«بازار الفريسة» لخالد سامح.. ظاهرة الافتراس وسوقها
عرار:
د. عبد المجيد زراقط «بازار الفريسة»، للرِّوائي الأردني خالد سامح، رواية صدرت مؤخَّراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1/ 2023. عتبات الرِّواية: عنوان الرِّواية: «بازار الفريسة» وهو عتبتها الأولى، دالٌّ على أنَّ شخصيَّة معيَّنة/ معروفة اصطيدت، وغدت «الفريسة»، في «بازار/ سوقٍ شعبيَّة، وأنَّكلَّ من هو موجود، في هذه السوق، يسهم في افتراسها، ما يثير سؤالين هما: من هي، أو ماهي، هذه الفريسة؟ وفي أيِّ «بازار» اصطيدت، وافتُرست؟ الغلاف، وهو عتبتها الثانية، دالٌّ على «أغرب بازار في التاريخ»، وعلى أنَّ صاحبه «محترف جمع الأضداد»، وصاحبه هو رشيد مرعي، الذي جمع في مكتبه مارلين مونرو، دمية الرأسمالية اليهودية، مع رموز حركات التحرر، ورأس المال مع الكتاب المقدس، وقادة العنف الثوري مع نموذج المقاومة السلمية غاندي. هذا البازار/ الكرنفال الغريب دالٌّ على فقد صاحبه الهوية والانتماء إلى وطن وقضيَّة، فتلك الأشياء حلَّت محلَّ خارطة فلسطين التي كانت تتصدر، من قبل، مكتبه، بوصفه الرفيق رشيد، أحد قادة المقاومة الفلسطينية، فما الذي جرى؟ وهل هو الذي أصبح الفريسة، في بازار فقد الهوية هذا؟ أو هل أصبح الفريسة لأسباب أخرى؟ التصدير، وهو عتبتها الثالثة، قولٌ لجان بول سارتر: «أن تموت يعني أن تصبح فريسة للآخرين»، وبقول سامي، وهو شخصية من شخصيات الرواية لهالة جبران، وهي زوجة رشيد، والشخصية الرئيسية في الرواية، «ولكن...، ليست كلُّ الفرائس بريئة»، وهذا يعني أنَّ رشيد، بعد أن مات، غدا الفريسة، وأنَّه فريسة غير بريئة. فمن هو رشيد؟ ولمَ غدا فريسةً، وفريسةً غير بريئة؟ الرِّواية والفريسة رشيد: نقرأ الرواية، فنرى أنَّها تتألَّف من خمسة أقسام، أو فصول، معنونة وغير مرقَّمة، يبدأ كلُّ فصل بوثيقة/ رسالة مؤرَّخة. الرسائل جميعها تفيد أنَّ رشيد « مناضل سابق وقع في أحضان المخابرات، بعد أن اصطادته...، الابن البار لـC.I. A. تعاون مع مؤسسة صهيونية..، مركز الدراسات الذي أسسه، في عمان، بعد أوسلو ووادي عربة، مجرد واجهة لإخفاء نشاطاته الغامضة..». يلي الوثيقة، في كلِّ فصل، خطاب توجِّهه هالة لزوجها، تعرب فيه عن حزنها ومعاناتها الفقد، ومواجهة التهم الموجهة إليه. وكان الخطاب الأوَّل، بعد وفاته بعام... ثم يبدأ السرد، فنعلم أن الرفيق رشيد كان قائدا من قادة المقاومة الفلسطينية، تعرف على الفتاة اللبنانية هالة جبران. أحبَّها وأحبَّته، تزوجا. وعندما خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت، خرجا، وأقاما في عمان. أسس رشيد مركز أبحاث، وغدت هي كاتبة ومخرجة مسرحية وناشطة اجتماعية. وسرعان ما صار الرفيق المعدم ثرياً كبيراً. وما إن مات حتى غدا فريسة للأقلام والألسنة، فراحت هي تبحث عن الحقيقة، في فضاء الخشية من أن تطالها هي تلك التهم. في انتظار الإجابات، فساد وازدواج الشخصية: وجدت هالة، في حديث صديقتها الفنانة التشكيلية وفاء، الساخرة والحانقة والمتحرِّرة، والمنفصلة عن زوجها، ما يخلِّصها، ولو مؤقتاً، من ثقل الحيرة وانتظار الإجابات. يكشف حديث وفاء عن جرأتها وعن فساد المجتمع وازدواجية المسؤولين، وتقول لهالة: إنك عايشة في دوامة توتر وقلق وحيرة بسبب الكلام الذي شاع عن المرحوم. ثنائية تضاد: في سبيل الحصول على الإجابات تقصد هالة الرفيق سامي، فتجده في مكتبته، وهي مساحة معتمة في أحد أزقَّة وسط البلد. الرفيق سامي، مثله مثل رشيد، كان قائداً من قادة المقاومة الفلسطينية في بيروت، وعن طريقه، في مكتب مجلة الجبهة، في بيروت، تعرَّفت إلى رشيد. لكن، وبعد خروج المقاومة من بيروت، مضى كلٌّ منهما في طريق، فمثَّلا ثنائية تضادّ، طرفها الأول رشيد الذي انتظم في خدمة المشروع الاستعماري الغربي، وغدا من كبار الأثرياء، وطرفها الثاني سامي الذي مازال يعلِّق خريطة فلسطين على جدار مكتبته، وتحتها خطَّ بالأسود العريض: «عائدون»، مع رسم لمفتاح قديم يغطِّيه الصدأ، وإلى جوارها صورة لمقاتلين... يقول سامي لها عمَّا آلت إليه حاله: «تخيَّلي مقاوم ومناضل كان يصدر صحفاً ثورية، يكتب فيها أهمُّ المثقفين العرب، يضطر لأن يبيع كتب الفتاوى الشرعية، في الجبانة، وغسل الميت، ومبطلات الوضوء، وروايات عبير، وماذا تفعل في ليلة الدخلة، وأفضل أوضاع الجماع...»(ص. 60). ويقول لها، عندما تسأله عن رشيد:» رشيد كان معدماً، واغتنى خلال فترة قصيرة نسبياً، وبالإضافة لها، أبدى تفهمه لاتفاق أوسلو، وزار رام الله، وكتب مقالات بتشجيع الحلِّ السلمي، وارتبط علناً بمنظمات سياسية وإعلامية وثقافية مشبوهة... ويضيف: راجعي مواقف رشيد وتفاصيل حياته، رح تلاقيه مؤهل جدا لموقع الفريسة...، الفريسة غير البريئة»(ص. 66 و67). وكانت حال المقاوم كمال، رفيق رشيد، الذي قصدته، لتعرف الحقيقة، أسوأ من حال سامي، إذ وجدته في مأوى العجزة» عجوزاً تكاد تتلاشى كل ملامحه، ولم يعد منه سوى كتلة صغيرة متغضِّنه»، بعدما كان مقاتلاً شرساً، جسده ممشوق ومتماسك...(ص165) مفترس وفريسة؟: السؤال الذي يُطرح، هنا، هو: هل كان رشيد فريسة أو مفترساً؟ يبدو أنَّه كان فريسة عندما تخلَّى عن هويته، وفقدها من أجل الثروة ومقتنيات ظنَّ أنَّها تعوِّضه عمَّا فقده، وكان يسأل عندما يتأملها معجباً بها: لمن أتركها عندما أموت؟ وهو هنا فريسة، لأنه اصطيد وانتظم في مشروع الاستعمار الغربي وأداته الكيان الاستيطاني في فلسطين، وهو أحد مفترسي القضية الفلسطينية والمقاومة، إذ عمل في خدمة أعدائها، وإن كانت الأقوال والكتابات قد « افترسته»، بعد موته، فإنَّ من عمل معه، في مركز دراساته، وهو جلال الكرام، قد كشفه، وتبيَّن العلاقة القوية التي تربطه بالسفارات الأجنبية، وقدمت ابنة الكرام هذا ملفَّاً لزوجته يتضمَّن وثائق تثبت تعاونه مع مؤسسات ترتبط بجهات إسرائيلية، ومع «السي آي إيه» وتؤيِّد الكيان الاستيطاني الاستعماري، والسياسات الأميركية في المنطقة، وتناهض أيَّ حراك مقاوم في الضفة الغربية وغزة، أو محرِّض على اتفاق أوسلو (ص. 179 و180). ظاهرة الافتراس: لم يكن رشيد الوحيد الذي انتظم في خدمة ذلك المشروع، وإنَّما فعل ذلك الكثيرون، ما شكَّل ظاهرة عامة في الوطن العربي، مثلتها شخصيات فتحت خط اتصال مع «السي آي أيه» وقدَّمت خدمات لها، مقابل مبالغ مالية تشجيعية ... (راجع: ص127). يبدو واضحاً أنَّ شخصيات هذه الظاهرة اصطادتها مخابرات الاستعمار الغربي، ووظفتها في خدمة مشروعها، فكانت فريسة لها، في الوقت نفسه الذي انتظمت هذه الشخصيات في خدمة مشروع تلك المخابرات، المتمثل في اصطياد مشروع المقاومة و» دقِّ عنقه» فيكون بذلك « الفريسة»، وليس فريسة، والبازار الذي بيعت فيه هذه الفريسة هو السوق الذي فتحته تلك المخابرات لاصطياد أنياب لها يسهمون في اصطياد المقاومة/ الفريسة والمقاومين. النهاية المفتوحة ومسرحية الفريسة: يختلف خطاب هالة لزوجها رشيد، بعد أن عرفت هذه الحقائق، فتقول له، فيما تقول: وكأنَّك، أيضاً، بتَّ فريسة لي، وتفكر في السفر إلى السويد، ثم تشعر بالارتياح، وبالرغبة في الكتابة، فتقرر أن تكتب مسرحية عنوانها» الفريسة «، وتنتهي الرواية بسؤال: هل تمت؟ ما يعني أن النهاية تبقى مفتوحة، والسؤال الذي يطرح هنا هو: من هي، أو ماهي، الفريسة التي ستكتب عنها هالة؟ الإجابة متروكة للقارئ، وإذ يجيب يكون شريكاً في الإبداع. بنية الرواية: تتشكل بنية هذه الرواية، كما قلنا، آنفاً، من خمسة أقسام/ فصول، يبدأ كلٌّ منها بوثيقة تفيد بتعاون رشيد مع المخابرات الأميركية، يليها خطاب الراوية هالة الموجَّه لزوجها، تعبِّر فيه عمَّا تعانيه، ثم يلي السرد، في تناوب بين الحاضر، والماضيين: القريب والبعيد، فيتكسَّر مسار القصِّ، ويتقطَّع بالوصف والتأمُّل والحوار، ما يشكِّل بنية روائية جديدة، تنطق برؤية كاشفةً لواقع القضية المركزية في تاريخ العرب الحديث، وهو واقع معيش وملموس، مثلته هذه الرواية بلغة روائية سهلة عباراتها قصيرة، ومعجمها اللفظي مأخوذ من لغة الحياة اليومية.