والديوان الذي أشير إليه ضم قصيدة واحدة بالعنوان نفسه.
حين قرأت هذه القصيدة - الديوان، في خريف العام الماضي، وكما هي عادتي حين أدخل في حوار جاد مع ما أقرأ، أتداخل مع النص من خلال ملاحظات أكتبها على هوامش صفحات الكتاب الذي أقرا أو على ورقة منفردة، وهذا ما كان مع قصيدة - ديوان «القصيدة.. من خطايا اللغة»، إذ توقفت غير مرة عند منعطفات النص، أكتب ملاحظة أو أضع إشارة او أقترح سؤالاً، وحين اطّلَعَ مؤخراً على ملاحظاتي صديقٌ أكاديمي، اقترح عليَّ جمعها في مقالة، فاستجبت، وما سيرد في ما أكتب، هي ملاحظاتي التي كتبتها من قبل على صفحات القصيدة - الديوان، أضفت إليها ما أضفت وتجاوزت منها ما تجاوزت.
لا أقول إن ما أقدم عليه الشاعر مصطفى الشليح في عمله الشعري «القصيدة.. من خطايا اللغة» كان محض مغامرة، فالإبداع، كل محاولات الإبداع، من قبيل المغامرة، ومغامرة الشليح في نصّه هذا تجربة توفّرت على مقومات أن تكون، ليس لأنه يمتلك وعي الكتابة الشعرية وأدواتها، كما ظهر ذلك في نصّه، وإنما كان العارف بأسرار القصيدة التي لا تدرك، حيث تكون كما الشجرة، فالبذرة والأرض والماء والشمس والفلاّح من مقومات أن تكون الشجرة، وليس من تناقض بين أن يكون عارفاً بأسرار القصيدة وبين أن تكون هذه الأسرار خارج محيط الإدراك، فإذا عدنا إلى مثال الشجرة، وجدنا إن البذرة غير الأخرى وإن كانتا من شجرة واحدة ومن ثمرة واحدة، والأرض غير الأرض في الحقل الواحد، وكذلك الماء والشمس، ولا يشبه الفلاح الفلاحَ، ولن يعدل الفلاح الواحد بين أشجار حقله.
إن العارف بأسرار القصيدة، لن يتحكم بها، ولن يقدر أن يتحرر تماماً من أن تتحكم به، والمبدع، متى تحكّم بها، صار ناسخاً، كم يكرر لوحة رسمها، حتى إن كانت «جيكوندا» أو «غورنيكا»، فإن تحرر تماماً من أحكامها انتهى الإبداع إلى أن يكون مضيَّعاً، ليس خارج الزمان أو خارج المكان، وإنما في جغرافية منسية، بلا ذاكرة ولا ردود أفعال.
إن الإبداع الحقيقي ليس هو الذي أقام جسوراً مع الماضي فحسب، بل هو الذي يتمثَّل الحاضر ويقيم جسوراً مع المستقبل، ويتأكد لي يوماً بعد آخر إن المبدعين الكبار في كل فن وفي كل جنس من أجناس الكتابة، هم الأكثر تمثُّلاً للماضي والحاضر، فإذا احتكمنا إلى تجارب الماضي، استطعنا القول إن هؤلاء هم الذين أقاموا جسور الحاضر مع الآتي، ويمر هذا التمثل عبر مختبرين، عام-اجتماعي وخاص-ذاتي، ولو حاولنا تشخيص هذه الفكرة، لكان بإمكاننا أن نراها في عدد من التجارب الإبداعية في فنون القول والتشكيل والموسيقى، وعلى سبيل الأمثلة، في أبي نواس والمتنبي وبابلو نيرودا والسياب، في الجاحظ وأبي حيان وديستيفسكي ونجيب محفوظ، في غويا وبيكاسو وماتيس وجواد سليم، في سيد درويش والسنباطي والأخوين رحباني.
إن ما قادني إلى هذا التقديم، هو ما حاوله الشليح في نصّه هذا الذي يتسم بما يمكن أن نعده انضباطاً في الشكل الخارجي، يتسع لانفتاح إبداعي، وبين النقيضين، الانضباط والانفتاح، اختار موضوع نصّه «القصيدة» التي بقدر ما تحتمل من سعة قول وتعدد رؤى وكثرة تنوع، تبقى محاصرة بموضوعها، وفي هذا الاشتباك بين الموضوع وآفاقه، بين القصيدة وأمدائها، كان لا بد له من التنقيب في أرض الكتابة الشعرية، فكيف تأتّى له مثل هذا التنقيب، ومن ثم كيف انتهى منه، إلى هذا النص «القصيدة.. من خطايا اللغة» الجميل والعميق والمركب.. والشعري؟
إن النص الشعري المركب، هو الذي تتوحد في بنيته الشعرية، جملة البنى الجمالية، ليس في شكل طبقات أو كتل، يمكن وضع حدود بينها، بل هي الوحدة الداخلية لهذه البنى الجمالية، وهي التي تحقق الشعري.
إن الشاعر لم يترك نصّه الشعري الطويل ينفلت بعيداً عن ضوابط الإيقاع، ولم يتوهّم له إيقاعاً، ويصر على تعميم وهمه على الآخر، فوحّد بين بنيتين، لغوية وإيقاعية، فكان حضور موسيقى الشعر من داخل النص، لا التفعيلة العروضية من خارجه، كما لم تغب القافية عن النص، وكان حضورها جمالياً، يغني البنيتين اللغوية والإيقاعية في آن، ولم يثقل على بنية النص الشعرية لأنها جاءت من دون افتعال، وهذا ما ظهر في تعدد القوافي وتنوع حروف الروي.
إن الإقدام على كتابة نص شعري، كالذي نحن بصدده، لا بد أن يعتمد تخطيطاً دقيقاً ويصدر عن تأمل عميق، وأن يتوفر للشاعر ما يتوفر للصانع الماهر، فإن أي اختلال في ما أشرنا إليه من مقومات، يُفقد النص وحدته وسحره الجمالي معاً.
ومما يلفت النظر في النص، ما تمثَّل من قديم الشعر وجديده، فكان في تناصات كثيرة معه، وتعددت مجالات التمثُّل، لتشمل تقنيات بنائية وإيقاعية، في عملية تنقيب في أرض الكتابة الشعرية، غير أن التناصات لم تتحوّل إلى رقع في قماش النص وكان الشاعر وهو يلاحق -القصيدة- سواء في التناصات أو في غيرها، «تتمادى وجوه اللغة في حكايتها» و»يقبس طيش الأزقة.. حتى هذاء الأقاصي»، فلا يتركها في جميع تحولاتها ومتغيراتها وجموحها، «لأن القصيدة ذاك المهبّ من الريح لا يستقر».
وهو في هذا الطراد، أفاد من التكرار، بل كان جريئاً في إفادته منه، خصوصاً في تكرار مفردة «القصيدة»، كما اضطر إلى مد النص من خارجه، مستعيراً في هذا المد -التطويل-، تقاليد توالي البيت الشعري في القصائد الطوال، فتوالت المقاطع فيه، كتوالي الأبيات في القصيدة العربية.
نقلا عن الرأي