تنحاز قصيدة التفعيلة عند الشاعرة الأردنية إيمان عبد الهادي إلى أن تكون ذات مستويين كتابيين أولهما صوفي مرمز والآخر وجداني مستحضر، وتتجسد النزعة الرمزية في مجموعتها الشعرية (فليكن)، (الناشر: وزارة الثقافة، سلسلة إبداعات، عمان ـ الأردن، 2015)، في محورين الأول دلالي أساسه الوجد بمعناه الصوفي وتجلياته الروحية والمحور الآخر صوتي يتمثل في التعاطي الشكلي مع قصيدة التفعيلة عبر الإخلاص للوزن كثيرا والانحياز للقافية أحيانا..
ويتضح من العنوانات التي تضمنتها قصائد المجموعة الميل الواضح صوب المعجم الصوفي بحثا عن الفيض الرمزي الذي يمكن أن يمدَّ القصيدة بمزيد من الغموض في أجواء من الدلالات من قبيل (شهوة /شقوة/جناية/بصيرة/ كينونة /فتنة/رقصة/عتمة/متصوف) 
وهذا ما يجعل المجموعة الشعرية بقصائدها كلها عبارة عن تجليات روحية وتهويمات وجدانية وتطلعات نفسية تتسامى فيها الذات الإنسانية عن أهوائها وملذاتها وموبقاتها لتحلِّق في عالم من النقاء والصفاء وأجواء من الألفة والانتشاء مترفعة على كل ما هو مادي ومؤقت أو آني متحول ومرحلي. 
ولأن في الشعر الخلود فلابد إذن من المداومة الإبداعية القائمة على الهيام النفسي اللامادي والتأمل المتوالي في الموجودات المرئية والمتناظرات الشكلية بلا انقطاع بغية الظفر بالحقيقة التي فيها الجمال المطلق واللانهائي..
وهذا ما طبع النصوص بطوابع رمزية لا تعرف لها حدودا ممتدة في فضاء من الارتقاء القصدي عن الجوانب الحياتية الضيقة صوب الجوانب الكونية الفسيحة, وتستمد الشاعرة من مقولة ابن عربي (من أحبك حيث أنت فقد أحبك) طاقة التدفق الرمزي التي بها تصل إلى درجة الهيام الشعري بالمخفي المتداري، متعاطية المغيب ثيمةً تسبح عبرها في سموات التجلي والتسامي، محلِّقة في ملكوت الإبداع بعيدا عن عالم الموجودات المحسوس.
 وهذا ما مكَّنها من حيازة فرصة الولع باللامرئي المغيب وفي الوقت نفسه اكسبها قدرة على مناغاة عالم المعاني المجرد من كل ما هو حسي معتاد. 
وهي إذ تمسك الكلام من تلابيبه لتطوعه في خدمتها فإنها تنتقي الأفعال ذات التحول والصيرورة كما تستدعي الألفاظ الشفافة والرقيقة لتجعل الكلام باديا وكأنه كرم عاطفي يفتح أمام مخيلة القارئ فرص الانعتاق من الواقع بكل منغصاته والعيش في أجواء من الوجد الذي تسايره تارة وتعاتبه أخرى وكل ذلك مصوغ في أشكال قولية ذات ابعاد متجددة وتفاعلية.  
وهي إذ تسير على وفق المذهب الرمزي مخلصة له كل الإخلاص طارحة الواقعية جانبا ومتنكرة للرومانسية تماما؛ فإنها بالمقابل تترك لروحها أن تلج عوالم التجريد والسمو سامحة لنفسها أن تندلق في خضم ألغاز كلامية شفيفة وأجواء هلامية بديعة بلا مغالاة أو غلو وبما لا يعكر صفو التفاعل والتوصيل ولا يسمح أيضا بالتوغل في ما هو ملغز أو فوضوي، خشية أن تنزاح النصوص عن خط التوصيل الشعري الذي قد لا يتحقق إلا بالمحافظة على مسافة مناسبة من التلاقي بين المخيلة الشعرية والذائقة القرائية وإلا فإن الشعر سيغدو لوحات سوريالية متقاطعة ومفككة لا منطقية..
 وهذا ما تجنبته الشاعرة فظلت حريصة على إدراج نصوصها في خانة المراوحة في منطقة الهيام الصوفي برمزية قائمة على الترتيب لا الفوضى والتناسق لا التخبط والمنطق لا التشتت، ملتزمة الطرح الموضوعي البعيد عن تدخل النزعة الفلسفية التي تحيله إلى قوالب بلا روح كما لا تحبذ التعامل بالمنطق البراغماتي الذي يرى الأشياء جامدة لا روح فيها ولا حياة. 
ولأن بغية الذات الترميز وليس ما فوق الترميز لذلك فإنها تخلص الانتماء للمذهب الرمزي محافظة على خط ذي نزعة تأملية فتعطي مثلا في قصيدة التفعيلة (حرج إضافي) مساحة كبيرة للتجليات الصوفية فتكثر فيها الاسترسالات الروحية وتتوالى الانثيالات العرفانية في عالم من المثال والحلم:
يا غوث يا الله؛ بي حرج من الكلمات 
اعلم أنها ضد الذي في الروح
اعلم أنها ستخون قلبي  
وهي إذ تنادي (يا غوث الله) فإنها تشعر أن ذاتها تنقسم إلى جزأين هما الروح والقلب. وإذ يغالب كل واحد منهما الآخر، فإن إحساسا ذاتيا بالرغبة في التحلي بالصبر لبلوغ اليقين تعكسه السطور الشعرية المتوالية بثنائية الظلام/الضوء (اظلم بي اليقين/ توسلت في غربة الظن/ تطلع من غاية الضوء/ يهشمني في التوله)
 وهذا الصبر لن تبلغه إلا بعد أن يراودها الشك، فتتحسس شحة نفس تتوق إلى الخروج من جبٍ، حُكم عليها أن تقبع فيه، بلا باب ولا عتبات ولذلك تتوسل إلى الظن عله يمنحها شعاعا من الألق يخرجها من الاغتراب والتيه أو لعله يكون شمسا تجعل ذاتها أكثر جلاء وشفافية!
 فتتهادى سطور القصيدة محاولة قلب الجسد إلى كيان رمزي يغالب الروح ويتحداها ومن ثم لا تجد الذات الشاعرة بدءا من الصبر: 
اتقي العتبات بالنزر اليسير من الوقوف 
أهش بالصبر الجميل على تراتيلي وحبي   
وما هذا الشعور إلا بسبب التأرجح بين منطقتي الحضور والغياب حيث الحاضر جسد متغرب متجهم فوضوي والغياب روح مشعة سرمدية..ولهذا يكون مطمح الذات هو التجلي حسب. وتختتم القصيدة بالتساؤل:
فكيف سأغفو؟
وقد لونتني العطايا 
وأصبحت حتف الشظايا:
جليا  
وهذا الاختتام يدفع بالقصيدة إلى أن تعود قافلة إلى عنوانها (حرج إضافي) مسببة للذات حرجا تدعمه الحيرة التي عكستها الومضة الشعرية التي تقدمت نصوص المجموعة وعنوانها( من حيث أنت) التي اتخذت منها عتبة للولوج مستمدة من عبارة ابن عربي فيضا شاعريا اختزلته في شكل مفتاح شعري يتيح للذات أن تبحث عن فضاء للتنسك والسمو وهي حائرة في شكل هذا الفضاء أين يتجلى أو كيف يتولى؟ 
وتغدو قصيدة الومضة (في شهوة الإهداء) قصة قصيرة جدا بطلها طائر يرقد على عش وقد ترك لنفسه البوح بان حاجتها للقش قد انتفت حين طالها الشعور الروحي بالتسامي عن كل ما هو مادي شهواني، ويتبع هذه الومضة نص (في شقوة الإهداء) وهو قريب من العنوان الأول، لكنه بعيد في موضوعه كونه يزخر بتضادات الذات المغتربة ما بين واقع تجسده ذوات قريبة( أمي/ أبي/احمد/محمد) وحلم أثير يجسده مخيال شعري تعيش في ظله الذات بسلام وسعادة وهناء، وتتحول تضادات الروح والجسد إلى شهوة على الصعيد الدلالي (المتن/المهمش) فالجسد مهمش والروح متن والجسد أصابع واليد قامة والجسد بعد والروح دنو ، والذات تتساءل عن كينونتها أهي ظل أم تجل حلم أم حقيقة؟!!.
 ويتعالى صوت الأنا في مقابل خفوت صوت الخطاب الذي سيعود للتصاعد تدريجيا بعد أن تكون الذات قد عجزت عن مداراة حيرتها فتقرر الارتكان إلى الآخر الذي هو الشعر لتختتم به القصيدة مخاطبة إياه :
وقد كنت سرا جليلا
كجب 
جليلا جليلا
وتيها دليلا 
وخصما كذئب الحكاية لم يقترب من خيال نبي
سلام على موتك الحاسم
سلام إلى الموعد القادم   
وتعاود الأضداد في قصيدة (غراب صوفي) بالاجتماع من جديد ما بين واقع منحدر وحلم مقبل وتأتي التناصات مع بيت لزهير بن أبي سلمى وقصة قابيل وهابيل لتعزز ذلك التضاد فالموت حلول وقابيل يذبح بأناقة خنجر مذهل وهابيل غياب بلاد وهو أيضا إياب بلاد  
وتتجسد في قصيدة التفعيلة (جناية) المهداة إلى المعري مسألة تضاد الحواس وتراسلها عبر حاستين الأولى حاسة البصر والمحصلة من جراء ذلك أن النقاء سيفصل ما هو أرضي( العشب) عما هو سماوي ( التسابيح) إلا إن الجناية أن الذات تركت القصيدة تمضي لحالها بلا توجيه روحي. 
وتتجلى نزعة الاحتجاج والشجب في قصيدة( بصيرة) ناقمة عبرها على كل مظاهر الواقع المعاصر الذي امتلأ بالمرارة والجوع والاستغلال والاستعباد والحرب والموت 
ثم تأخذ القصيدة منحى دراميا فتكثر فيها أفعال الاستمرار بأكثر من عشرين فعلا مضارعا تعكس مشاهد الواقع الضجر المليء بالسواد والظلام ثم يتحول الشجب إلى معاتبة الضمير الإنساني ، وترتفع درجة الحنق والضجر داخل القصيدة دافعة بالذات إلى الاحتجاج على نفسها فتتعانق لديها ثنائيات الزفير /شهيق والصبح/الظلام ولبن/ كفن 
وحمل الجزء الثاني من المجموعة موضع الرصد عنوان(ما يضاء بها) والذي ينفتح على ابتكار شكلي يمازج العمود بالتفعيلة بقصد موضوعي هو مخاتلة الجسد باتجاه البوح ويتبع الومضة مباشرة متن شعري بعنوان(المثيل) هو عبارة عن تجريب شكلي ذي جزأين:الجزء الأول قصيدة عمودية والجزء الثاني قصيدة تفعيلة وأنَّ الذي جمع الشكلين بوحدة موضوعية وترابط عضوي هو الهيام الصوفي الموشح بالإشراق بالتعابير الصوفية التي تتواتر داخل النص بشكل منساب وعفوي كما اسهم اعتماد قافية السين في رفع درجة الهيام كهمس يكثّف أجواء التجلي ويزيد الإشراق إفصاحا وإبانة :
شفّت تخايل موجها في الكأس    ظمأ أناظر غفلة الحراس 
ظمأ به الرؤيا حدوس مجرة     وبموته تعويذة الأعراس  
أما اللغة ففضاء من الصمت الشفاف بألغاز عشق متوارٍ، تهب العطاء والنوال للجميع ويشاطرها الحلاج هذا الوجد الصوفي والحلاج هو الذي أدرك أن مباهج الوصل ستمكن من بلوغ الطريق للصبح الذي به العرفان باتجاه الحقيقة
 ويتخذ نص( الحديقة فستانها) شكل أقصوصة تحكي توشيحة وجد هائم بالوجود أرضا وسماء وبشكل كتابي مبتكر له تصدير ومتن وهامش وقفلة وهذا تجريب آخر يندرج في إطار الميل القصدي للذات في اتخاذ الرمزية مذهبا شعريا ليغدو صوت الأنا حاضرا كنسق مهيمن على المضمار الفكري باحثا عن الجمال بألفاظ( الزهرـ الشمس ـ الندى ـ الورود ـ العشب ـ الأشجار) 
وتتعالى نزعة المناجاة والصلاة حتى تصبح الطبيعة منافسا للأنا في إثبات جذوة الجمال ولظى العشق. ويتشكل نص( للتو) كحوارية شعرية بين صوت الأنا/ المذكر وصوت الخطاب/المؤنث والهدف توكيد أن المؤنث هو الأصل شمسا وجنة وبدايات وامرأة 
وتتشكل قصيدة التفعيلة (جارتي الطيبة) في صورة انكسار اليقين في الظن متناصا مع الآية القرآنية الكريمة( إن بعض الظن إثم)  حيث الذات باحثة عن النور متوجسة منه وفي الوقت نفسه لائذة به، لعلها تخرج من العتمة وتغادر الظلام باتجاه الصيرورة والتكون
ويراهن الجزء الثالث الذي حمل عنوان(في وضح الكينونة) على  توكيد ما تقدم في الجزأين السابقين من ناحية التمادي في الرمزية وتعالي النزعة الصوفية مع تخطي حاجز الخوف في التعبير عن الوجد والهيام عبر التناصات القرآنية والتاريخية مختارة شكل قصيدة التفعيلة في نصوص( فتنة/ تركتُ الحصان وحيدا/ الرقصة/ الباص) 
فتتناص قصيدة( فتنة) مع قصة يوسف عليه السلام بمفردات(الجب والذئب والقميص)، وتتقنع الشاعرة في قصيدة التفعيلة (تركتُ الحصان وحيدا) بقناع عقبة بن نافع عبر تناص تاريخي فتجعله تارة كفارس حرب وأخرى كفارس نص وأن لكليهما حصان حارس وقلب حاجب ومع مرور ألف عام على عهد الفتح والغزوات إلا إن النزف ما زال مستمرا وشحذ السيف سيظل قائما وقد اتاح تلبس صوت الانا بالفارس ان تتقنع بالرمزية بغية المكاشفة والتعبير:
مضى ألف عام على آخر النص 
ها نحن عدنا ، ثلاثتنا
أنت وحدك 
وحدي أنا 
والقصيدة 
من ألف عام ونيف
ومن ألف عام وتنزف 
ومن ألف عام اجر المحيط وأبيضك المتوسط 
اشحذ سيفي لموعدك الأموي  
وتستدعي قصيدة التفعيلة (الرقصة) زوربا اليوناني لعلها تنتج لغة شعرية ذات شكل جديد يمنحها ربح الكلام وخسارة اللاكلام ضمن معادلة لغوية بلاغية ولكن في الختام سينتصر اللحن /الوتر مقابل أن تصبح القصيدة نفسها لقمته السائغة ..
وبدلا من أن تجعل العنوان افتتاحا وعتبة للمتن الشعري فإنها تجعله داخلا في متن المادة المعنونة لتنزاح عن تقليدية البناء الشكلي وذلك في قصيدة التفعيلة المطولة (الباص)   
ويكّمل الجزء الرابع الذي جاء تحت عنوان( يخيل في عتمتي) ما قدمه الجزء الثالث ويضم هذا الجزء قصائد التفعيلة ( عتمة لدنية/ ألم يقل المتصوف/ أنا عتمتي1 / أنا عتميمي2) 
وتمتاز قصائد التفعيلة الثلاث الأولى بتنويعات شكلية تقوم على جعل القصيدة الأولى ومضة شعرية بعنوان(عتمة لدنية)  في حين اتخذت القصيدتان التفعيليتان (ألم يقل المتصوف) ( أنا عتمتي 1 و2) شكل قصيدة مطولة هيمن في الأولى ضمير المتكلمين كتداع شعوري جمعي لهيام روحي عام يبحث عن الوضوح والظهور اللذين تجسدهما الحقيقة.
 وأما القصيدة الثانية فهيمن عليها صوت الخطاب الذي غالب صوت المتكلم برمزية وجودية ذات نزوع صوفي ومظهرية وجدانية تنساح على خفاء ومداراة، متوارية في سكرة العشق وروعة الهيام..
 ولم يكن متاحا للغة إلا أن تنزاح عن أداء وظيفتها في التوصيل من التقرير والمباشرة إلى الإلماح والإيحاء، أما الزمن فيظل معطلا عن أداء دوره غير قادر على إعطاء الأشياء حقيقتها أو منحها وجوديتها المادية فلا يكون أمام الذات بد من الانتظار والإرجاء والتأجيل لعلها تظفر بضياء الحقيقة متحررة من عتمة الزيف:
أنا عتمتي 
لا أريد انتظارا لما لسته يا انأي 
سأصبحني حين يأتي الصباح
 وحين يليل في العروج 
 سأسري إلى عتمتي وأعود  
وبذلك تشتق الشاعرة إيمان عبد الهادي مادة شعرها من وجل ذاتي ونزوع داخلي أساسه هيام روحي بعالم مجرد حيث الروح طائر يحلق في آفاق رحبة من الحقيقة بامتداداتها السرمدية وضياءاتها الأبدية بعيدا عن السريان في متاهات واقع محسوس بغوائله ومعتم بموبقاته ليكون في هذا التجلي الروحي تقاطع عدمي للذات مع الوجود قلبا وجسدا.