أنيقة حررت شعرها الأسود الحالك والطويل من ذلك الرباط، ووضعت القليل من المساحيق التي اعتادت والدتها أن تضع منها على وجنتيها، وقفت أمام المرآة تميل يمينا وشمالا كعارضة تتدرب لتظهر أحلى ما لديها من أناقة؛ ثم استسلمت لخطوات رشيقة أدركت أنها تتناسب وانسياب شعرها وانسجام قوامها الذي برز من خلال هذا اللباس البسيط الذي وهبها تلك الثقة التي طالما تمنت أن يمنحها إياها من حولها.
استمرت ملك في مشيتها وهي تحاول أن تبحث عما يضيف لها ما يلفت النظر إليها، فرأت أن الابتسامة هي أفضل ما لديها علّها تضفي مسحة التفاؤل والطمأنينة على محيّاها ؛ نظرت حولها لترى إن كان هناك من يسترق النظر إليها ويهتم بوجودها، إلا أن التفاتتها للوراء كانت رمزية، فما كان يعنيها حقيقة استمتاعها بذلك الشعور الجميل بأنوثتها الذي لم تكن لتجرؤ بالإفصاح عنه وهي في البيت، فالعيب والحرام هما عملة كل من اختار أن يكون وصيّا عليها إلى جانب والدتها.
رائحة الياسمين العطرة أوقفتها في ذلك الشارع الذي اختارت المرور منه، ومدت يدها لتقطف من زهرات شجرة ترمي بأغصانها على سور بيت ما وتمتمت بعبارات وكأنها تحدّثها عن حب دفين لم تعشه بعد ولكنها تشنّفها نغماته...فمن ذلك الذي سيحظى بقلبها ويحافظ عليه دون أن يخدشه.
ابتسمت ملك لتلك الفكرة العابرة واحمرّت وجنتاها خجلا وكأن المشهد قد اكتمل، وغاب الجميع ليحضر فتى أغدقها بنظرات كستها حبّا ومشاعر كادت أن تطير لانسيابها من عباراته الرقيقة المنتقية،،،رغم غياب ملامح مقتحم عالمها.
كل من يحيط بـ"ملك" يحبها ويدللها ويوفر لها أسباب الراحة ويغدقها بالنصائح لتسير على درب الصواب فوجدت نفسها حبيسة إطار دون ألوان بل ذات اللون الواحد ولا حتى انعراجات في خطوط رسمها، حان الأوان لتحدث تغييرا يضفي على حياتها حركة مختلفة بعيدة عن الرتابة، لذلك قررت أن تخلق عالما خاصا بها تجده في ذلك الجو الذي يدغدغ مشاعرها ويحرّرها من كل قيد فرضته عليها طاعتها لكل ما كان يبدو سليما، سويا حين ينطق بمواعظ الكتب كلها.
أرادت لمرّة أن تختبر نفسها فيما يبدو مختلفا؛ واختارت أن تطلق العنان لها قليلا وكأنها كرهت أو ربما ملّت ذلك الثوب النمطي فارتدت ثوبا زاهيا بوُريداته الصغيرة والمتداخلة.
خلقت للفستان روحا تناجيها وأبعدتها عن صمتها الأخرس وكأنها حررتها من تلك القيود المبهمة وبات كعصا سحرية تضعها في عالم منفصل تماما عن عالم الواقع ومحررا حتى من تلك القيود التي قبلت بوجودها دون أي اعتراض.
تساءلت:" فيما صمتُها أمام من تحبّهم ولما رضوخُها لكل هذا، ألا تبدو الحياة شيّقة في اختلافها وحركتها؟"
لم تنتبه أنها وقفتها طالت عند تلك الشجرة وأن محاورتها لأزهارها، وانسجامها مع من شاركها حلمها الوجيز، لفتت أنظار أصحابه الذي تفرّغوا لمراقبتها عن بعد؛ حين أحست بوجودهم، وعلى غير عادتها، رفعت يدها لتحييهم كما تفعل الفتيات الأنيقات، ورأت أن تتعجل بعدها في خطواتها لتعود لنفسها وتلتزم أرض ثباتها بخطواتها الأنيقة وتعود إلى المنزل قبل أن يدركها الظلام حيث تتوقع استقبالا مميّزا من أفراد أسرتها.
لجأت لغرفتها على عجل حيث انفردت بنفسها، نزعت الفستان وحضنته برقة وكأنها ترجوه أن يحفظ سرّها، ثم رفعته بلطف لتخبئه في الخزانة وجلست على حافة الفراش مبتسمة وكأن صورة مبهجة ارتسمت في مخيلتها وربما فسحة أخرى باتت في الحسبان؛ ولم لا إن كانت لتكشف لها عن "ملك" ترغب في التعايش معها وأن كان الأمر هو طي الكتمان.