اشتراها لها والدها من زمن لا تذكره إلا بتلك الروح التي جعلت منها رفيقتها وصديقتها الوحيدة في فترات حاجتها لها.

حين تجد تلك الفتاة الصغيرة براء نفسها وحيدة أو تختار أن تكون كذلك، تجلب دميتها وتجلس بمعيتها تحت شجرة التوت المُـتألّقة شامخة الأغصان أو شجرة التين الهرمة، فالفترات التي تجمع بينها وبين التي لم تشأ منحها اسما، تجعل هذه الرفقة المفضّلة تمر ّبمُعظم مراحل عمرها دون حواجز تُـذكر، هكذا أرادت لها براء؛ هي تلك الرضيعة التي تُـغدق عليها حنان الأُمومة فتُغيّر لها ملابسها وتمشّط شعرها وتعطّره وتحضنها وتضمُّها لصدرها لتُـرضعها، وفجأة يتحول الحوار بينهما، فتغيب الرضيعة وتحضر طفلة بدلا منها وتقوم براء بتأنيبها على تناولها قطعة الكعك التي سقطت من يدها على الأرض لتحاول التهامها في غفلة منها...يا إلهي، يبدو أن أمر الأمومة صعبا!!

حين يسبح خيال بــراء لبرهة أطول، تقفز ُمُجدّداً من مرحلة لأُخرى فتحدّثها كرفيقة ندّلها عن مدى تعلقها الشديد بوالدها وكل ما يخالج صدرها من أحاسيس متدفقة تجاهه لا تدرك كل أسبابها وكيف أن مرور يده على شعرها تدخلها في تلك الهالة من مشاعر الحنان، وسرعان ما تعود لنفسها وكأن شعورا غريبا يسيطر عليها فتعود لملاغاة الدمية الرضيع، فتعيدها لمضجعها وتغادر نحو مجلس الأسرة لتلاعب إخوتها أو تشاركهم ألعابهم؛ هكذا يبدو تواتر العلاقة بين براء ودميتها أو رفيقتها الروحية.
وفي أحيان كثيرة تمر أيام دون العودة إلى الدمية الرفيقة، وما إن تتواصل من جديد معها حتى تراها في انسجام تام وتواصل معها ما بدأت الحديث عنه قبل فترة، ترغب دائما إخبارها عن أخواتها اللواتي تزوجن وغادرن البيت بأمل أن تكون مدللة والدها لكونها أصبحت الوحيدة من بين إخوتها الذكور.
براء فتاة حساسة للغاية، لم تكن لتطلب من والديها اهتماما وما كانت تستخدم أساليب معظم الأطفال لجلب اهتمامهم، كان الصمت والترقب سمتها الدائمة حتى أن شقيقتها الكبرى ذكرت لها ذات مرة أنها لم يسجل في ذاكرتها حضور لها وأنها كانت طفلة في غاية الهدوء".
لـبراء لمساتها الرقيقة في تقديم ما ينبغي تقديمه لوالديها من عناية عاطفية، فقد كانت تصر على تحضير مكان جلوس والدها الثابت بعناية وتنظف منفضة سجائره النحاسية بالرمل والليمون حتى تعود للونها الذهبي لتضعها في مكانها المعتاد، وكلما خلدت والدتها للنوم بعد الظهر للراحة تحرص على جلب غطاء قطني لتضعه عليها حتى لا تبرد، ...وفي كل مرة تنتظر أن تضمها إليها وتنام بجوارها، إلا أن حالة تعب هذه الأخيرة تجعلها تغط في النوم بسرعة، فلا تحظى براء بتلك  الفرصة!!
براء في حوار دائم مع نفسها حتى وهي تجالس دميتها، وكأنها تخفي عنها أمرا لا تريد التحدث فيه حتى مع نفسها ألا وهو ذلك الشعور الغريب بالخوف من أمر تجهله، ولا يخرجها منه إلا البحث عن إخوتها للعب معهم، واقتباس عرض مسرحي تشترك معهم في وضع الفكرة لتصبح المسرحية جاهزة لتتوزع بعدها فيها الأدوار ليكون دورها صورة لما يكمن في داخلها، فترى عواطفها جياشة كأخت كبرى ترغب في رعاية إخوتها لانشغال والدتها بزخم الحياة وحجم الأسرة وكثرة زوار البيت أو تلك الأم الحنونة، أو تلك المعلمة الحريصة على إفادة تلاميذها، فتتقمص دور الصارمة ...وقد حملت بيدها مسطرة العقاب...

هي تذكر دائما دموع شقيقها محمود حين كان يتقمص دور السارق المحبوس وضحك الجميع على ردة فعله لانسجامه مع الدور أو بالأحرى لتخوفه من فكرة أن يكون في نظر الآخرين سارقا حقيقيا، فركضت نحوه لتضمه وتمسح دموعه وتصدر أمرا بالإفراج عنه بحجة أن رئيس الشرطة قد توصل إلى أن المذنب الحقيقي قد فر خارج البلاد وأن محمودا غير مذنب، فتؤدي الضجة منا إلى احتجاج باقي "الممثلين" لتغيير مجرى الأحداث فتلغى المسرحية أو يتغير موضوعها بعد جدال مضحك للغاية.
ذات صباح، بعد أن غسلت وجهها بالماء والصابون، أخذت براء البشكير لتجفف وجنتيها بلطف كعادتها، لمحت تلك الدمعة تسيل من عين واحدة لحقتها شهقة...اغتسلت مجددا وكثّفت رغوة الصابون ...أطالت في فركه ....بحركة دائرية وعادت لتجفف كل وجهها لكن بحركة يدين مرتجفتين،،،، انهمرت دموعها وامتثل وجهها لرصانة ثم لحزن غطى تقاطيعه الصغيرة ومحو تورّده،،،تسارعت دقّات قلبها ونطقت بما كان يتحشرج في حنجرتها ولا يتسع لصدرها الصغير من مزيج بُكاء اختلطت بها عبارات "أبي...لماذا...وضعوك في صندوق طويل؟ أبي...أريد أن تتركه وتعود؛ وضعت لعبتي في صندوقها...أما أنت لست لعبة...عُـــد، ظنوا أنك لعبة...أنت أبي...قل لهم ذلك، دافع عن نفسك...سأنتظر دميتي ....سأحدثها أنك تحبني ...أنك برعت في مداعبتي ...قلت لي أنه حان وقت الدلال ...لما تركت شجرة ياسمين اعتادت على لمسة أناملك....قلت  لوالدتي أنك ستقلّم شجرة اللوز المرّ لتعطينا ثمرة بنكهة العسل...تراك نسيت وعدك لها...لي...,و...؟؟؟
قررت بــراء أن تجلب دميتها، مسحت دموعها واقتربت من الصندوق الذي خبّأته لفترة تحت فراش والديها، وتناولت من درج خزانة ألعابها مشطا صغيرا وقطعة القماش القطنية وتوجهت للمغسلة...بللت القطعة ومسحت وجه وأطراف الدمية...مشطت شعرها،  واقترحت عليها فسحة في حديقة المنزل، واقتربت من غرسة صغيرة:" أنا من زرعت هذا...وقال لي أن أسقيها كل ثلاثة أيام بعد غروب الشمس...حين تنمو الغرسة ستطعمنا تفاحا طيبا...فلا تنسي أن تذكريني بمهمتي  حتى نأكل من ثمارها...أتعرفين ما يعجبني فيك أنك مثل شقيقة لي...تفرحين حين أعود إليك ولا تغضبي مني...ولا تلوميني مثلما تلوم جدتي والدتي حين تغيب عنها لفترة طويلة ...وأنا أحبك كثيرا...