إبراهيم بدران كتاب جديد يتأمل أزمة التعليم والعوامل التي حدّت من فاعليته في الوطن العربي
عرار:
الأديب زهير توفيق صدر عن دار الشروق للنشر والوزيع في عمان كتابا جديدا للدكتور إبراهيم بدران بعنوان «انطلاق التعليم، إشكالية التحولات الحضارية في المجتمع العربي» ويعالج فيه أزمة التعليم والعوامل التي حدّت من فاعليته كرافعة للتغيير الاجتماعي، والتطور الحضاري والتقدم على جميع المستويات في الوطن العربي، ويشكل هذا الكتاب الجزء الثاني من سلسلة كتبه التي انشغلت بالتعليم ودوره في النهضة والتقدم بعد كتابه الشامل والموسوعي عقول يلفها الضباب. وفي هذا الكتاب - الذي لا يقل اهمية وخطورة عن الكتاب السابق - استكمل الدكتور ابراهيم بدران ما اعتبره اشكاليا وناقصا في الكتاب الأول، فناقش عبر 567 صفحة من القطع الكبير، إشكالية التعليم العربي على مدار عشرين فصلا في الكتاب، والملفت في الكتاب وعناوين فصوله هو طبيعة المنهج الذي اتبعه الدكتور إبراهيم، والسياقات التي تناول فيها التعليم، والتي قد تبدو صادمة للمختصين ضيّقي الأفق الذين حصروا ابحاثهم في قضايا جزئية واجرائية في التربية والتعليم فوصلوا الى نتائج وتوصيات لا تغني ولا تسمن من جوع.
إنطلق الدكتور بدران من المنظور المجتمعي الذي يتجاوز النظر للعملية التعليمية من منظور داخلي، واتبع مهجا تحليليا مقارنا وإحصائيا كميا، وزاوج بين النظري والإجرائي في التحليل الذي ارتقى ليكون نموذجاً للتفكير الشمولي الاستراتيجي في قضايا التربية والتعليم و المنهج الذي يوظف كل المعارف والأرقام والمؤشرات ووسائل الإيضاح اللازمة لخدمة الحقيقة. تضمن الكتاب مقدمة وخاتمة، وعشرين فصلا، حملت العناوين التالية: الديناميكية الغائبة، الحكم والإدارة، الانسياق الإيديولوجي، العقل العلمي، الفلسفة والمنطق، الثقافة المجتمعية، عصر العلم والتكنولوجيا، اللغة والعقل العلمي والثقافة، بنية الاقتصاد الوطني، هجرة العقول والمهارات، مرونة المجتمع الماضي والمستقبل، الريادية والمشاريع، الفنون، اللياقة البدنية والرياضة، الثقافة، التسامح، المهارات، مهارة صنع الأشياء، المغامرة والاستكشاف، المعلم.وتضمنت الفصول عناوين فرعية تفصيلية، ومؤشرات إحصائية، وجداول رقمية وهي الطريقة العلمية التي ميزت اسلوب د. بدران في كل ما كتب ويكتب سواء في القضايا الاجرائية أو الفكرية وحتى في مقاله الأسبوعي في الصحف اليومية. ينطلق الدكتور ابراهيم بدران من التساؤلات التالية: لماذا كانت وما زالت مخرجات التعليم العربي متواضعة، لماذا فشل التعليم في استنهاض الدول والمجتمعات العربية إسوة بالدول ا لمتقدمة والناهضة، ما العقبات والمعيقات التي وقفت في وجه التعليم وفرّغت مضمونه وفاعليته ودوره في التقدم والتنوير والنهضة، كيف نستفيد، وماذا نستفيد من تجارب الغير وقصص النجاح في الشرق والغرب. وأكثر ما يشغله ويشغل فكرة في الكتاب وخارج الكتاب، هو الإبداع والتفكير النقدي، والريادية، وثقافة الانجاز، والحوكمة الرشيدة، والأفكار العملية الخلاقة - بعيدا عن التنظير الأجوف والمجرد -، والشباب والمستقبل وآفاقه، إلى أين نحن سائرون ؟! ربط الدكتور إبراهيم بدران بين التعليم – مؤثراً ومتاثرا وبين قطاعات مختلفة بعضها على علاقة مباشرة بالتعليم، وبعضها الآخر ليس كذلك، لكن الدكتور بدران اُثبت في تحليله أهمية تلك القطاعات في التعليم، وأهمية التعليم فيها كالفلسفة والمنطق، والاختراعات، والديمقراطية، والنزاهة، والشفافية، والإنتاجية، وأثبت أهمية تلك القطاعات من خلال البيانات والأرقام والمؤشرات في عدة دول. أن البيئة الشاملة الاقتصادية والسياسة والاجتماعية والثقافية ذات تأثير مزدوج في العملية التعلمية التعليمية، وتنتج كما يرى د. بدران حالتين متناقضتين :حالة التعليم المقيد؛ وهو التعليم التقليدي ضيق الأفق، الذي يفتقر لأية أبعاد مستقبلية، إنه تعليم الحفظ والتلقين والتغني بالماضي ورفعه إلى مستوى النموذج والمعيار، وينتهي بالمتعلم إلى التدجين، والتوظيف ليصبح في النهاية سببا ونتيجة لهذا النوع الفاشل من التعليم. والحالة الثانية هي حالة التعليم المنطلق، وهو ما عبر عنه عنوان الكتاب وإشكاليته، ويتصف هذا النوع بالتحرر من القيود الظاهرة، والخفية ويدفع المتعلم إلى الإنطلاق نوالعمل والمخاطرة والتفكير في إطار المستقبل، وتسقط الحدود النفسية والفكرية والخوف من المجهول، ويختفي التردد ويقتحم الإنسان كل اتجاه وموضوع يساعده على التقدم والابتكار، والاختراع والتغيير وهذا هو التعليم المطلوب محرك النقدم والتغيير والمتبع في الدول المتقدمة. ربط الدكتور بدران بين نوعية الحكم والإدارة من جهة، والتعليم وطبيعته من جهة ثانية، فتوقف عند السلطوية في الحكم والإدارة وبيّن النتائج الكارثية لذلك، ونبهنا في المقابل إلى عبثية مشاريع الإصلاح التربوي والتعليمي إذا بقيت تدور في فلك السلطوية والبيروقراطية والروتين. وحشد الكثير من الحجج والبراهين وآراء كبار التربويين كجون ديوي، وباولو فيريري للتدليل على اهمية الديمقراطية والتحرر في فاعلية التعليم والتحذير من مخاطر السلطوية على جميع المستويات، وفسر تخلف الدول العربية مقارنة بالدول المتقدمة والناهضة بعدم تزامن التعليم بنهوض القطاعات الأخرى التي بقيت أصلا متخلفة، ولم تنجح حتى الآن في تجسير الهوة والانطلاق المتزامن بين الإنتاج، والتصنيع، والابتكار، والريادية، والديمقراطية، من جهة، وبين التعليم من جهة أخرى. حذر الدكتور ابراهيم بدران في الكتاب من استمرار تأثير الأيديولوجيات الميتة على المتعلم والتعليم، و أشار إلى حالة الإنفصام التي يعاني منها المتعلم بين حركة المجتمع ومتطلباته المعاصرة وبين ثقافة الأيديولوجيا الماضية في عقليى المتعلم التي افسدتها الأيديولوجيا الماضوية السلفية التي جعلت الماضي اهم من الحاضر والمستقبل و النقل والاتباع والاصالة اهم من العقل والحداثة والمعاصرة. وفي جانب آخر أشار لمظاهر غياب العقل العلمي في التعليم و المجتمع، وخاصة عند المسؤول، وتمثل ذلك في غياب الشعور بصدمات الرقم والتخلف والتبعية وغياب الخطط الوطنية للتصنيع. وتوقف عند اهمية الفلسفة ودورها في التعليم وحياة الطالب فهي التي تمنحه القدرة والثقة لمناقشة كل التساؤلات التي تدور في عقله ومجتمعه، وهي التي تنقل التعليم والمتعلم من التلقين والإملاء إلى البرهان والإقناع والدليل العلمي، وتحسين التحصيل والكفاءة، وتطوير مهارات التفكير العليا والجسارة في مناقشة الأفكار، وإشاعة التسامح والعقلانية والتحرر. وعن الثقافة المجتمعية السائدة في البلدان العربية التي تؤثر سلبا في التعليم والمتعلم - وهي اصلا نتيجة القهر السياسي والملاء الايديولوجي والكبت النفسي- فتعمل على إشاعة القيم السلبية والرجعية، فماذا نتوقع من ثقافة ترزج تحت القهر والتسلط غير النفاق والازدواجية والفساد وتبلد المشاعر والتواكل والانتهازية. ونظرا لاهمية الريادية في الاقتصاد الوطني، أشار لضرورة تعليم الريادية للطلبة في المدرسة والجامعة، ومن نتائج تعليم الريادية في المدرسة والجامعة تحسين المهارات الإبداعية، والدخول في تكوين وإنشاء المشاريع الاقتصادية الصغيرة والشعور بملكيتها. أما اهم المهارات الريادية التي يمكن تعليمها للطلاب فهي: الدافعية، والقيادة، ومهارات الاتصال، والتفكير النقدي، والتخطيط السليم، ومهارة صنع القرار.وعن الفنون؛ فقد أشار لخطورة استمرار النظرة الدونية لتعليم الفن بكافة اشكالة في المدارس سواء النظرة السلفية أو النظرة التسلطية التي تعمل على توظيف الفن لخدمة الحاكم.وما ينطبق على الفنون ينطبق على الرياضة، التي تهمل وتتحول إلى عبث وتسلية. ويركز فيحا على الجوانب المثيرة التي تؤدي أغراضا معينة. وفي ربطه بين الثقافة والتعليم يستدعي مفهوم مؤشر فقر التعليم ويؤكد على اهمية التعلم كمكمل للتعليم بعد المدرسة والجامعة؛ اي الاستمرار في التعلم مدى الحياة، وهذا ما ينقص عملية التعلم في البلاد العربية.وعن المهارات المطلوبة في تعليم عصري في القرن 21 يشير الدكتور بدران الى مجموعة من تلك المهارات واهمها المهارات الرقمية على الحاسوب والمهارات التخصصية كمعرفة اللغات، وحل المشكلات، ومهارات الشخصية المجتمعية كالتفكير الناقد وروح الفريق والمبادرة. وركز على ثقافة المغامرة، والاكتشاف، وضرورة تعليمها للشباب، وتشكيل شخصية المغامر، التي تتميز بالثقة بالنفس، والرغبة بالتفوق والتجديد والخروج عن المألوف والعطاء والشجاعة. هذا غيض من فيض وإضاءات مكثفة للبيئة المجتمعية المعيقة لانطلاق التعليم وتفعيل دورة في التقدم والنهضة و الحلول وكيفية الخروج من الأزمة، لكن الكتاب بشكل عام زاخر بالأفكار الخلاقة والعملية والحلول الإجرائية الجذرية والشمولية، والتذكير بالتجارب الدولية الملهمة القابلة للتحول والتكييف مع الحالة العربية والاردنية. لقد سخّر الدكتور ابراهيم بدران في الكتاب تجاربه وخبراته العلمية والعملية كوزير تربية سابق، وخبير طاقة، ومستشار اقتصادي وسياسي ومهندس ومدرس في كلية الهندسة، ولهذا جاء الكتاب إضافة نوعية للمكتبة العربية في قضايا التربية والتعليم ؛هذا القطاع الذي اثبت - بتجارب الدول المتقدمة والناهضة -أهميته. فالتعليم لم يعد مجرد خدمات لا ترقى إلى سلم الأولويات في الدولة، وقد آن الأوان للاهتمام بالتعليم كونه صمام الامان للأمن والاستقرار والتقدم والنهضة.