتد إلى تفاصيل الأشياء المسرودة أصلا، فعين الشاعر من خلال مشاهداتها هي ساردة، والذاكرة ساردة، والسردية هي منطلق للشاعر الأكثر وعيا في توظيف كل مشاهداته وتوظيف التراث والأساطير ضمن رؤى ومخيلة خصبة يحاكي به الواقع والكائنات.
أنت من كتاب قصيدة النثر، هل وجدت إطاراً خاصاً لها في كتاباتك، أم أنها تسير وفق النسق الشائع؟
منذ ديواني الأول «خيول الدم»، في العام 1989، والذي تضمن مجموعة من القصائد النثرية والتفعيلة، وحتى مجموعاتي اللاحقة لهذه المجموعة تضمنت بعض القصائد المتفعلة، بعد ذلك كانت معظم إصداراتي في قصيدة النثر، وهي القصيدة التي شكلت ملمحا خاصا لتجربتي، وعرفتني محليا وعربيا، قصيدة النثر حين أكتبها لا أضع لها إطارا معينا بقدر ما استطلع عن رائحة الشعر فيها بعيدا عما هو سائد ومتعارف عليه، بحيث أن القارئ لها يشعر بأنني لم أغادر قصيدة التفعيلة وهذا برأيي المتواضع ما يميزني عن غيري ممن كتب قصيدة نثر، وقد تلاحظ في نصوصي الجديدة وبعض القديم مما صدر لي، أنني أمزج بين النثر والشعر وتعدى ذلك في استخدام النص المقفى دون قصدية تذكر، ويعد هذا أيضا سمة من سمات القصيدة النثرية التي اكتبها، والتي تبتعد كليا عما هو شائع في قصيدة النثر.
الوطن له حضوره الملحّ في قصائدك، ولكنه يسعى لكي يكون إطارا محمولاً، وليس حاملاً للشعرية، وربما يعود هذا إلى المساحات الإيقاعية الضيقة التي تبنى عليها قصيدة النثر، ما رأيك؟
أخالفك هذا الرأي، بالنسبة للشعرية، الوطن هاجسي وسيبقى دائما حاضرا في وجداني وكتاباتي، كإنسان لم ير وطنه، ويراه من خلال التلفاز ومن خلال القمع والتنكيل بأبناء جلدته من قبل المحتل الصهيوني، وأراه في حروف قصائدي، فكيف لا يكون له كل هذا الحضور في مشروعي الكتابي، أحلم بأن أحمل وطني وأغمض عيني عليه كي أحميه من الفاشستيين الصهاينة.
إيقاعات قصيدة النثر ليست ضيقة، إيقاعاتها تتولد من بنائها الفني المحكم ومن انزياحاتها اللغوية، وللعلم قصيدة النثر قصيدة غنائية وهناك نماذج كثيرة، وكما تعرف أن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي المتعارف عليها والتي وصلتنا لم تتناول كل بحور الشعر العربي القديم، ثمة هناك بحورا لم تصل لنا وتم إهمالها، إذن الشعرية العربية وأوزانها لم تصل كاملة، بمعنى القصيدة ليست وزنا فقط وتفعيلات وإنما هناك تقنيات أخرى للقصيدة من مثل الانزياح في اللغة والتراكيب اللغوية والرموز وتفجير اللغة والإيحاءات والتكثيف، كل ما ذكر أساس القصيدة، وإن تخلّت عن هذه التقنيات وبقيت أسيرة للوزن برأيي لا نطلق عليها قصيدة، فقصيدة النثر تمتلك كل هذه المواصفات عدا الوزن، وليس كل من كتب نصا خالية من الوزن نطلق على هذا النص قصيدة نثر، قصيدة النثر لها حضورها الكبير في المحافل الدولية، لكن بعض المستشعرين أساءوا لها وللشعرية العربية وهم قلة.
الملحمية، أو ما يقاربها من تشكيلات، تكاد تبرز في أكثر من قصيدة لديك، هل تحاول من خلالها سرد سيرتك الذاتية، أم لكتابة نص شعري يحاور الشخوص والأمكنة، هذان التوأمان اللذان يشتغل عليهما أبو الهيجاء مؤخراً؟
في أعمالي الشعرية السابقة، كتبت القصيدة الملحمية السردية، التي أقترب معها كثيرا من سيرة الطفولة المعفرة بأغبرة المخيمات، واستحضرت بعض الشخوص والأمكنة التي ما زالت عالقة في مخيلتي، فكانت هذه الاستحضارات تتحدث عن جيل هو جيلي، عن صخب الحياة وضنكها ومعاناتها وإرهاصاتها بحزنها وفرحها، وكذلك حالة الفقد الذي يعانيه الناس، فكان جيلنا جيل هزائم وانكسارات وتشرد، جيل مقموع.
رغم كل ذلك ما زالت ذاكرتي محشوة بكثير من التفاصيل، وأحلم بسردها شعرا، محاورا بها الذات - ذات الشاعر - منطقا منها إلى فضاءات أخرى عايشتها وعايشها غيري
هل أنصف النقد شعرك، وشعر جيلك من الشعراء الذين أسسوا لحداثة القصيدة في الأردن، أم تراه وقف على الحياد السلبي؟
لا ألتفت كثيرا إلى النقد، يهمني بالدرجة الأولى أن يصل نصي إلى القراء، لأن النقد لم يواكب العملية الإبداعية بعد، النقد برأيي يجب أن يكون بالدرجة الأولى نقدا محايدا، بعيدا عن «الشللية» أو «المحاباة»، لدينا نقاد نعتز بهم وبقدراتهم ورؤاهم النقدية، لكنهم قلة، وهناك نقاد أسماء، لا نقاد نصوص، نقاد منفعة لديهم «كلاشيهات»، جاهزة يطبقونها على معظم النصوص أو الإصدارات، وأنا أسميهم «أشباه النقاد».أما بخصوص الإنصاف أو عدمه هناك عدد من الدراسات التي كتبت عني وأنا راض عنها، لأنها استطاعت أن تلج إلى جوانية كتاباتي وأعمالي وتقف على مضامينها، وهناك نقاد من الدول العربية كتبوا عن تجربتي وأنا لم أعرفهم وكانت دراساتهم على قدر عال من سبر أغوار تجربتي.
ما هي المدارات التي تدور في متونها مفردات ديوانك الذي تستعد لإصداره؟
العمل القادم، ديوان شعري يحمل عنوانا مؤقتا «معتمر ببلاغة الضحى»، وهو مجموعة من القصائد التي تعاين الهم الإنساني وخاصة ما يجري في الوقت الراهن في المشهد العربي، ضمن رؤى جديدة، وهناك قصائد أخرى تقرأ المرأة من دواخلها وتفضي إلى جماليات وأنثوية المرأة وروحها الطازجة، لا أريد أن أتحدث عن هذا الديوان الذي اعتبره تجربة جديدة ومختلفة عما أصدرت سابقا.