جماليات التلقي والتأويل في الشعر العربي الحديث.. يوسف الصايغ أنموذجًا
عرار:
د. عادل علي جودة عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين. دعوة عاجلة لحضور إشهارِ إصدارٍ جديد تحت العنوان أعلاه للدكتورة فداء أبو فردة، وصلتني قبل نصف ساعة من موعده المقرر السادسة من مساء يوم الإثنين 5 أغسطس 2024م، والواقع أنني لم أكن مهيَّأً لذلك، إلا أن العنوان خطف جوارحي، فقمت من فوري؛ بدلت ملابسي، وخرجت أقود السيارة بفكر منشغل بماهية مضمون هذا الكتاب في ظل ما نشهده من إصدارات أقل ما أقول فيها إنَّ؛ لها ما لها وعليها ما عليها. مقر الإشهار «دائرة المكتبة الوطنية» في العاصمة الأردنية عمّان، وهي في الواقع لا تبعد عن مقر إقامتي الذي حرصت على اختياره لكونه قريبًا منها، إلا أن حركة السير وما تشهده شوارع عمّان من ازدحام شديد تسبب في تأخري ما يقارب العشرين دقيقة، وصلت قاعة الإشهار الأنيقة أثناء القراءة النقدية الأولى للأديب الدكتور زياد أبو لبن، الذي صال وجال في جماليات الكتابة النقدية في رحاب النهج الوصفي التحليلي الذي اتبعته صاحبة الكتاب الدكتورة فداء، إلا أنني باسمت وقفته الختامية التي عبر فيها عن عدم توافقه مع الكاتبة في أحد فصول الكتاب؛ إذ منحت الشاعر يوسف الصائغ مساحة توازي المساحة التي خُصصت للشعراء الكبار أمثال «درويش» و»السياب» و»أدونيس» و»قباني» وآخرين، وهامسته عن بعد: أن لا بأس بهذه المساحة الكبيرة للشاعر يوسف الصائغ؛ لكونه جاء أنموذجًا تركز عليه الباحثة في دراستها. ثم رُحتُ أتابع الأديبة الدكتورة مي بكليزي ـ التي أدارت الأمسية باقتدار لافت؛ إذ منحت كلَّ ذي حقٍّ حقَهُ ـ وهي تقدم صاحب القراءة النقدية الثانية الأديب الدكتور زهير توفيق، الذي شارك سابقه في الإشارة إلى ما اكتنزه الكتاب من دراية ومهارة ودقة اتسمت بالعمق والشمول. ومن ثم تفضلت الدكتورة بكليزي بتقديم صاحب القراءة الثالثة الدكتور خليل الزيود الذي امتلك الحضور بما أفاض به عليه من جمال. والواقع أن الدكتور خليل لم يقدم قراءة نقدية للكتاب، إنما اكتفى بإشارة سريعة إلى إحدى قصائد الشاعر يوسف الصائغ التي قرأها منذ زمن بعيد، لكنه لجمالها حرص على الاحتفاظ بها، وعلى الفور قرر قراءتها للحاضرين قائلًا لمديرة الأمسية: «القصيدة طويلة، فإن وجدتِني تجاوزت الوقت المسموح أسكتيني فأسكت»، وانطلق في شدوه لتلك القصيدة وعنوانها «المعلم». الواقع أنني استمعت إلى إلقاء محبب إلى حدٍ حبس أنفاسي لدرجة أنني جهزت نفسي لمعارضة مديرة الأمسية في حال طلبت منه التوقف، لكنها حتمًا شاركتني والحاضرين التحليق مع هذا الإلقاء الذي لا أقول إنه فقط رسم معاني القصيدة بكل ما اشتملت عليه من تفاصيل، إنما أيضًا أضاف إليها من جماليات روحه المملوكة للشعر وسطوته فأعطاها المزيد من الوهج وهو يحمل بوح الصائغ ليعانق به أنفاس شعراء يسكنون الجوارح. الأمر الذي خِلْتُ معه أنه إنما يؤكد أن الشاعر يوسف الصائغ له من الإبداع ما يجعله مستحقًا للمساحة الوافية التي منحته إياها الكاتبة الدكتورة فداء. فأسرعت لاقتناء الكتاب، وما أن وصلت البيت حتى تصفحته على عجل، فوجدت في صفحاته الأولى وقفة حوارية من طرف واحد وهو الدكتور خليل الزيود مخاطبًا الشاعر يوسف الصائغ بأسلوبه المميز الذي انفرد به، وأقتبس: «يا يوسف... السَّيَّابُ وَهَبَكَ بعضًا من وجَعِهِ... جيف تستر بالطلاء، ويكاد ينكر من رآها. ومُظفّرُ مدَّ لك يدُ حرمانِهِ... أرحني قليلًا فإني بدهري جريح. والجواهري يَبْسُطُ لك الحرفَ كما تشاء... يا أمّ عوف غربيّاتٌ ليالينا. واليوم جاءت إليك الفداء لكي ترسم لكَ صورةً، جَبُنَ عنها الكثيرون... وخذلك من أجلها الأقرباء؛ وهي: يوسف الإنسان... مُحِبٌّ للحياة بلا قيد، وراغبٌ في التنفس بلا شرط... كتَبَتْ فيك نصًّا بحثيًّا.. نَسِيَتْ فيه نفسَها أنها تبحث عن الدرجة لأنك سلبتَها نفسَها في البحث، فغدت تبحث في الدرجة عنك. يا يوسف.. يا وجع مالك ابن الرَّيْبِ الذي كنت تبحث عنه في أشلاء سيرةٍ تُشْبِهُ كلَّ شيْءٍ إلا السيرة. يا يوسف.. لقد بكى مالك غيرَ مرةٍ لأنه كان يرى: العتمةَ في الضوءِ، والليلَ في النهارِ، وأنتَ ابتسمتَ لأنك كنتَ ترى القصيدةَ في الصخرة الصَّمَّاء، ورأيت الجمالَ في البشاعة، ورأيت الوطنَ في السجن. يا يوسف.. تحية من فداء لك؛ لأنك أنت المعلم والطبشورة والسبورة التي تمتد كأنها العمر، وتحية مني أنا خليلُك المحبُّ لحرفك ولو كنتُ أحاول قراءةً أو أموت فأُعْذَرَا.» انتهى الاقتباس. تجدر الإشارة هنا إلى أن الكتاب يقع في مئتين وأربع وخمسين صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على ثلاثة فصول؛ أما الفصل الأول؛ فيتناول «جماليات التلقي والتأويل في الشعر الحديث»، وفيه مبحثان؛ الأول: «لغة الشعر وإشكالية التأويل»، والثاني: «من الدال اللغوي إلى المدلول الشعري». وأما الفصل الثاني؛ فيتناول «جماليات التلقي والتأويل في شعر يوسف الصائغ»، وفيه ثلاثة مباحث؛ «الرمز»، و»الانزياح»، و»التكرار؛ بوصفه ظاهرة إيقاعية». وأما الفصل الثالث؛ فيتناول «آليات التلقي الحديث وتوظيف الصائغ لها»؛ وفيه ثلاثة مباحث؛ «الدراما»، و»المفارقة»، و»تقنيات الفضاء البصري؛ التشكيل البصري». تلك نبذة سريعة عن الكتاب أبرق بها إليك قارئي الكريم علّها تحملك إلى اقتنائه والإبحار في أعماقه لتلَمُّسَ ما اشتمل عليه من دررٍ في إطار النقد الأدبي الأصيل. ولا يفوتني هنا أن أوثقَ تحيةً خاصة للسادة «دار يافا العلمية للنشر والتوزيع» التي قامت على طباعة الكتاب وإخراجه على هذا النحو المميز. وختامًا أجدد تهنئتي للباحثة الدكتورة فداء أبو فردة إشهار كتابها بمشاركة هذه النخبة من ذوي الفكر والنقد والأدب، مثمنًا لها إهدائي نسخة من الكتاب ممهورة بحرفها وتوقيعها.