ثقافة الاختلاف
شاعر إنسان: عبد الناصر الصاوى
ثقافة الاختلاف ، تلك الثقافة التى نحن فى حاجة ماسة فى تلك الفترة الفارقة من تاريخ مصرنا الحبيبة إلى الحوار ، حيث أن لكل شخص رأي ووجهة نظر خاصة به تختلف من شخص لآخر ، فلو اتفق الناس على كل شيء لما كان هناك حاجة للحوار. فاختلاف الناس تجاه ما يمارسونه أو يرونه، يؤدي لأن يتحاوروا. فمعرفة سبب اختلاف الناس، من حيث المبدأ، يفيد لإدراك أهمية الحوار ومعرفة أسبابه ، كما أن الاختلاف في حقيقته لا يعني الخلاف لأن الاختلاف تعود أسبابه لأننا نبتغي منه الوصول للحقيقة ولأفضل النتائج الممكنة .
إن ثقافة الاختلاف هى المعول لتقدم الشعوب و تحضرها ، حيث أن هذا الإختلاف لا يرفض الآخر بل يجعلنا نستمع إليه و بتحضرٍ ، و ليس معنى أن نستمع إلى الرأى الأخر أنه لابد من تغييره أو التأثير فيه أو إذعانه للتحول عن وجهة نظره ، بل نحترمه ، و نتجادل معه بالتى هى أحسن ،و تلك أخلاق النبى صلى الله عليه و سلم التى علمها إياها سبحانه و تعالى: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ سورة النحل آية ( 125) .
والمتمعن فى أهمية تنمية وتعزيز ثقافة الحوار ومهاراته بسبب مواجهة ما يقع في حياتنا اليومية من سلبيات ومشاحنات يكمن سببها في تخلي أطراف الحوار عن الأسلوب الأمثل في إدارة الحوار وغياب ثقافته بين المتحاورين،ومن المؤكد أن غياب ثقافة الحوار بين أفراد المجتمع ومن خلال المؤسسات التربوية المختلفة يظهر مدى الخلل في العمل وضعف الصلابة والتماسك بين أفراد المجتمع بل أن غياب الحوار هو انعكاس لضعف البنية العلمية والفكرية في المجتمع .
لقد حدد سبحانه وتعالى المنهج السليم للمجادلة بقوله تعالى " وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " فالمجادلة لها عناصرها التى تجعلها ذات قيمة و تحقق الهدف منها تلك المجادلة التى تعتمد على الحجة و البيان.
إن الاختلاف بين البشر حقيقة و اقعة تنبع من إختلاف السن و الصفات الموروثة و الثقافة المكتسبة ، و النوازع الشخصية ، فقد تعادي شخصاً لأنه أساء لك أو اعتدى على حق من حقوقك، وهذا موقف مفهوم مشروع، وقد تعادي شخصاً لأنه ينافسك أو يزاحمك على مصلحة من المصالح أو مكسب من المكاسب، وهو أمر وارد وقابل للنقاش، أما أن تعادي شخصاً لأن له رأياً يخالف رأيك في قضية علمية أو دينية أو سياسية، فذلك موقف لا يقبله الشرع ولا العقل.
والرأي كما في اللغة: هو الاعتقاد، والجمع آراء. أي ما اعتقده الإنسان وارتآه. تقول رأيي كذا ، أي اعتقادي. والاعتقاد والعقيدة: ما عقد عليه القلب والضمير، وما تديّن به الإنسان واعتنقه.
وبذلك فالرأي من شؤون قلب الإنسان، وهو من أخص خواصه الذاتية الشخصية، فلا يحق لأي أحد أن يتدخل في هذا الشأن بالقوة لتغييره ، كما أن التدخل في هذه المنطقة المحرّمة لا يجدي ولا يؤثر، فإذا ما حاولت أي قوة أن تفرض على إنسان رأياً أو تمنعه من رأي، فإنها لن تستطيع إلا إخضاعه ظاهرياً، أما قراره الداخلي، وإيمانه القلبي، فيستعصي على الفرض والإكراه. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينفي إمكانية الإكراه على الدين وينهى عنه يقول تعالى: (لا إكراه في الدين) سورة البقرة الآية 256.
وقال الإمامُ الشافعي : ” ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ”وقال: “ما ناظرت أحداًً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته” فما أبلغ الامام الشافعى فى كلماته و ما أوجزه.
كما ينقل عن قصة العالم الإيطالي (( جاليليو جاليلي 1564-1642م )) والذي اعترضت الكنيسة المسيحية وعلماء اللاهوت على آرائه العلمية حول حركة الأرض وأنها ليست مركز العالم، ولا هي ساكنة، بل تتحرك وتدور يومياً، وأن الشمس هي المركز، واتهم بالهرطقة والخروج عن الدين، وجلبوه إلى روما للمثول أمام محكمة التفتيش، فاعتقل في الحال، ثم استنطق وحقق معه بعد شهرين، وهدد بالتعذيب، ثم أصدرت المحكمة حكمها بأن يعلن (( جاليليو )) التوبة، ويتنكر لآرائه العلمية، فحضر أمام المحفل الكنسي، وركع على ركبتيه وراح يقرأ ما أجبر على قوله، لكنه عند خروجه من المحكمة عقّب قائلاً: (( ومع ذلك فهي تدور )) يقصد الأرض !!.
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى المجال للإنسان في هذه الحياة ليمارس حرية الرأي والمعتقد، فلم يفرض عليه الإيمان به عنوة، بل أنار له طريق الهداية، وترك له حرية الاختيار (إنا هديناه السبيل. إما شاكراً وإما كفورا) سورة الإنسان آيه (2). (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) سورة الكهف (29).
إننا نعترف للآخرين بخصوصيتهم في سائر المجالات، كالأكل والشرب مثلاً، على اعتبار أن هذه الرغبات شأن خاص لا علاقة للآخرين بها، والحال أن الرأي آكد خصوصية، وأشد التصاقاً بنفس الإنسان.
فالإنسان حينما يعادي أحداً لأنه يخالفه في الرأي ، هل يرضى أن يعاديه الآخرون على هذا الأساس؟ إنه لا يقبل أن يسيء إليه أحد لأنه تحمل رأياً معيناً، حيث يعتبر ذلك شأناً خاصاً به، ويعتقد بأحقية رأيه، وعليه أن يعرف أن الآخرين يرون لأنفسهم ما يرى لنفسه.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصيته الخالدة لابنه الحسن (عليهما السلام): " يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظِلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسِن كما تحب أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارضَ من الناس ما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلَّ ما تعلم، ولا تقل مالا تحب أن يقال لك" .
و يبالغ بعض الناس في التعصب لآرائهم، ويفرطون في الثقة بها، بحيث لا يفسحون أي مجال ولا يعطون أي فرصة للرأي الآخر، فهم على الحق المطلق دائماً، وغيرهم على الباطل في كل شيء. وينتج عن هذه الحالة -غالباً- موقف التطرف والحديّة تجاه المخالفين، وحتى في الاختلاف عند بعض القضايا الجزئية، والأمور البسيطة الجانبية.إنه خلق يخالف تعاليم الإسلام الذي يربي أبناءه على الاستماع لمختلف الآراء ومحاكمتها على أساس الدليل والمنطق، لا التعصب والانفعال. وأكثر من ذلك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب المشركين بمنتهى التواضع والموضوعية قائلاً: "وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" سورة سبأ الآية (24). إنه منهج تربوي عظيم، يصوغ شخصية الإنسان على أساس احترام الآخرين، ومركزية العقل والوجدان.
والتعصب المطلق للرأي، والحدية والتشنج تجاه آراء الآخرين، يمنع الإنسان من الانفتاح على الرأي الآخر، واستماعه والاطلاع عليه، وربما كان هو الرأي الصحيح والصائب. ثم أن ذلك قد يجعل الإنسان في موقف حرج مستقبلاً إذ قد يتبين له خطأ رأيه، فكم من إنسان تراجع عن رأيه، وتغيرت قناعاته؟ وتلك حالة طبيعية قد تحصل للإنسان تجاه مختلف المسائل والقضايا.
إن الاعتدال والوسطية هو المنهج السليم، فلا يكون الإنسان متطرفاً ولا متشنجاً حاداً في مواقفه مع الآخرين، وجميل ما قاله الإمام الشافعي: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
إننا حينما نعتقد أحقية رأي معين، ونجد آخرين يخالفون هذا الرأي الحق -في نظرك- فإن عليك قبل أن تتهمهم بالعناد والجحود والمروق، وأن تتخذ منهم موقفاً عدائياً، علينا أن نتفهم ظروفهم وخلفية مواقفهم ، فلعل لديهم أدلة مقنعة على ما يذهبون إليه ، أو لعلهم يجهلون الرأي الحق ؛ لقصور في مداركهم ومعلوماتهم ، أو لعلهم يعيشون ضمن بيئة وأجواء تحجب عنهم الحقائق ، أو لعلّ هناك شبهات تشوّش على أذهانهم وأفكارهم ، وتجاه مثل هذه الاحتمالات فإن المطلوب منا دراسة موقف الطرف الآخر، ومعرفة وجهة نظره، والدخول في حوار موضوعي معه، ومساعدته على الوصول إلى الحقيقة.
وإنك إذا كنت مخلصاً لأفكارك، ومتحمساً لنشرها، واستقطاب الآخرين باتجاهها، فإن الطريق لذلك هو الانفتاح على الآخرين، وخلق جو من الاحترام والودّ معهم. فوجود علاقة لك بهم، وتواصل بينك وبينهم، يتيح لك الفرصة لعرض أفكارك وآرائك عليهم، أما القطيعة والعداء، فإنها تسلب منك هذه الإمكانية، وتفقدك الرغبة والاندفاع في تكرار محاولة التأثير عليهم.
و من ناحية ثانية فإن حالة العداء وما تفرزه من سلوكيات منفرة تحول بين الطرف الآخر وبين الإقبال والاستجابة. فالعاقل الواعي الذي يريد خدمة أفكاره، وأن تشق طريقها إلى قلوب الناس، هو الذي يمتلك سعة الصدر ورحابة الأفق، ولا ينفعل تجاه الرأي المخالف، حتى ولو تعامل معه الآخرون بشكل سيئ، فإنه يمارس أعلى درجات ضبط النفس، والتحكم في الأعصاب، بحيث يقابلهم باللطف والإحسان، فيمتص التشنجات، ويستوعب الاستفزازات. وبهذه المنهجية الأخلاقية ندفعهم لإعادة النظر في موقفهم تجاههنا، ويشجعهم على الانفتاح على أفكارنا، مما قد يغيّر قناعاتهم، ويستقطبهم إلى جانبنا.
إن إختلاف الرأى يعد ظاهرة من الظوهر الطبيعية في حياة البشر، ولا يصح أن تكون سبباً للتعادي والتخاصم، بل ينبغي أن تستثمر لصالح التكامل المعرفة، واكتشاف الحقائق، وإثراء الثقافية. و ان أفضل خدمة نقدمها للرأي الذي نؤمن به، حسن تعاملنا مع الآخرين، حتى نكون بسلوكنا الطيب نوذجاً للفكر والفهم الراقى المستنير ولنكن ذتلك الدعائم سيرة صالحة محايدة نتجنب العداوة و التشدد حيث أنهما آفة قد تسئ إلى التوجه الذى ننتمى إليه أولاً و غلى أنفسنا ثانياً.
شاعر إنسان: عبد الناصر الصاوى
ثقافة الاختلاف ، تلك الثقافة التى نحن فى حاجة ماسة فى تلك الفترة الفارقة من تاريخ مصرنا الحبيبة إلى الحوار ، حيث أن لكل شخص رأي ووجهة نظر خاصة به تختلف من شخص لآخر ، فلو اتفق الناس على كل شيء لما كان هناك حاجة للحوار. فاختلاف الناس تجاه ما يمارسونه أو يرونه، يؤدي لأن يتحاوروا. فمعرفة سبب اختلاف الناس، من حيث المبدأ، يفيد لإدراك أهمية الحوار ومعرفة أسبابه ، كما أن الاختلاف في حقيقته لا يعني الخلاف لأن الاختلاف تعود أسبابه لأننا نبتغي منه الوصول للحقيقة ولأفضل النتائج الممكنة .
إن ثقافة الاختلاف هى المعول لتقدم الشعوب و تحضرها ، حيث أن هذا الإختلاف لا يرفض الآخر بل يجعلنا نستمع إليه و بتحضرٍ ، و ليس معنى أن نستمع إلى الرأى الأخر أنه لابد من تغييره أو التأثير فيه أو إذعانه للتحول عن وجهة نظره ، بل نحترمه ، و نتجادل معه بالتى هى أحسن ،و تلك أخلاق النبى صلى الله عليه و سلم التى علمها إياها سبحانه و تعالى: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ سورة النحل آية ( 125) .
والمتمعن فى أهمية تنمية وتعزيز ثقافة الحوار ومهاراته بسبب مواجهة ما يقع في حياتنا اليومية من سلبيات ومشاحنات يكمن سببها في تخلي أطراف الحوار عن الأسلوب الأمثل في إدارة الحوار وغياب ثقافته بين المتحاورين،ومن المؤكد أن غياب ثقافة الحوار بين أفراد المجتمع ومن خلال المؤسسات التربوية المختلفة يظهر مدى الخلل في العمل وضعف الصلابة والتماسك بين أفراد المجتمع بل أن غياب الحوار هو انعكاس لضعف البنية العلمية والفكرية في المجتمع .
لقد حدد سبحانه وتعالى المنهج السليم للمجادلة بقوله تعالى " وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " فالمجادلة لها عناصرها التى تجعلها ذات قيمة و تحقق الهدف منها تلك المجادلة التى تعتمد على الحجة و البيان.
إن الاختلاف بين البشر حقيقة و اقعة تنبع من إختلاف السن و الصفات الموروثة و الثقافة المكتسبة ، و النوازع الشخصية ، فقد تعادي شخصاً لأنه أساء لك أو اعتدى على حق من حقوقك، وهذا موقف مفهوم مشروع، وقد تعادي شخصاً لأنه ينافسك أو يزاحمك على مصلحة من المصالح أو مكسب من المكاسب، وهو أمر وارد وقابل للنقاش، أما أن تعادي شخصاً لأن له رأياً يخالف رأيك في قضية علمية أو دينية أو سياسية، فذلك موقف لا يقبله الشرع ولا العقل.
والرأي كما في اللغة: هو الاعتقاد، والجمع آراء. أي ما اعتقده الإنسان وارتآه. تقول رأيي كذا ، أي اعتقادي. والاعتقاد والعقيدة: ما عقد عليه القلب والضمير، وما تديّن به الإنسان واعتنقه.
وبذلك فالرأي من شؤون قلب الإنسان، وهو من أخص خواصه الذاتية الشخصية، فلا يحق لأي أحد أن يتدخل في هذا الشأن بالقوة لتغييره ، كما أن التدخل في هذه المنطقة المحرّمة لا يجدي ولا يؤثر، فإذا ما حاولت أي قوة أن تفرض على إنسان رأياً أو تمنعه من رأي، فإنها لن تستطيع إلا إخضاعه ظاهرياً، أما قراره الداخلي، وإيمانه القلبي، فيستعصي على الفرض والإكراه. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينفي إمكانية الإكراه على الدين وينهى عنه يقول تعالى: (لا إكراه في الدين) سورة البقرة الآية 256.
وقال الإمامُ الشافعي : ” ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ”وقال: “ما ناظرت أحداًً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته” فما أبلغ الامام الشافعى فى كلماته و ما أوجزه.
كما ينقل عن قصة العالم الإيطالي (( جاليليو جاليلي 1564-1642م )) والذي اعترضت الكنيسة المسيحية وعلماء اللاهوت على آرائه العلمية حول حركة الأرض وأنها ليست مركز العالم، ولا هي ساكنة، بل تتحرك وتدور يومياً، وأن الشمس هي المركز، واتهم بالهرطقة والخروج عن الدين، وجلبوه إلى روما للمثول أمام محكمة التفتيش، فاعتقل في الحال، ثم استنطق وحقق معه بعد شهرين، وهدد بالتعذيب، ثم أصدرت المحكمة حكمها بأن يعلن (( جاليليو )) التوبة، ويتنكر لآرائه العلمية، فحضر أمام المحفل الكنسي، وركع على ركبتيه وراح يقرأ ما أجبر على قوله، لكنه عند خروجه من المحكمة عقّب قائلاً: (( ومع ذلك فهي تدور )) يقصد الأرض !!.
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى المجال للإنسان في هذه الحياة ليمارس حرية الرأي والمعتقد، فلم يفرض عليه الإيمان به عنوة، بل أنار له طريق الهداية، وترك له حرية الاختيار (إنا هديناه السبيل. إما شاكراً وإما كفورا) سورة الإنسان آيه (2). (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) سورة الكهف (29).
إننا نعترف للآخرين بخصوصيتهم في سائر المجالات، كالأكل والشرب مثلاً، على اعتبار أن هذه الرغبات شأن خاص لا علاقة للآخرين بها، والحال أن الرأي آكد خصوصية، وأشد التصاقاً بنفس الإنسان.
فالإنسان حينما يعادي أحداً لأنه يخالفه في الرأي ، هل يرضى أن يعاديه الآخرون على هذا الأساس؟ إنه لا يقبل أن يسيء إليه أحد لأنه تحمل رأياً معيناً، حيث يعتبر ذلك شأناً خاصاً به، ويعتقد بأحقية رأيه، وعليه أن يعرف أن الآخرين يرون لأنفسهم ما يرى لنفسه.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصيته الخالدة لابنه الحسن (عليهما السلام): " يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظِلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسِن كما تحب أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارضَ من الناس ما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلَّ ما تعلم، ولا تقل مالا تحب أن يقال لك" .
و يبالغ بعض الناس في التعصب لآرائهم، ويفرطون في الثقة بها، بحيث لا يفسحون أي مجال ولا يعطون أي فرصة للرأي الآخر، فهم على الحق المطلق دائماً، وغيرهم على الباطل في كل شيء. وينتج عن هذه الحالة -غالباً- موقف التطرف والحديّة تجاه المخالفين، وحتى في الاختلاف عند بعض القضايا الجزئية، والأمور البسيطة الجانبية.إنه خلق يخالف تعاليم الإسلام الذي يربي أبناءه على الاستماع لمختلف الآراء ومحاكمتها على أساس الدليل والمنطق، لا التعصب والانفعال. وأكثر من ذلك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب المشركين بمنتهى التواضع والموضوعية قائلاً: "وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" سورة سبأ الآية (24). إنه منهج تربوي عظيم، يصوغ شخصية الإنسان على أساس احترام الآخرين، ومركزية العقل والوجدان.
والتعصب المطلق للرأي، والحدية والتشنج تجاه آراء الآخرين، يمنع الإنسان من الانفتاح على الرأي الآخر، واستماعه والاطلاع عليه، وربما كان هو الرأي الصحيح والصائب. ثم أن ذلك قد يجعل الإنسان في موقف حرج مستقبلاً إذ قد يتبين له خطأ رأيه، فكم من إنسان تراجع عن رأيه، وتغيرت قناعاته؟ وتلك حالة طبيعية قد تحصل للإنسان تجاه مختلف المسائل والقضايا.
إن الاعتدال والوسطية هو المنهج السليم، فلا يكون الإنسان متطرفاً ولا متشنجاً حاداً في مواقفه مع الآخرين، وجميل ما قاله الإمام الشافعي: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
إننا حينما نعتقد أحقية رأي معين، ونجد آخرين يخالفون هذا الرأي الحق -في نظرك- فإن عليك قبل أن تتهمهم بالعناد والجحود والمروق، وأن تتخذ منهم موقفاً عدائياً، علينا أن نتفهم ظروفهم وخلفية مواقفهم ، فلعل لديهم أدلة مقنعة على ما يذهبون إليه ، أو لعلهم يجهلون الرأي الحق ؛ لقصور في مداركهم ومعلوماتهم ، أو لعلهم يعيشون ضمن بيئة وأجواء تحجب عنهم الحقائق ، أو لعلّ هناك شبهات تشوّش على أذهانهم وأفكارهم ، وتجاه مثل هذه الاحتمالات فإن المطلوب منا دراسة موقف الطرف الآخر، ومعرفة وجهة نظره، والدخول في حوار موضوعي معه، ومساعدته على الوصول إلى الحقيقة.
وإنك إذا كنت مخلصاً لأفكارك، ومتحمساً لنشرها، واستقطاب الآخرين باتجاهها، فإن الطريق لذلك هو الانفتاح على الآخرين، وخلق جو من الاحترام والودّ معهم. فوجود علاقة لك بهم، وتواصل بينك وبينهم، يتيح لك الفرصة لعرض أفكارك وآرائك عليهم، أما القطيعة والعداء، فإنها تسلب منك هذه الإمكانية، وتفقدك الرغبة والاندفاع في تكرار محاولة التأثير عليهم.
و من ناحية ثانية فإن حالة العداء وما تفرزه من سلوكيات منفرة تحول بين الطرف الآخر وبين الإقبال والاستجابة. فالعاقل الواعي الذي يريد خدمة أفكاره، وأن تشق طريقها إلى قلوب الناس، هو الذي يمتلك سعة الصدر ورحابة الأفق، ولا ينفعل تجاه الرأي المخالف، حتى ولو تعامل معه الآخرون بشكل سيئ، فإنه يمارس أعلى درجات ضبط النفس، والتحكم في الأعصاب، بحيث يقابلهم باللطف والإحسان، فيمتص التشنجات، ويستوعب الاستفزازات. وبهذه المنهجية الأخلاقية ندفعهم لإعادة النظر في موقفهم تجاههنا، ويشجعهم على الانفتاح على أفكارنا، مما قد يغيّر قناعاتهم، ويستقطبهم إلى جانبنا.
إن إختلاف الرأى يعد ظاهرة من الظوهر الطبيعية في حياة البشر، ولا يصح أن تكون سبباً للتعادي والتخاصم، بل ينبغي أن تستثمر لصالح التكامل المعرفة، واكتشاف الحقائق، وإثراء الثقافية. و ان أفضل خدمة نقدمها للرأي الذي نؤمن به، حسن تعاملنا مع الآخرين، حتى نكون بسلوكنا الطيب نوذجاً للفكر والفهم الراقى المستنير ولنكن ذتلك الدعائم سيرة صالحة محايدة نتجنب العداوة و التشدد حيث أنهما آفة قد تسئ إلى التوجه الذى ننتمى إليه أولاً و غلى أنفسنا ثانياً.